ندوة بتونس لتكريم روجيه غارودي
مداخلة المؤرخ الهادي التيمومي تمحورت حول عقلانية روجيه غارودي الذي نقد الفكر الغربي نقدا ديكارتيا، وفضح الصهيونية فضحا علميا، قبل أن يلتفت إلى الإسلام الذي اعتنقه ليقدم قراءة تقدمية للإسلام.
وكان غارودي قد نادى بأن يقبل المسلمون بالدولة المدنية ومراجعة بعض المعاملات التي تدعي بعض الجهات أنها مستلهمة من الإسلام، فندد به هؤلاء الذين هللوا لإسلامه ولمواقفه المعادية للغرب، ووصل ببعض المتطرفين إلى الدعوة لختانه وهو في الثمانين، مما دفع بالمفكر المصري المغتال فرج فودة أن قال جملته الشهيرة معلقا "وختانها مسك".
ويذكر الأستاذ التيمومي أن رفضنا لأفكار غاردوي حول "الإسلام التقدمي" وقراءته المقاصدية التقدمية والعصرية للإسلام، دفعته إلى الانزواء والعودة إلى مجاله الكوني الرحب، حتى مات متروكا من الجميع، طريدا من الشرق والغرب لأنه انتصر لعقله الحر.
وأكد أستاذ الفلسفة الدكتور محسن الميلي أن غارودي كان يجسد فكر القرن العشرين بالكامل في كل تطوره ومراجعاته وانتكاساته وانتصاراته وانعطافاته، وأن تمسكه بالعقل كلفه ما كلفه، حتى أن فرنسا عندما أعلنت وفاته لم تجد بما تعرفه إلا بالعبارة الموحية بالطرد "مات آخر من شكك في المحرقة".
ضد الصهيونية
ورغم أن جميع المداخلات سلطت الضوء على المعركة الشرسة التي خاضها غارودي ضد الصهيونية العالمية، فإن الكاتب والناشط في حقوق الإنسان الدكتور علي منجور كان أكثر حرصا على التركيز على هذه النقطة بالذات، وذكر أن معركة غارودي مع الصهيونية بدأت قبل أن يصدر أيَّ كتاب عنها كرد فعل على مقال نشره بالصحافة الفرنسية وأدى ذلك إلى محاكمته.
ولئن كسب غارودي القضية فإنه دخل بعد ذلك في معركة ضارية مع المؤسسات الفرنسية، فقاطعته كل دور النشر الفرنسية الكبرى مما دفعه إلى نشر كتبه على حسابه الخاص هناك أو التوجه إلى دور نشر لبنانية.
وربط منجور مواقف غارودي بمجزرة صبرا وشاتيلا وتوحش الصهيونية في ظل المركزية الأوروبية المساندة، واعتبر أن الكتابة عن الصهيونية عرفت مرحلتين: ما قبل كتابة غارودي وما بعدها، ومن ثم فإن غاردوي يعتبر منعرجا خطيرا في تاريخ الصهيونية وقراءتها، لأنه أعاد الأصول المؤسسة لما يعرف اليوم عند الباحثين بأصول الصهيونية، فالصهيونية لم تبدأ مع ثيودور هرتزل بل عرفت مراحلها الجنينية قبل ذلك بكثير، وهو ما كشفه غارودي وفجر بذلك قنبلته الفكرية.
ويؤكد المحاضرون الآخرون أن غارودي لم يكن فيلسوفا منعزلا بفكره وفلسفته، بل كان يسخر من صورة الفيلسوف الكلاسيكي، وهو ما دفعه إلى الحفر في الراهن والمشترك والبحث في الأسرار الخفية لهذا الراهن، لأن الفلسفة حسب غارودي لم تأت لتفهم الواقع كما نظر إلى ذلك هيغل، وليست بومة منيرفا التي تأتي متأخرة لتكتفي بالتأويل والفهم، إنما جاءت لتغيير الواقع المتغير بطبعه كما يقول الدكتور محسن الميلي.
وتحدث علي منجور عن شجاعة الرجل الذي أطلق لسانه الحاد في فضاء فرنسي تنازل للصهيونية وأقر قانونا -اعتبره أكبر خطيئة لبلد الأنوار- ينص على تجريم كل من يشكك في المحرقة أو يعيد البحث فيها. وغارودي الذي كان أول من فضح الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل عبر تشكيكه في المحرقة ورفضه مقولة "شعب الله المختار" -وهي أمور تعتبر خطوطا حمراء بالنسبة للفكر الغربي- يكون قد وضع نفسه في مرمى القنص، وكانت حياته أكثر الحيوات تهديدا في العالم لأنه انتصر للحقيقة وحدها.
غارودي نجا من سلطة الانتماء العرقي والديني والفكري، ليبقى طوال حياته نصيرا للإنسان في كل مكان |
فلسفة غارودي
أجمع المحاضرون التونسيون أن فلسفة غاروي فلسفة راهنة ومعاصرة لأنه عاش بيننا، ولكن راهنيتها في كونها فلسفة محرضة على الفعل، وهذه سمة الفكر الحر، وأكدوا أنه نموذج الفيلسوف الملتزم المسؤول والمثقف العضوي الذي يريد أن يغير ولا يكتفي بالفهم. كما وصلت الندوة إلى التأكيد على القيمة النقدية في فكر الفيلسوف الفرنسي، فقد بدأ بنقد الذات وانتهى بنقد فهم الدين الذي اعتنقه، مرورا بنقد الفكر الغربي والدين المسيحي.
وهذا الفكر الحر هو الذي دفعه أول الأمر إلى اختيار تلك القطيعة بينه وبين الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يناضل ضمنه والذي كان وقتها يرفع شعار التحرير. ولئن وصف تلك القطيعة بالمؤلمة والتي دفعته إلى محاولة الانتحار، فإنه اختار طريق العقل بلا رجعة.
ولعل امتناع الثوار الجزائريين عن إطلاق النار عليه يوما ما لأنه رجل أعزل كان له كبير الأثر في تحرير عقل غارودي من أي أيدولوجيا دوغمائية، فنجا من سلطة الانتماء العرقي والديني والفكري ليبقى طوال حياته نصيرا للإنسان في كل مكان، وكان نصيب العرب والإسلام الجزء الأكبر والفصل الأكثر إضاءة في تجربته.