نصير شمة: موسيقاي من آلام الناس
– شغفت بالشعر قديما وما أزال، وأعتبره أفضل منجم للأفكار التي قدمتها على مدى السنين عزفا وموسيقى، وكلما ازداد تعمقي في إيقاعاته وجمالياته، سواء كان عموديا أو تفعيلة أو نثرا.. اشتد تعلقي به، وأجمل المعزوفات التي قدمتها وهي لا حصر لها، هي من الشعر بشكل مباشر أو غير مباشر، هو مدخلي وملهمي للموسيقى، وحتى عناوين الدواوين تفتح لي بابا للموسيقى، كما "أثر الفراشة" و"لماذا تركت الحصان وحيدا" للراحل محمود درويش.
في الحديث عن المتصوفة، أنت قاربتهم كثيرا "الحلاج" و"السهروردي"، ما الذي أخذك إلى وجوديتهم؟
– اكتشفت وأنا في العام 82 وأنا طالب في الجامعة، أن كل ما كتبه المتصوفة ورسموا فيه تأملاتهم عن الوجود، والآفاق العالية التي ارتادوها وأمضوا فيه سنين طويلة، كنت أصل إليها خلال سبع دقائق في العزف على العود.
وأنا أقرؤهم اكتشفت أن بيني وبينهم عالما مشتركا، وحتى تكون جسرا نقيا بين الأرض والسماء يجب أن تحافظ على نقائك ونظافتك الخارجية والداخلية، وهذا ما وجدته لدي، ووظفت الحالات القصوى التي يصلها المتصوف. وجدتها عندي في مفاتيح العزف، أدخل هذه العوالم بسرعة، وأرى جمال هذا العالم الصوفي ونقاءه وتخلصه أيضا من عبء المتشدين الذين حملوا الدين ما لم يحتمل. أنا عودي صلة وصلي، وهو الشرفة التي أطل من خلالها على العالم وهو الحقيقة، والمترجم الدقيق لعقلي وروحي وتطلعاتي.
ها أنت هنا اليوم تناصر ثورة سوريا، قبلها بزمان طويل كانت أولى اشتباكاتك مع القضايا القومية موسيقيا في المسرحية الفلسطينية "البلاد طلبت أهلها". أية ارهاصات قادتك إلى هذا الالتزام القومي؟
عندما استدعيت لعمل شيء عن فلسطين تركت ورائي كل شيء وخرجت في وقت حرج من العراق، في وقت كان فيه الخروج صعبا |
– قادتني تربيتي الأولى في العراق، وأذكرها الآن عسى أن يؤخذ بها. فعندما كنا أطفالا في الابتدائية كنا نجمع مصروفنا والمواد الغذائية ونتبرع بها كل خميس لتصبح أطنانا من المساعدات لأطفال فلسطين، هذه الحالة علمتنا الإحساس بالآخر وأنك موجود، أن لديك دورا في الحياة، ومواقفك في الحياة هي ما يمنحك قيمة الوجود.
وعندما استدعيت لعمل شيء عن فلسطين تركت ورائي كل شيء وخرجت في وقت حرج من العراق في وقت كان فيه الخروج صعبا، ومكثت لمدة عام في عمّان انتهت للأسف بكارثة شخصية لي، ذهبت إلى السجن في العراق وحكمت بالإعدام، واختطفت من عمّان، وخرجت بعد وساطات كثيرة.
"البلاد طلبت أهلها"، قد تكون واحدة من أكبر الأعمال التي أنجزت عن فلسطين، درست خلال التجهيز للمسرحية التراث الفلسطيني لمدة تسعة شهور لكتابة موسيقى موازية للمسرحية، والحمد لله أن العمل نجح لدرجة أنه في العرض الرابع عشر حضر الملك حسين العرض، وألغي بعدها.
لك مقاربات في تجارب الشعراء. ماذا عن لقائك بمحمود درويش، وما الذي تذكره له في ذكرى رحيله الرابعة؟
وأنت تسألني فجأة، استرجعت الجلسات مع محمود درويش. عندما كنا نسافر من دولة إلى أخرى لإقامة الأمسيات المشتركة أو نتحدث طويلا. كان جميلا وخجولا جدا، وكان خجله يتحول أحيانا إلى عنف لأنه لم يكن يعرف كيف يداريه، فيتحول إلى عدوانية يرد فيها على البعض.
لا توجد قطعة موسيقية لي لم تقف على قضية أو أرض صلبة، سواء كانت بسيطة أو مركبة |
هو في غاية الجمال من الداخل، وقد استطاع أن يغير جلده الإبداعي من سنة إلى سنة، وفي كل ديوان كان يرمي جلدا ويلبس آخر، وهذا من تجربتي الطويلة معه التي كانت إحدى العلامات المهمة في أنك ترى أمامك شخصا لم يتوقف عن التجدد حتى آخر لحظة.
بين "قصة حب شرقية" باكورة أعمالك و"رحلة الأرواح" رحلة طويلة مع التأليف، بماذا يمكن أن تلخص التجربة؟
هي حياتي وحياة كل الناس الذين أحبهم وعشت آلامهم وأحلامهم وحولتها إلى موسيقى، لا توجد قطعة موسيقية لي لم تقف على قضية أو أرض صلبة سواء كانت بسيطة أو مركبة، وحتى حب العصافير. فأنا أعتبرها في غاية الجمال، كأنها ترصد قصة عصفورين وتحولها إلى موسيقى، كل هذا الإرث من الأشياء التي منحتني وجودي وحياتي هي انطبعت على عملي الموسيقي.