يوميات الأمل والشك في "ميدان التحرير"

ملصق فيلم تحرير للمخرج الإيطالي ستيفانو سافونا
undefined

نزار الفراوي-الرباط

من شغفه المعرفي بالآثار المصرية القديمة بوصفه باحثا في علم الآثار، إلى انغراسه في قلب ميدان التحرير الذي احتضن اليوميات الحاسمة للثورة المصرية التي أطاحت بـحسني مبارك يكون المخرج الإيطالي ستيفانو سافونا قد ربط الماضي بالحاضر، منتقلا في علاقته مع مصر من افتتان جامد بتراث تاريخي عريق إلى تفاعل مع لحظة ديناميكية تفتح أبوابا للمستقبل.

على وجه السرعة، حزم ستيفانو سافونا -الذي كان قد أرسى حضوره في عالم الفيلم الوثائقي بعمله الشهير "مذكرات مقاتل كردي" (2006)- حقائبه نحو القاهرة، كي لا يضيع فرصة لا تتكرر لحركة شعبية فريدة من نوعها، مكتفيا بكاميرا صغيرة "لكن بحساسية قوية" تسلل بها إلى قلب الميدان ليوثق يوميات الصمود والأمل والتغيير.

ويقول سافونا -خلال تقديم فيلمه بمهرجان الفيلم الوثائقي بأغادير المغربية- "هذه الكاميرا الصغيرة مكنتني من الاحتفاظ بتلقائية الناس، ورصد سلوكات ومواقف أقرب إلى الطبيعية، على خلاف المعدات الضخمة لوسائل الإعلام الدولية التي كانت تربك حركة الناس وردود أفعالهم".

ينقاد المخرج الإيطالي للصدفة، وينتقل عبر زوايا الميدان، مترصدا لوجوه تختزن تعابير مميزة، دون أن يحرص على تصيد عينات تمثيلية لمختلف الفئات بدعوى التوازن والعلمية. على حد قوله، ويضيف "كنت بصدد تصوير مليون وجه، لكن كان علي ضمن هذا المليون، تصوير كل وجه على حده".

‪‬ ستيفانو سافونا انتقل عبر زوايا ميدان التحرير ليصور وجوه المصريين وتعبيراتهم(الجزيرة)
‪‬ ستيفانو سافونا انتقل عبر زوايا ميدان التحرير ليصور وجوه المصريين وتعبيراتهم(الجزيرة)

وجوه وتعابير
يتعلق الأمر بصور حيوية تتوقف عند مختلف شرائح الثوار، بدءا من الطفلة التي تردد نشيدا أنجزه الكبار، وصولا إلى كهل يلقي خطبة عصماء بليغة في وسط الشباب، كما لو كان يكفر بها عن فترة صمت طويلة، مرورا بالشابة المحتجبة، التي تناقش زميلها في آفاق الثورة وحدودها، حيث بدا أن النقاش داخل الميدان بدأ مبكرا حول أهداف الثورة، وهل تنتهي بالإطاحة بمبارك؟

وضمن الشخصيات التي يوثقها فيلم "ميدان التحرير"، يتوقف سافونا بتكرار وشغف عند حالة الشاب "سيد". ولم يكن المخرج الإيطالي يتصور أن هذا الشاب سيكون بلا سابق إصرار بطل فيلمه الرئيس.

كان يعتزم الحصول على رأي شاب من عشرات آلاف الشباب المعتصمين، قبل أن يتعرف على شخصية مميزة. شاب ينحدر من السويس، درس بعصامية في ظروف صعبة، ليصبح مترجما بالقاهرة، وليسقط في عشق الشعر الإنجليزي الرومانسي، وينظم على غراره قصائد جميلة، سيقرأ إحداها على المخرج الإيطالي الذي لا يفهم العربية.

نموذج الشاب "سيد" بدا جديرا بالانتباه لدى المخرج الإيطالي، الذي رأى أن الثورة المصرية قدمت خاصية مميزة كونها استقطبت شبابا متعلما على أعلى مستوى. لذلك، يتنقل سافونا بكاميرته من أدنى الميدان إلى أقصاه، لكنه لا يلبث أن يعاود اللقاء بهذا الشاب المصري، الذي يجده يوم "موقعة الجمل"، معصوب الرأس، مصابا في القدم واليد، لكنه يواصل تنظيم المجموعة وتحريض الشباب على المقاومة.

فيلم "ميدان التحرير" دليل على الاختراق الذي حققه العرب من خلال ربيع الشعوب الذي صنع لهم صورا جديدة مغايرة لدى النخبة والرأي العام في الغرب. إنه رصد ساخن، بعين أجنبية للحدث، وهو يتبلور، ويكتسب قوة دفعه الهادرة، وهو يدخل دائرة الشك والالتباس، ثم وهو يعلن "الانتصار" بسقوط مبارك. وهو أيضا توثيق حي للغة الوجوه التي صنعت الملحمة الكبرى.

ستيفانو سافونا يبصم بفيلمه "ميدان التحرير" الذي حصل على تنويه من لجنة تحكيم مهرجان أغادير في دورته الرابعة، وقبله على جائزة مهرجان سينما الواقع بباريس 2011، على شغفه المزمن بتسليط الضوء على ساحات المقاومة المختلفة.

فإلى جانب "مذكرات مقاتل كردي" -الذي صوره في أعالي الجبال التي تؤوي معسكرات مقاتلي حزب العمال الكردستاني- كان ستيفانو سافونا قد أخرج فيلما عن حرب غزة بعنوان "الرصاص المصبوب" عام 2009.

المصدر : الجزيرة