كتابة التاريخ روائيا

أمير تاج السر - الرواية الحقيقية -التي يمكن وصفها بالعظيمة- ذات طبع متمرد، وتأبى باستمرار أن تلتصق بالواقع المعيش إلا في جوانب محددة
undefined
أمير تاج السر
 
لعلنا لاحظنا، سوى في رواياتنا العربية، التي ننتجها من بيئتنا الخاصة، أو تلك المترجمة من نتاج شعوب أخرى، ما أسميه بالطلب المكثف للتاريخ، لإعادة إنتاجه روائيا، في أعمال بعضها دعمته الوثائق التاريخية الحقيقية، وبعضها متخيل صرف، يحاكي التاريخ ويصنع دربه الخاص الذي يمكن أن يكون تاريخا بالفعل في ذهن القارئ، لو أجيدت كتابته.

ولأن في التاريخ عوالم مخبأة دائما، وربما تكون أكثر إدهاشا من عوالم متوفرة في الزمن المعاصر، فقد خلق ذلك النوع من الكتابة مبدعيه المخلصين، وقراءه الذين يفضلونه على كتابة الحاضر، ويسعون إليه دائما، ولا عجب إن نجحت روايات تاريخية كثيرة، وتحول بعضها إلى أفلام، كان لها جمهورها أيضا.

ولقد وضح بعض النقاد، من وجهة نظر نقدية طبعا، الفرق بين نوعي الكتابة التاريخية، أي تلك التي يتخيلها الكاتب ويعتمد فيها على حقائق مخترعة، وتلك التي يعتمد فيها على حقائق ثابتة لا يمكن تغييرها حتى لو أنتجت إبداعيا، كأن يعيد أحدهم إنتاج شخصية مثل أدولف هتلر، ويغض الطرف عن ما سجله التاريخ في حقه، أو يكتب آخر عن معركة شهيرة، وينسى الذي أشعلها، والذي انتصر فيها أو انهزم، أو يتصدى لثورة الزنج المعروفة، وينسى قائدها علي بن محمد.

أعتقد شخصيا، أن الرواية  الحقيقية عموما -الرواية التي يمكن وصفها بالعظيمة- ذات طبع  متمرد، وتأبى باستمرار أن تلتصق بالواقع المعيش إلا في جوانب محددة، هي خاماتها الأولية التي تمنح الإيحاء فقط. هي تبني واقعها الخاص الذي يأخذ من الواقع الصرف، وأيضا من الخيال المتأجج في ساعات الكتابة، وبالتالي تنتج الصيغة الجمالية والمعرفية المطلوبة، وأيضا تشرك القارئ المتابع، في حوارها اللاهث حتى النهاية.

ولو كانت الرواية تاريخا صرفا مستندا على وثائق ومخطوطات حقيقية فقط، من دون إضافات أخرى، لما شدت سوى دارسي التاريخ، الذين قطعا سيعثرون على معرفة أوسع، لو قرؤوا الكتب التي هي تاريخ صرف، صيغ بأقلام مؤرخين، وباحثين، ولما احتاجوا لعمل إبداعي حتى يدرسهم.

لو كانت الرواية تاريخا صرفا مستندا على وثائق ومخطوطات حقيقية فقط، من دون إضافات أخرى، لما شدت سوى دارسي التاريخ

ولذلك نجد في معظم الكتابات التي أرخت لشخصيات معروفة، أو رصدت تغيرا حدث في مجتمع ما، في زمن ما، أنها برغم وجود التاريخ الحقيقي عائقا أمام سهولة الكتابة، إلا أنه توجد ثغرات ما، دخل منها الإبداع، ووضع بصماته، وكلنا يعرف رواية "الجنرال في متاهته"، لغابرييل غارثيا ماركيز، التي كتبها عن الجنرال سيمون دي بفوار، وكانت زخما ماركيزيا بديعا، شبيها بما أنتجه ماركيز طوال إقامته في قصر الإبداع الشامخ، وليست تاريخا صرفا لجنرال زعيم.

أيضا ما كتبه الألباني إسماعيل كاداريه، وآخرون، استوعبوا الفرق بين الحكي والوثيقة، وأنتجوا أعمالا جيدة، بالرغم من أنهم، درسوا التاريخ بشكل متعمد، وأعادوا إنتاجه، وملؤوا الحلقات المفقودة في النص التاريخي المفترض، مثل كتابة الناحية الإنسانية أو العاطفية لحاكم ما، وتحضرني هنا رواية "المخطوط القرمزي" للكاتب الإسباني الكبير، أنطونيو غالا، التي تصدت لشخصية (أبو عبد الله الصغير)، آخر ملوك الأندلس، فقد كانت رواية اعتمدت البحث، أكثر من اعتمادها على المتخيل، وبرغم ذلك لا تحس عند قراءتها، أنك تقرأ تاريخا صرفا، ولكن حكاية، صيغت بحرفية.

أتحدث عن النوع الآخر من الكتابة التاريخية، أي النوع الذي لا يعتمد الوثيقة، ولا يحفل بما كتبه المؤرخون كثيرا. هنا يمكن للروائي في هذا النوع من الكتابة أن يصنع مخطوطات خاصة بنصه، ووثائق هو من كتبها، و تحيل إلى تاريخ لم يحدث إطلاقا إلا داخل النص الذي كتب، ولكن يوهم القارئ بأنه تاريخ حقيقي.

وفي الغالب نجد في هذا النوع من الكتابة، مدخلا في البداية، يشير إلى وجود مخطوط ما اعتمد عليه الكاتب، وأنه لم يفعل شيئا، أكثر من إعادة نشر هذا المخطوط، وبالطبع هذا يدخل في نطاق الكذبة الإبداعية أو الشَرَك الإبداعي الذي ينصبه الكاتب للقارئ، وغالبا ما يحدث تأثيرا ما، وتوجد في أعمال التركي أورهان باموق، فخاخ من هذا النوع، لا تحس وأنت تقرؤها، أنك عالق في شرك وهمي.

على الكاتب أن يقيم لمدة طويلة، في أجواء الفترة التي يود صناعة تاريخ مواز لها، ثم يكتب بعد ذلك عن حدثه المتخيل في ذلك الزمان، من دون مرجعية صارمة، ربما تفسد النص بصرامتها، وتقييدها للكتابة الحرة، إذا لم تكتب بحرفية

أميل شخصيا لكتابة هذا النوع من الروايات، تلك التي تكذب إبداعيا، وتنسج الفخاخ الوهمية، لكن على الذي يود كتابة رواية من هذا النوع، أن يبحث في التاريخ أيضا، ولا يعتمد على خيال الكتابة فقط، من دون معرفة أكيدة بما يريد كتابته، ويتوقع أن يكون مؤثرا في يوم ما.

على الكاتب أن يقيم لمدة طويلة، في أجواء الفترة التي يود صناعة تاريخ مواز لها، وأن يعيش في الجو السياسي الذي كان سائدا، بكل حسناته وعيوبه، ويعيش المجتمع كاملا وحياة الناس كلها، من لباس وطعام وشراب وبيوت يأوون إليها، وأحلام كانوا يحلمونها، وطقوس مارسوها، في أفراحهم وأتراحهم، ثم يكتب بعد ذلك عن حدثه المتخيل في ذلك الزمان، من دون مرجعية صارمة، ربما تفسد النص بصرامتها، وتقييدها للكتابة الحرة، إذا لم تكتب بحرفية.

وأضيف أن ذلك الباب، يعتبر واسعا بحق، ويمكن أن تدخل عبره شخصيات يعرفها الكاتب من زمنه المعاصر، كما أن الإسقاطات الحاضرة، يمكن أن تكتب بسهولة، ولا تأخذ كاتبها إلى متاهات بعيدة، كما لو أنها كتبت باعتبارها، أحداثا معاصرة. وأشير إلى رواية لي هي "مهر الصياح"، التي كتبت في أجواء القرن الثامن عشر، واضطرتني للعيش عاما كاملا في سلطنة كانت موجودة في ذلك القرن، وكانت برغم كثافة الأحداث فيها، نصا يمكن تذوقه بسهولة.

لكن هل من الضرورة فعلا، أن نعيد إنتاج تاريخنا روائيا سوى عن طريق الحكي الوثائقي، أو الحكي المخترع، وتوجد في الزمن المعاصر، سكك كثيرة من سكك الكتابة، لم تعبَّد بعد؟

هنا أخاف أن أقول، أنه ليس ثمة ضرورة ملحة، إذا ما تحدثنا عن الكتابة عموما وضرورتها الحياتية، لدى الشعوب العربية، التي ما تزال تسيطر الأمية الثقافية على قطاعات كبيرة منها، ويأتي الفقر ليجعل مجرد التفكير في القراءة، ضربا كبيرا من ضروب العبث.

هنا تتساوى الرواية التاريخية والمعاصرة معا، القارئ النادر هو من يحس بضرورة أن يقرأ كل ما يستطيع قراءته، والكاتب المسكون بهاجس الإبداع القدري، هو من يحس بضرورة أن يكتب إلى ما لا نهاية، سوى إن تابع تاريخا مدونا سلفا، أو اخترع تاريخا، أو كتب عن يومه الذي يعيشه، هناك مسائل كثيرة معلقة بين الكاتب وقارئه، أهمها، كيف يؤهل ذلك القارئ معيشيا أولا، ثم نطالبه بالقراءة.
_______________
روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة