ما قبل وبعد الربيع العربي.. نظرة على الإبداع

أمير تاج
undefined

أمير تاج السر

هناك سؤال يطرح نفسه هذه الأيام بقوة، وطرح بالفعل في كثير من الملتقيات الثقافية، والحوارات التي أجريت مع المثقفين في شتى البلاد العربية، وهو نوعية الأدب الذي سيطرح بعد هذه المرحلة من التغيرات التي شملت عالمنا، بما سمي بالربيع العربي، بعد ركود طويل في ظل حيوات ساكنة، اكتست فيها الكتابة شيئا من ذلك السكون، أو تحدثت بصوت هامس لا يكاد يسمع، خوفا من تبعات صراخها لو صرخت.

وكما يحدث في أزمنة الاستقرار، حتى لو كان استقرارا تعسفيا، تنشأ أبجديات معينة، تسير على نهجها الحياة، وفي مجال الأدب استطاعت تلك الدكتاتوريات، بثباتها الطويل على أدمغة الشعوب، وحيواتها اليومية، أن تخترع أبجديات راسخة للكتابة، لم يحد عنها أحد إلا نادرا، حتى تحولت الأعمال الروائية والشعرية إلى ما يشبه التكرار الممل لمشاهد وحكايات، يستطيع كل كاتب أن يقدمها سهلة من دون عناء كبير.

تعاطي الاحتجاج حتى داخل رواية أو قصة أو قصيدة شعرية، كان ممنوعا حتى عهد قريب، وحتى مجرد الهمس بالاحتجاج كان هناك من يعيد إنتاجه أمنيا، يحوله إلى صراخ وهتاف ضد السلطة

من أهم تلك الأبجديات: لا بد من رسم الفقر بشتى صوره، فقر الحياة اليومية، وفقر الروح، لا بد أن تكون الشوارع مغبرة، والبيوت مظلمة، والريح تعصف هنا وهناك، والتشرد في البحث عن سبل للعيش الكريم بالهجرة والاغتراب في البلاد البعيدة. لا بد من وجود ظالم يظلم، ومظلوم يعاني، ونساء لبسن الثياب الشبقية، وتسكعن في الحياة المذلة طمعا في فرصة ما.

وتأتي كتابة التاريخ الموازي، بمعنى كتابة تاريخ متخيل، يلقي بظلاله على الواقع المسيطر، ملاذا للبعض، وهروبا من وطأة الحاضر. وللذين عذبوا بالفعل في سجون الرأي، أو سمعوا أن شخصا ما قد عذب، أو خيل لهم أنفسهم أنهم عذبوا، آراء أيضا متطابقة وجدناها في كثير من الأعمال القصصية والروائية.

وأعتقد أن مشهد إعدام عدد من البؤساء على أيدي جنود قساة وفاقدين للضمير في نيجيريا -الذي بثته قناة الجزيرة في العام الماضي- رغم نفور العين منه، وازدياد ضربات القلب ساعة بثه، مشهد عادي وسهل، ويمكن كتابته بمائة حيلة، في عهود الظلام.

الحقيقة أن ثمة طرحا جديدا في كل مرحلة من مراحل الشعوب عامة، سواء أكانت تلك الشعوب بدائية أو متطورة، طرح يتوافق مع المحيطات والمؤثرات التي استجدت، ويحاول أن يتقصى التبعات أو يؤرخ للحدث، وبعض ذلك الطرح قد يقفز إلى مرحلة التنبؤ بما سيحدث مستقبلا، فيصيب حينا ويخطئ أحيانا.

وقد ظهر بعد نكسة يونيو/حزيران ١٩٦٧، التي تعتبر واحدة من أكثر النقاط عتمة في ليالي الشعوب العربية، أدب قوي، خاصة في مجال الشعر، اتسم باللوم الشديد، والتحدث عن التقاعس، وذم الحماس الذي كان مجرد حماس بلا معنى، وطرح تساؤلات عدة، لم تجد إجابة إلا داخل المخيلة فقط.

وأذكر من ذلك النوع ما كتبه نزار قباني وأمل دنقل وصنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم وعدد من الكتاب والشعراء في الوطن العربي عامة، الذين اعتبروا النكسة طعنات وجهت لهم شخصيا، أشبه بطعنات الشرف، كذلك ما كتبه شعراء المقاومة الفلسطينية أمثال معين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم. وسار على هذا النهج أدباء كثيرون في الوطن العربي العريض، وكان جيلنا نحن، والجيل الذي سبقنا في سبعينيات القرن الماضي، من الأجيال التي رضعت ذلك الأدب القوي، واعتبرته مرشدا لها في سكة الكتابة، فيما بعد.

في الشأن الكتابي ما حدث طوال هذا العام كثير جدا، وما أتوقعه شخصيا كثير أيضا، وهذه الأجيال الجديدة التي حملت على عاتقها مهمة إيقاظ صمت آبائها من رقاد طويل قادرة على إنتاج أدب جديد  

الآن تمر الشعوب العربية، سواء تلك التي انتصرت في ربيعها بالفعل مثل تونس ومصر وليبيا، أو تلك التي تسعى للنصر، ببذل المزيد من الدم يوميا، كما يحدث في سوريا، بمرحلة جديدة هادرة، أن يخرج صوتها جليا بلا همس أو تلفت حذر، وهي تطالب بحقوقها المشروعة، وتتعدى ذلك بأن تقوم بنفسها بصياغة حقوقها التي تعتبرها فقدت ولا بد من استرجاعها، لصناعة تاريخ جديد، هكذا فجأة من دون أي مقدمات سواء تلك التي صاغتها الآداب الهامسة، أو التنبؤات الأدبية هنا وهناك، وما أشعله بائع خضروات شاب في بلدة تونسية، جرح في رزقه وكرامته، وانتصرت له الشعوب، وفي الحقيقة كانت تنتصر لنفسها.

كان تعاطي الاحتجاج، حتى داخل رواية أو قصة أو قصيدة شعرية، ممنوعا حتى عهد قريب، وحتى مجرد الهمس بالاحتجاج كان هناك من يعيد إنتاجه أمنيا، يحوله إلى صراخ وهتاف ضد السلطة، وكثيرا ما تعرضت الكتب التي ثارت داخل اللغة، أو فسرت بأنها ثائرة بسبب المخيلة الأمنية التي تتسع بشدة في أزمنة القحط، إلى كثير من القمع القرائي والمنع من التداول، وحوسب كتابها على ذلك. وهناك أمثلة بلا حصر على ذلك، بل يوجد من مات من وراء قصيدة، ومن غاص في أقبية سحيقة من خلف رواية، لم يكسب من ورائها سوى رضى ضميره الخاص.

لكن من مميزات تلك المرحلة هي أن ارتقى الأدب كثيرا، رغم ما ذكرته من سهولة مشاهده وحكاياته التي اخترعتها الدكتاتوريات، ارتقى موضوعا ولغة، وتطور من كونه أدبا مسليا إلى أدب ذي مشروع قومي كبير، يمكن لأي دارس في المستقبل أن يعثر على ملامحه المشتركة بسهولة، في معظم البلاد العربية، تماما كما يعثر على إخوة داخل بيت واحد.

ما أخافه في كل ذلك هو أن يحدث انفلات كتابي، بمعنى أن تعم الفوضى المرتكزة على الحماس، وأن يتخيل حامل كلاشينكوف في طرابلس أنه أحد الروائيين الجدد الذين ولدوا بولادة الربيع العربي
المرحلة الجديدة، مرحلة الربيع العربي التي مر عليها أكثر من عام، وما زالت تكتب في كتب التاريخ التي ستنشر فيما بعد، يتبعها بالطبع أدب جديد. هنا ليس ثمة اضطرار للتحدث همسا كما حدث في الماضي، ولا ثمة اضطرار لكتابة اللافتات الحانقة داخل الصدور، وقراءتها بلا صوت في الظلام، وشاهدنا في الإعلام المرئي تلك اللافتات تكتب يوميا بالحبر الواضح وتطوف في الشوارع مثلها مثل أي نشاط عادي، يُمارس ممارسةً عادية مطلقة كالأكل والشرب والنوم.. وحشدت المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي بالكتابة التي تضع النقاط على الحروف، وتصل إلى كل متلق بلا "فلترة".
ما حدث طوال هذا العام في الشأن الكتابي كثير جدا، وما أتوقعه شخصيا كثير أيضا، وهذه الأجيال الجديدة، التي حملت على عاتقها مهمة إيقاظ صمت آبائها من رقاد طويل واستعادة حقوقهم الضائعة، قادرة أيضا على إنتاج أدب جديد، ربما اتسم بالحماسة والنزعة التغيرية الجادة، وكتابة الأشياء كما هي. أيضا أتوقع ذلك في السينما والدراما التلفزيونية، سنقرأ روايات واقعية صرفة بعيدا عن خيال الكتابة، سنشاهد أفلاما تتحدث بصوت جهوري.
 

وقد بدأت بالفعل تخرج روايات تؤرخ للثورة التونسية والمصرية، والثورات الأخرى التي ما زالت تشتعل، وثمة مشاريع تكتب وتنتج يوميا في السينما والدراما، وسمعنا شعرا جميلا، لا يشبه الشعر القديم، شعر يتحدث بصدق وطلاقة، ويسمي الأشياء بمسمياتها.

ما أخافه في كل ذلك هو أن يحدث انفلات كتابي، بمعنى أن تعم الفوضى المرتكزة على الحماس فنا جميلا اسمه الإبداع، أن يتخيل حامل راية كتب عليها عبارة: ارحل، في ميدان التحرير، أنه امتلك موهبة الكتابة، ويكتب ما لا يمكن أن يسمى كتابة.. أن يتخيل هتافا عالي الصوت في حمص، وهو يصرخ خلف جنازة شهيد، وحامل سلاح كلاشينكوف في طرابلس التي حررها السلاح والحماس، أنه أحد الروائيين الجدد الذين ولدوا بولادة الربيع العربي، وبالتالي لا يصبح الخيال وقودا ضروريا للكتابة الإبداعية، ونعرف أن الخيال هو وقود الكتابة الجيدة، ولطالما استمتعنا بذلك الخيال في قراءتنا للروايات والقصص وقصائد الشعر.

المصدر : الجزيرة