" سيدة الأعشاب" وسطوة الثقافة الشعبية

تصميم لمقال الكاتب يوسف ضمرة لصفحة - بالعودة إلى مشروع القاص قنديل، نراه في بعض القصص كأنه يحاول استكمال ما لم يقله في قصص سابقة.

يوسف ضمرة

لم تخرج مجموعة "سيدة الأعشاب" القصصية عن سياق المشروع الواضح للقاص خليل قنديل، الذي يتميز بسمات جوهرية أهمها: محافظة قنديل على انتمائه إلى الحاضنة الاجتماعية الواحدة، التي شكلت وعيه وأخرجته مبدعا، أي إن خليل قنديل لم ينسحب من هذه الحاضنة فنيا وإبداعيا، وإن انسحب ربما موضوعيا كأغلبية الكتاب والأدباء.

والانتماء لهذه الحاضنة ينطوي على بعد طبقي في الكتابات كلها، حتى وإن غاب الهجاء الطبقي نفسه، ثم تأتي تلك الثقافة الراسخة في الوجدان الشعبي، التي تتحكم في تشكيل البنية النفسية وتحدد مساراتها المستقبلية، على الرغم من كل ما يحدث من تطور علمي وتقدم معرفي، يصل في بعض وجوهه إلى الحاضنة الاجتماعية المثقلة بالثقافة الموروثة.

ومن السمات الأخرى في هذا المسلسل القصصي، يبرز الأسلوب الفني الذي يعتمد على أسس لا يفارقها القاص في أعماله كلها، منها تلك اللغة الموحية في إيجاز وقوة، واعتماد المفارقة لبنةً أساسية وضرورية لقيام هذا البناء القصصي، والسماح بالدخول إليه في بساطة ويسر.

اللافت في هذه المجموعة هو عدم عناية القاص بالنموذج الفني، أي عدم اهتمامه بتشكيل شخصية قصصية منحوتة في الزمان والمكان، مقدار عنايته بالحكاية

الثقافة الشعبية
على أن هذا لا يعني عدم وجود خصوصية ما في هذه المجموعة الجديدة، كما هي الحال في المجموعات الأخرى، بل إنها في هذه المجموعة أكثر قوة وحضورا، حيث لا تبدو القصص قادرة على مغادرة مربع موضوعي رئيس، يمكن تسميته بجدل الثقافة الشعبية والحياة اليومية.

وعندما نقول الثقافة الشعبية، فإننا لا نعني الثقافة التي تنتجها المناطق الشعبية تحديدا، مقدار إشارتنا إلى كل ما أنتجه الوجدان الشعبي خلال فترات وتحولات اجتماعية عدة، واحتفظ به اللاوعي الجمعي، بحيث أصبح جزءا من منظومة فكرية ومفاهيمية في المجتمع كله، على الرغم من انتقال المجتمع ثقافيا وحضاريا من حال إلى أخرى، وعلى الرغم من تصدع البنية الاجتماعية التقليدية في المناطق الحضرية، نتيجة تأثرها بالانفتاح على الثقافات البعيدة المغايرة، ونتيجة وقوعها فريسة وسائل الاتصال والتقانة الحديثة.

وعليه، فإن من أهم ما يميز هذه المجموعة في هذا السياق، هو اعتمادها على المدينة الحديثة، بل الجزء الأكثر تحضرا فيها، وهذا يعني أن المؤلف يرغب في إبراز التأثير الهائل للثقافة الشعبية -بكل ملامحها الموضوعية والميتافيزيقية- في حياتنا اليومية، التي تبدو على السطح، وكأنها تدور في فلك متحرر من شوائب الثقافة الشعبية.

واللافت في هذه المجموعة هو عدم عناية القاص بالنموذج الفني، أي عدم اهتمامه بتشكيل شخصية قصصية منحوتة في الزمان والمكان، مقدار عنايته بالحكاية، فالشخوص هنا عاديون تماما، وهم نمطيون إلى حد كبير، ما يعني أن ما يحدث معهم ولهم في الحكاية، قابل للحدوث مع آخرين.

فالحكاية هنا هي الأصل، والكاتب معني بصوغها بما يتلاءم مع فكرته التي يهجس بها، ويود مناقشتها مع المتلقي بأبعادها كلها.. النشأة والقوة والتأقلم والأثر، على الرغم من المظهر الاجتماعي الخارجي، الذي يبدو مخاتلا في أغلبية القصص.

ولأن الحكاية هي الأصل هنا، فإن على الكاتب أن يكون ماهرا في تقديمها، فالحكاية قد تتوافر لكثيرين، لكن أسلوب صياغتها وتقديمها هو الذي يشكل بصمة الكاتب الخاصة.

وهنا تبرز أهم ملامح الأسلوب الفني، المتمثل في قوة النهايات القصصية، واعتماد قنديل عليها كعامل رئيس في البناء الكلي، بحيث لا تبدو النهاية هنا مجرد خاتمة للقصة، مقدار ما هي ضربة صادمة ذاهبة في اتجاهين: البنية الحكائية، والمتلقي. أي إن النهاية تكاد تكون هنا جوهر الحكاية، وفي الوقت نفسه مبتدأ القراءة والتلقي والتفاعل.

أهم ما يميز هذه مجموعة "سيدة الأعشاب" هو اعتمادها على المدينة الحديثة، بل الجزء الأكثر تحضرا فيها، وهذا يعني أن المؤلف يرغب في إبراز التأثير الهائل للثقافة الشعبية

الحقيقة الاجتماعية
يريد الكاتب في هذه القصص أن يؤكد حقيقة اجتماعية قائمة، لكننا نحاول الإيحاء بعدم وجودها. وعليه فإن الحكاية هنا تضع الشخوص في مواجهة هذه الحقيقة الاجتماعية التي ندعي عدم وجودها، وبالتالي عدم خضوعنا لسطوتها وأثرها.

ولكنه في بعض الأحيان يتدخل حكائيا كي يؤكد بطلان هذه الحقيقة، كما هي الحال في حكاية (المندل) الذي بضربة حكائية واحدة قرر الكاتب بطلان أثره وقيمته، حين نجحت الشرطة في العثور على الفتاة، في اللحظة التي بدا فيها الناس متجمعين حول شيخ المندل.

وربما باستثناء قصتين أو ثلاث، فإن هذه الحكايات تدور في المدينة، وهو كما نظن أمر على درجة عالية من الأهمية كما أشرنا أعلاه.

بل إن تسمية بعض المناطق الأكثر شهرة بتحضرها، لكي تدور الحكايات الشعبية فيها، يعد من أبرز عناصر القوة في هذه القصص. فكلما ابتعدنا عن الريف والمناطق المهمشة ثقافيا وعلميا، ينبغي لأثر الثقافة الشعبية أن يكون أقل حضورا وقوة.

ولكن القاص هنا يكشف لنا أن هذا مجرد قشرة خارجية ليس إلا، فالتحضر والتقدم العلمي واتصال المدينة بالعالم الخارجي الأكثر تحضرا وتقدما، لا يعني أبدا أن البنية الاجتماعية قد خلعت ثوبها التقليدي الذي حاكته خلال عقود وقرون.

وعليه فإن كل ما نفاخر به كملمح حضاري وعلمي، وكل ادعائنا بالتحرر من الميتافيزيقي الذي حكم حياتنا من قبل، لا يزال كامنا في رؤوسنا، ولا يزال مستعدا للتدخل في شؤون حياتنا اليومية كلما لزم الأمر. والأمر يلزم كلما عجزنا عن تفسير موضوعي لما يحدث حولنا، حيث تصبح الغيبيات أكثر سهولة ويسرا.

فيكفي أن نقول إن البيت مهجور لأن عائلة من الجن تسكنه، وتمنع الناس من التعايش معها في المكان نفسه. وهذا أسهل بكثير من البحث عن أسباب موضوعية لخلو المنزل من بشر طوال سنوات، ولحدوث حريق بعد سنة من إشغاله من قبل أناس جدد.

 يكشف قنديل أن التحضر والتقدم العلمي واتصال المدينة بالعالم الخارجي الأكثر تحضرا وتقدما، لا يعني أبدا أن البنية الاجتماعية قد خلعت ثوبها التقليدي الذي حاكته خلال قرون

نسق قصصي
وبالعودة إلى مشروع القاص قنديل عبر مجموعاته المتوالية، نراه في بعض القصص كأنه يحاول استكمال ما لم يقله في قصص سابقة، كما هي الحال في "تلك المرأة" التي تعد استكمالا لقصة العتبة في مجموعة سابقة. أو ربما تكون "تلك المرأة" إعادة كتابة لقصة العتبة، بحيث يبدو الأثر الغيبي هنا أكثر قوة وفعلا مما كان في قصة العتبة من قبل.

على أن بعض الحكايات القليلة في هذه المجموعة، كانت تميل إلى الإفراط في التبسيط، أو ربما حدث فيها ما يشبه الدمج غير الملائم فنيا، وأعني بذلك تركيب نهاية لا تتلاءم مع المشكلة التي تشكل جوهر الحكاية، كما هي الحال في قصة "الطاسة"، على سبيل المثال.

كما أن هنالك القليل من القصص التي لا تنطوي على حكاية تمتلك مقومات الضرورة، أو ما يكفي لتحويلها قصة فنية، كما هي الحال في قصة "عنقود عنب"، التي يمكن اختصارها بالإشارة إلى أن حب الفتاة للشاب الميكانيكي كان أقوى من زواجها الباذخ.

على أن مثل هذه الملاحظات لا تقلل من المتعة الكبيرة التي تنطوي عليها قراءة هذه القصص، ولا تقلل من أهمية الأفكار المطروقة التي تطرح على القارئ أسئلة فيها الكثير من التحدي ومواجهة الذات، والبحث عن حقيقة هذه الذات.

المصدر : الجزيرة