محمد أركون في ذكرى رحيله

المفكر الجزائري محمد أركون

المفكر الجزائري الراحل محمد أركون (الجزيرة نت)

عبد الرزاق بوكبة-الجزائر

تمرّ الذكرى الأولى لرحيل المفكر الجزائري محمد أركون في ظل ثورات غير متوقعة اجتاحت الوطن العربي جاعلة من الحرية والانعتاق مطلبَها الأكبر، وهما العنصران اللذان قام عليهما مشروعه الفكري المثير للجدل والرامي إلى تحرير الفكر والتراث الإسلاميين مما كان يسمّيها "السياجات الدغمائية المغلقة".

ودشن أركون من خلال كتبه بالفرنسية والإنجليزية، وترجم الكثير منها إلى العربية، صراعا نقديا مزدوجا شمل معا المدرسة الكلاسيكية للاستشراق وما كان يعتبرها "أرثوذكسية إسلامية" تصادر حق المسلم في التأمّل والتأويل، فكان بذلك من أكبر المفكرين الإشكاليين في العالم المعاصر.


استطاع أركون أن يفرض نفسه ليس بوصفه مؤرّخا بارعا وأكاديميا متمكّنا من الأدوات المعرفية والنقدية فقط، بل بوصفه شريكا جادّا في الحوار الغربي الإسلامي أيضا
"

من القرية إلى العالمية
ولد مؤسس علم الإسلاميات التطبيقية عام 1928 بقرية تاوريرت ميمون بمنطقة القبائل الأمازيغية الكبرى في الجزائر، وبفعل ظروف قاسية انتقلت عائلته إلى "عين الأربعاء" من محافظة عين تموشنت في الغرب الجزائري حيث درس المرحلة الابتدائية، ومنها التحق بوهران ليدرس المرحلة الثانوية على أيدي "الآباء البيض"، وهم نخبة من المعلمين الأوربيين ذوي نزعة تبشيرية.

وبعد حصوله على الشهادة المؤهلة للدراسة الجامعية انتسب إلى جامعة الجزائر حيث درس الأدب العربي والفلسفة والقانون والجغرافيا، ليلتحق بجامعة السوربون الفرنسية بتوصية من المستشرق لويس ماسينيون، والتي أصبح بها أستاذا للتاريخ والفلسفة الإسلاميين بعد حصوله على شهادة الدكتوراه عام 1980.

ويقوم الفكر الأركوني على النقد العلمي للعقل الديني في مظاهره التاريخية المختلفة بالموازاة مع نقده للعقل العلماني الذي لا يقيم اعتبارا للظاهرة الدينية بأبعادها الرمزية في تشكيل وعي الإنسان، متجاوزا بذلك المنطق الذي يجعل العلماني والإيماني على طرفي نقيض، وداعيا إلى علمانية جديدة تجمع بين "الإنسية الحديثة" و"الإنسية الدينية" تجسيدا لما أسماه "موقف الروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أمام مشكلة المعرفة".

ابتعد أركون عن منطق التيارات العربية والاستشراقية الوصفية التي تعاملت مع التراث العربي والإسلامي من منطلق عاطفي ممهدا بذلك لخريطة طريق فكرية جديدة

مشروع مختلف
وأنجز أركون العديد من الدراسات والبحوث وألّف العديد من الكتب، بينها "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" و"الفكر العربي وتاريخية الفكر العربي الإسلامي" و"نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي" و"أين هو الفكر الإسلامي المعاصر" و"الإسلام والفكر الأصولي واستحالة التأصيل" و"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" و"قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم" وغيرها.

وظلت جهود أركون المعرفية -الذي يراها البعض وساطة بين الفكر الإسلامي والأوروبي- عرضة للنقد في الواقع الثقافي العربي، إلا أنه بقي متمسكا بمشروع تفكيك التراكمات التراثية وأنسنتها في مقابل ما يثار عن الفكر العربي الإسلامي من أحادية وإلغائية للآخر، واعتبر أركون أن التعايش الثقافي المتعدد خلال القرن الرابع الهجري أوجد ما تسمى "الإنسية" العربية.

والحركة الإنسية هي حركة ثقافية واسعة شهدتها أوروبا في القرن الخامس عشر, وتقوم على اعتبار الفرد قيمة أساسية، واستهدفت التخلص من قيود الفكر الإقطاعي والكنيسة الكاثوليكية.

ويرى الباحث الجزائري قلولي بن ساعد أن أركون استطاع -من خلال انفتاحه على مختلف المنظومات الفكرية- أن يحقق مشروعا فكريا استثمر بخصوصية شديدة أطروحات الفكر المعاصر التي انبثقت في أفق العلوم الإنسانية، وما تلاها من تحولات معرفية خصبة وعميقة.

وأضاف قلولي في تصريحه للجزيرة نت "لقد ابتعد أركون عن منطق التيارات العربية والاستشراقية الوصفية التي تعاملت مع التراث العربي والإسلامي من منطلق عاطفي ممهدا بذلك لخريطة طريق فكرية جديدة تستند إلى الفرضية التي تقول إن الأفكار ذات قوام متماسك، وذات دلالات ومعان مستقلة عن الإكراهات اللغوية والاجتماعية والسياسية، وهو بذلك تجاوز حتى التفسير الماركسي للتراث العربي والإسلامي من خلال مشروعي حسين مروة والطيب تيزيني".

يقوم الفكر الأركوني على النقد العلمي للعقل الديني في مظاهره التاريخية المختلفة بالموازاة مع نقده للعقل العلماني الذي لا يقيم اعتبارا للظاهرة الدينية بأبعادها الرمزية في تشكيل وعي الإنسان

مفكر الحوار
وقال المفكر الجزائري محمد شوقي الزين إن "أركون استطاع أن يفرض نفسه ليس بوصفه مؤرّخا بارعا وأكاديميا متمكّنا من الأدوات المعرفية والنقدية فقط، بل بوصفه شريكا جادا في الحوار الغربي الإسلامي أيضا"، مستشهدا بالمبادرة التي أطلقها مع مارسيل غوشيه ورجيس دوبريه في تدريس الظاهرة الدينية بالمدارس والثانويات.

وأشار أيضا إلى لجوء المستشارين في الحكومة الفرنسية لمعرفة التشابك المبهم الذي حصل بين الإسلام وبين من ينتسبون إليه من المتطرّفين بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في أميركا، وتوّج الاهتمام بآراء أركون بكتاب ألّفه بالاشتراك مع جوزيف مايلا عنوانه "من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشرّ" عام 2003.

واستدرك أستاذ الفلسفة بجامعة أكس آن بروفانس الفرنسية في تصريحه للجزيرة نت بالقول إن علاقة المثقفين الغربيين بأركون لم تكن كلّها قائمة على منطلق الحوار الإنساني والحضاري، وتشهد على ذلك قضية سلمان رشدي عندما تطرّق أركون -في مقال بصحيفة لوموند الفرنسية- إلى نطاق المقدّس الذي اخترقه الكاتب الهندي.

وانهالت على أركون ردود عنيفة شجبت رأيه واتهمته بالتطرف الديني، وهو الذي قضى حياته في عقلنة السؤال الديني في الإسلام وعلمنة الحياة السياسية المرتبطة به، ولكنه قابل ذلك بشجاعة نادرة مواصلاً عمله الفكري والنقدي بهدوء وحزم.

إهمال جزائري
وأبدى أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة الجزائرية فارح مسرحي أسفه على إهمال الجزائر لتراث أركون ولذكراه، فالتلفزيون الرسمي لم يشر مجرد الإشارة إلى رحيله، والجامعات لم تقم ندوة واحدة عنه.

وقال في تصريح للجزيرة نت "أليس حريا بنا -وقد تكاثرت الأسئلة في راهننا الممزق- أن نبحث في تراث مفكرينا عما من شأنه أن يسعفنا في هذه اللحظة الحاسمة، خاصة ونحن نسجل عقم وعجز مختلف التحليلات السياسية والإعلامية عن تفسير ما يحدث في البلدان العربية؟".

المصدر : الجزيرة