المركز والهوامش في الرواية الأردنية

تصميم لمقال الكاتب يوسف ضمرة لصفحة الثقافة

 

يوسف ضمرة

لا بد من الإشارة أولا إلى نقطتين على درجة كبيرة من الأهمية، هما التاريخ والجغرافيا وعلاقتهما بالرواية، ذلك لأن العنوان يوحي حتما بالدلالة على المكان، بما يشتمل عليه من وقائع وأحداث من جهة، وبما يحمل من قيم ومفاهيم وأفكار ومعتقدات، ضمن سياق تاريخي محدد بشروط أيدلوجية.

فغالبا ما يشير الدارسون إلى العلاقة بين الرواية والتاريخ، لكن الكثيرين يخلطون أحيانا بينهما، استنادا إلى اتكاء الرواية على وقائع وأحداث مجتمعية معروفة يقوم الروائي بسردها ضمن بنية إبداعية متخيلة. وهكذا يتم حرف الرواية من موقعها كبنية تاريخية زمنية إبداعية ونقلها إلى موقع الحكاية التاريخية، الساردة والمدونة لمجموعة من الوقائع والأحداث في مسار أفقي سطحي وهش.

في الوقت الذي بدا فيه المركز منفى وموطنا بين نص وآخر، فإنه بدا حقلا خصبا لاغتراب شخصيات التخوم، وهو ما عبرت عنه العديد من شخصيات الريف والبادية في كثير من النصوص الروائية الأردنية

فروق
وكثيرا ما جرى تسطيح العديد من الروايات العربية بناء على هذا الخلط في المفاهيم، كما جرت الحال مع روايات نجيب محفوظ  وغسان كنفاني ويوسف القعيد، وبعض روايات سميحة خريس وجمال ناجي وإبراهيم نصر الله ومؤنس الرزاز وهاشم غرايبة وإلياس فركوح وزياد قاسم وغيرهم. تماما كما جرى الخلط بين البنية الروائية والبنية السير/ذاتية في العديد من الروايات.

وعليه، فإن انتباهنا لهذه المسالة سوف يجنبنا الوقوع في المأزق ذاته آن الحديث في المركز والتخوم. أي أننا سنكون مدركين الفروق بين التاريخ الموضوعي والتاريخ المتخيل من جهة، وبين الثقافة الجغرافية الموضوعية والثقافة الجغرافية الروائية من جهة ثانية.

وعلى إدراكنا هذا أن ينبني على حفر عميق في بنية المركز الاجتماعية وفي بنية التخوم المغايرة، حيث يحتفظ كل منهما بخصوصية ثقافية ناشئة من الاختلاف بين سياقات ثقافية تفرضها التشكلات المجتمعية المتباينة في المراكز والتخوم، دون أن ننسى دور السلطة السياسية في هذا السياق.

ولأن المركز دائما يشكل بؤرة الإقليم، فإن السيطرة عليه تعني السيطرة على الإقليم كليا، ومن هنا كانت الحملات العسكرية والبعثات التبشيرية تتركز دائما على المراكز بغية امتلاكها، الذي يعني امتلاك الإقليم كله بفعل الجاذبية التي يتسلح بها المركز نفسه، في خلال تمركز السلطات وقوى الإنتاج الاقتصادية والثقافية والسياسية.

ولكي نكون أكثر تحديدا، فإن علينا الانتباه أيضا إلى مفهوم المكان، حيث يجري أحيانا تبادل أدوار بين بعض المفردات، كالفضاء والحيز والمجال للدلالة على المكان، وهو ما يعني الخلط هنا أيضا بين مفاهيم متباينة. وعليه، فإننا نرى أن مصطلح (البنية الجغرافية) بكل ما ينطوي عليه من أمكنة وأفضية ومجالات وحيوزات، قد يشكل بديلا ملائما.

استقر الكثير من الروائيين ذوي الأصول الفلسطينية في المركز ذاته، لكن جغرافية نصوصهم 
-بما انطوت عليه من ثقافة وشخوص ووقائع- كانت في أقاليم أخرى

المنفى والوطن
وفيما يخص الرواية في الأردن، فقد كان من الطبيعي أن يستولي المركز -العاصمة- على المشهد الروائي، نظرا لما يعنيه هذا المركز تحديدا من حيوية ثقافية، جرى اكتسابها في خلال سياق تاريخي مرتبط بحروب وهجرات وأزمات منذ تشكل الدولة الأردنية. فقد تعينت هذه العاصمة منذ مطلع القرن التاسع عشر، كمركز جذب تجاري وسياسي واجتماعي.

ما يعني أنها اكتسبت صفات المنفى بدءا من هجرات القوزاق، مرورا بهجرات السياسيين العرب من مناطق بلاد الشام، وهجرات الفلسطينيين منذ مطلع القرن المنصرم، وصولا إلى هجرة العراقيين الراهنة. وأخيرا هجرة العديد من العائلات العشائرية من الصحراء والريف.

هذا هو المشهد الديموغرافي لهذا المركز، خليط من الجماعات والأقوام والديانات يحمل في ثناياه ثقافات عدة متقاربة ومتباعدة. ولأن الثقافة تمتاز بالدينامية في جوهرها، فإنها تتحرك دائما وتتبدل وتمتزج وتتنافر.

ولكن ما هو أكثر أهمية هنا هو أن العاصمة الأردنية تفردت بوضع استثنائي مكّنها من أن تلعب دور المنفى والموطن في آن واحد، وهو ما يعني أن ثقافة الإقليم هنا ليست واحدة، ولم تتطور أو تتحول أو تتمظهر في نسق محوري صلب واحد. فبينما يشكل المركز بعامة مركز استقطاب الأطراف والتخوم، الريف والبادية، شكلت عمان مركز استقطاب جماعات من أقاليم ثقافية مغايرة.

وهذا يعني أن الفروق الثقافية بين المركز والتخوم هنا أصبحت أكثر عمقا، ولم تعد مجرد فروق في قوة العادات والقيم المشتركة وأنماط الإنتاج الاقتصادي والتحصيل العلمي.

لقد نشأت في المركز ثقافة مغايرة في جوهرها لثقافة التخوم، وإذا استطاع المركز -إلى حد ما- أن يستوعب هذه التحولات الثقافية القائمة على التاريخ والجغرافيا، فإن الجغرافيا الثقافية للتخوم أصبحت لها خصوصية تكاد تكون خصوصية إقليم آخر مختلف عن الإقليم الذي يشمل المركز.

وفي الوقت الذي بدا المركز منفى وموطنا بين نص وآخر، فإنه بدا حقلا خصبا لاغتراب شخصيات التخوم، وهو ما عبرت عنه العديد من شخصيات الريف والبادية في كثير من النصوص الروائية الأردنية.

وبمقدار التفاعل الحقيقي الذي حدث بين الثقافات المتباينة في المركز، فقد حافظت التخوم على روابط أمتن بالإقليم العربي، وتمكنت من لعب دور مباشر وفعال في القضايا العربية، انطلاقا من الوجدان الجمعي العربي الذي تراجع دوره وأثره في المركز لصالح الحركات والأحزاب السياسية، بأيدلوجياتها الجديدة على وعي الإقليم وثقافته.

ما هو أكثر أهمية هنا، هو أن العاصمة الأردنية تفردت بوضع استثنائي، مكنها من أن تلعب دور المنفى والموطن في آن واحد، وهو ما يعني أن ثقافة الإقليم هنا ليست واحدة، ولم تتطور أو تتحول أو تتمظهر في نسق محوري صلب واحد

انطلاق النص
وإذا كان المركز نقطة جذب التخوم واهتمامها، فإنه يشكل في الوقت عينه نقطة انطلاق النص وانتشاره، ما يعني استقطابه المواهب الكتابية، حتى لو كانت مرجعيتها الجغرافية في النصوص هي التخوم لا المركز ذاته. وهكذا انطلقت روايات التخوم من العاصمة، من روائيين استقروا في المركز لا في التخوم، كما فعل تيسير سبول وفؤاد القسوس وسميحة خريس وطاهر العدوان وهزاع البراري. وكما فعل غالب هلسا من قبل أيضا.

وبالطريقة ذاتها، استقر الكثير من الروائيين ذوي الأصول الفلسطينية في المركز ذاته، ولكن جغرافية نصوصهم -بما انطوت عليه من ثقافة وشخوص ووقائع- كانت في أقاليم أخرى؛ إما الوطن الأصلي فلسطين، أو المنفى الثاني -دول الخليج العربي تحديدا- الذي اضطر إليه كثير منهم، كإبراهيم نصر الله وجمال ناجي وقاسم توفيق وآخرين.

وحتى إلياس فركوح، الذي يمكن وصفه بالكاتب (العمّاني)، فإن مشهده الروائي كان أوسع بكثير، تبعا للتجربة الذاتية التي تشكل بعدا أساسيا في التجربة المسرودة.

وفي الأحوال كلها، فقد شكلت عمّان إقليما جغرافيا ثقافيا في نصوص الروائيين كلهم، بغض النظر عن أصولهم، كما هي الحال في كتابات مؤنس الرزاز وقاسم توفيق وجمال ناجي وإبراهيم نصر الله وزهرة عمر وزياد قاسم وسميحة خريس وهاشم غرايبة.

كيف بدا المركز في هذه النصوص؟ وما مدى تأثير ثقافة التخوم والأقاليم التي جاء منها هؤلاء الروائيون في رؤيتهم المركز؟ وما مدى تأثير المركز في رؤية التخوم بنيويا في هذه الروايات؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى دراسات نقدية تطبيقية، نتمنى رؤيتها في وقت قريب!

المصدر : الجزيرة