فؤاد رفقة.. رؤى الشاعر والفيلسوف

فؤاد رفقه

فؤاد رفقة من جيل شعراء مجلة "شعر" في لبنان

أنطوان جوكي-باريس

بوفاة الشاعر اللبناني فؤاد رفقة في بيروت الأسبوع الماضي يفقد الشعر العربي وجهاً بارزاً من وجوهه المحدِّثة ومبدعاً فريداً تمكن داخل عزلته الطوعية من خطّ مسارٍ طويلٍ ومليء بالإنجازات المهمة، بعيدا عن الأضواء والمواقع.

يعتبر فؤاد من جيل شعراء مجلة "شعر" البيروتية الطليعية، لكنه لم يسع كأدونيس ليكون الشاعر الأكثر شهرة، كما لم يجهد كأنسي الحاج للمحافظة على وضعية "الشاعر الأنقى" داخل هذه المجموعة (العبارة لأدونيس) قبل أن يتعثّر مؤخراً في رمال السياسة اللبنانية المتحركة، بل اختار طوعا البقاء حتى النهاية في مكانٍ أشبه بـ"خربة الصوفي" (عنوان أحد دواوينه) لخوض تأمّلاته الشعرية الفلسفية.

وفعلاً، يتجلى بسرعة لقارئ دواوينه ومتابع مساره تطوّر رفقة داخل موقعٍ ثابت، موقع الساهر ليلاً ونهاراً لترصّد تجليات المعنى النادرة بعيونٍ منفتحة بقلقٍ على العالم، ونظراً إلى استحالة التقاط معنى مشبِّع، سعى خلف العلامات والآثار، وسما بتجربته الشعرية إلى حدود التصوّف والنبوءة، من منطلق العلاقة الحيّة والثابتة لهذه التجربة بسرّ الكلمة الكاشفة.

ينبثق شعر فؤاد رفقة من وحدة رهيبة، وهي ليست الوحدة الناتجة عن العزلة والانطواء على الذات، بل وحدة الناسك الملائمة للاختمار

نفس فلسفي
يقول رفقة "التعبير الشعري هو علامةٌ، سهمٌ في اتجاه الحقيقة"، والشاعر هو إذاً ذلك الساهر بحواسٍ مشحوذة والقادر أحيانا على التقاط بريق تلك الحقيقة وترجمتها إلى كلمات.

ولذلك، يتوجّب على التجربة الشعرية عبور اختبار الصبر والانتظار قبل العثور على مفرداتها وشكلها وصورها. أما الشاعر فليس سوى وسيطٍ تعبر القصيدة من خلاله وتتجسّد.

ينبثق شعر فؤاد رفقة من وحدةٍ رهيبة، وهي ليست الوحدة الناتجة عن العزلة والانطواء على الذات، بل وحدة الناسك الملائمة للاختمار والنضج. وببساطتها تتمتّع قصائده ببصيرةٍ تتعذّر مناقشتها وتنبع في آنٍ واحد من تأملٍ عميق، ومن جهدٍ صياغي كبير ومن معرفة خاصة وواسعة بتاريخ الفكر.

ويفسّر هذا شعريته المشحونة بنفسٍ فلسفي، والفارّة عمداً من التعبيرية الذاتية المغلَقة لتشهد على تلك العلاقة الصامتة بين التجربة الشعرية والتجربة الفلسفية، وعلى تلاقي رؤى الشاعر ورؤى الفيلسوف وإن اختلفت أشكالهما التعبيرية.
 
ولا تتوق لغة رفقة إلى إيصال مضامينٍ أو استدلالات بقدر ما تسعى إلى عكس جوهرها بأكبر شفافية ممكنة. وبتجريدها من كل ما هو فائض أو يتعذّر قوله، منح الشاعر نفسه شكلاً صافياً سمح له بالفعل والمناورة في قلب اللغة ضمن هاجس توجيه الكلمات نحو أبعد نقطة ممكنة من الصمت.

ولد فؤاد رفقة في قرية كفرون السورية عام ١٩٣٠، واستقر رفقة مع عائلته في لبنان منذ العام ١٩٤٠، أكمل دراسته في طرابلس ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت، وحصّل شهادة ماجستير في علم الفلسفة ثم سافر إلى ألمانيا، وفور عودته في منتصف الستينيات عُيّن أستاذاً لمادة الفلسفة الغربية في الجامعة الأميركية ببيروت وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.

من ديوان إلى آخر، يبدو رفقة وكأنه يريد التعبير عن شيءٍ واحد وملاحقة هدفٍ واحد دائما ولكن بطريقة أدق وأكثر شفافية

عالم داخلي
إقامة رفقة الأولى في ألمانيا حيث حضّر شهادة الدكتوراه حول "نظرية الفن لدى هايدغر وأوسكار بايكر" هي التي أيقظت فيه اهتمامه بالشعر والفلسفة الألمانيتين وصقلت أسلوبه الشعري. فالأبحاث التي قام بها في إطار أطروحته قادته إلى هولدرلين، الملهم الأكبر لتأملات هايدغر حول الشعر والشاعر الذي دفعه إلى قراءة شعراء وفلاسفة ألمان آخرين.

وبعد انغماسٍ سعيد ومثمر، شعر رفقة بالرغبة في تقديم وترجمة إلى العربية لهولدرلين وريلكه وتراكل ونوفاليس ثم هايدغر وهيغل وشيلينغ ونيتشه وهوسّرل وجاسبرز، ويجب وضع هذا النشاط في سياق تعاونه مع مجلة "شعر" التي قادت في مجال الترجمة عملاً نموذجياً.

ويمكن استخلاص ثلاث مراحل داخل تجربة رفقه الشعرية: في البداية، تبدو قصائده كسفرٍ داخل ضبابٍ، تفسّره رغبة ثابتة في الرحيل، وبدلاً من الفضاء الخارجي تتم هذه الرحلات في عالم الشاعر الداخلي. ديوان "أنهار برية" (١٩٨٢) الذي يختم هذه المرحلة يعكس بقوة مواجهة رفقة مع الزمن وقلقه أمام التحوّل الثابت الذي يتحكّم بالعالم.

ومن الزمنية، ينتقل رفقة في مرحلة ثانية إلى الفضاء الجغرافي فيتملّكه الشعور بأن هذا الكون بعناصره المتنوّعة هو مكانٌ آمنٌ وملجأ يحمينا من سيولة الأشياء وانحلالها.

ويجب انتظار ديوان "جرّة السامري" (١٩٩٥) كي نشهد تصالُح مفهومَي الزمن والفضاء، الثابت والمتحرك، ضمن اندفاعٍ صوفي يمنح الشاعر الانطباع باندماج كلّي مع الكون. اندفاعٌ نستشفّه حتى في قصائده الأولى وعاشه رفقة حتى النهاية ضمن سياق بحثٍ روحي ووجودي شامل.

وهذا ما يجعلنا نشعر بخيطٍ خفي يعبر جميع أعماله الشعرية. فمن ديوان إلى آخر، يبدو رفقة وكأنه يريد التعبير عن شيءٍ واحد وملاحقة هدفٍ واحد دائماً، لكن بطريقة أدق وأكثر شفافية. ألم يقل بنفسه: "جميع قصائدي واحدة مع تنويعات في كل مرة حول المعنى".

المصدر : الجزيرة