سنة البوعزيزي بلا منازع

أمجد ناصر - البوعزيزي هو "أيقونة" زماننا الراهن والعادي، في ظل تعاقد اجتماعي غير عادي بين السلطة والناس

أمجد ناصر

هناك أسباب عديدة، ذاتية وموضوعية تتكون فيها "الأيقونة" (الرمز). قد لا يكون المقدَّس من بينها، ولكنه يمكن أن يصبح لاحقا أحد تجلياتها، بل بوسعه أن يصير في مراحل معينة من تطوّر الوعي البشري تجلّيها الوحيد وعلامتها المنقطعة عن أصلها.

تمّحي تدريجيا الأسباب "الأرضية" التي ساهمت في تكوين "الأيقونة"، ويتعالى المقدَّس في برج ترفعه أشواق الناس ورجاءاتهم وانعدام حيلتهم. يضمر "البعد الأرضي" حتى يضمحل، ويحلّق المقدَّس في عليائه، يعبر الأزمنة بغموضه وامتناعه عن الخضوع للعقلي والمنطقي ويكتسب منطقا خاصا به، منطق ينهل من عتمات إنسانية داخلية ومخاوف متيافزيقية لا يكفي "نور" العقل وحده لكشطها وتبديدها.

إن كان لهذا العام العربي الذي ينصرم، بكثير من الدم والحناجر الملتهبة والسواعد الشابّة المتوعدة "أيقونة" مُلهمة، فهو من دون شك بائع الخضار التونسي محمد البوعزيزي.

لو لم تكن تونس حبلى بانتظار تلك "الصفعة" وذلك الحريق الذي سرعان ما التهم جسد المواطن "النكرة" لما قدّر لاحتجاج البوعزيزي أن يتحول حدثا "منتظرا" يخترق الفضاء، الذي بدا قبله ساكنا مستقراً سكون المقابر واستقرارها

ليس البوعزيزي أول من يحتج على الظلم بحرق جسده. هناك كثيرون يفعلون ذلك من دون أن تشكل فعلتهم تلك خبرا في صحيفة أو صورة على شاشة تلفزيون. يحتاج الأمر إلى حاضنة، إلى بيئة، إلى فضاء جاهز لاستلام "الرسالة". وقد كانت تونس (ومن بعدها بقية العالم العربي) جاهزة تماما لاستلام رسالة "الفداء" تلك، حتى وإن لم يقصدها الشخص نفسه الذي أشعل النار في جسده.

لم يكن جديدا أن يصفع شرطيّ مواطنا في الشارع لسبب أو من دون سبب، هذا يحدث يوميا في شوارع العالم العربي، إنه الفعل "الطبيعي" لأدوات السلطة التي اطمأنت إلى جبروتها الكلي، وقدرتها غير القابلة للمساءلة على القهر، وخضوع الناس "التام" بالمقابل إلى هذا الشكل الشاذ من "التعاقد" الاجتماعي، حتى كاد الشذوذ في "التعاقد" الاجتماعي العربي بين السلطة والناس أن يتحوَّل إلى قاعدة من فرط ترسخه وعمومه.. بل وعاديته، فالشذوذ يتحوّل من فرط التكرار والاعتياد إلى "طبيعة أولى".

يحتاج الأمر إلى صدمة، إلى عكس الصرخة الفلسفية التي يبسطها بول ريكور في أحد تنظيراته "أنا لست لا شيء". يحتاج إلى صفعة مدوية، وهذا ما حدث. قامت الشرطية التونسية (التي ستدخل التاريخ من هذا الباب) بتوجيه صفعة "عادية" إلى وجه بائع خضار "عادي"، شخص لا يحمل اسما ولا موقعا اجتماعيا.

إنه المواطن، النكرة في عرف السلطة. غير أن تلك الصفعة "العادية" على وجه شخص"عادي" (ثمة من يجادل أنها لم تحصل) صنعت حدثا غير عادي بالمرة. وهذا، لعمري حدث تاريخي. أقصد كيف يتحول "العادي" إلى "غير عادي" ويغير مجرى الأمور كما استقرت عليه.

لو لم تكن تونس حبلى بانتظار تلك "الصفعة" وذلك الحريق الذي سرعان ما التهم جسد المواطن، النكرة، لما قدّر لاحتجاج البوعزيزي أن يتحول حدثا "منتظرا" يخترق الفضاء الذي بدا قبله، ساكنا، مستقرا سكون المقابر واستقرارها.

قطبا التيار الكهربائي اجتمعا معا وخلقا تلك الشرارة. إنه شيء يشبه اكتشاف النار، يحكّ رجلٌ حجرا على حجر فتقدح شرارة، ومن "الشرارة يندلع اللهيب" على حد قول لينين الذي أصبح شعارا لصحيفة "البلاشفة".

***

نحن ندخل التاريخ الذي حيل بيننا وبينه على مختلف المستويات، فمن الاستعمار الأجنبي إلى ما يسمى "الدولة الوطنية" انتقلنا من شكل من الاستبداد والنفي والنهب إلى شكل آخر منه

لم يكن ثمة من يعرف المواطن، النكرة (في عرف السلطة)، المسمَّى محمد البوعزيزي، وعندما تحول إلى "أيقونة" منتظرة راحت الأقلام تنسج رداء الأسطورة، فقيل إنه جامعي عاطل عن العمل، قيل إنه متضلع بالكمبيوتر، قيل إنه اضطر إلى بيع الخضار لمساعدة عائلته. وقد تكون هناك أقوال أخرى حاولت "أسطرة" الشاب العادي.

ولكنّ أمه نفت في حديث لصحيفة "التايمز" البريطانية أن يكون جامعيا، أو له صلة ما بالكومبيوتر. إنه مجرد شاب تونسي تجمَّعت فيه، من دون أن يدري أو يفكر، كل الأسباب التي جعلته "رمزا" للتغيير و"أيقونة" للثورة التي كانت تستجمع قواها الخفيّة، تحت السطح الساكن و"السعيد" للحياة التونسية.

وبهذا المعنى فإن البوعزيزي هو "أيقونة" زماننا الراهن، والعادي،في ظل "تعاقد" اجتماعي غير عادي بين السلطة والناس. إنه ابن الزمن العربي الذي طفح به الكيل وكان ينتظر من "يعلق الجرس". والغريب -ولكن الطبيعي أيضاً- أن "التايمز" اللندنية في سردها لـ"أسطورة" البوعزيزي قد لاحظت أن الثورة في تشيكوسلوفاكيا -السابقة- كان لها بوعزيزيها، وهو شاب يدعى "يان بلاتش"، الذي فعل بالضبط ما فعله البوعزيزي بعده بسنين: أحرق جسده!

***
دعونا نرى ما ترتب على فعلة البوعزيزي. على تلك النار التي التهمت جسدا شابا نحيلاً. التقط الديكتاتور، في ربع ساعته الأخيرة، صورة "تذكارية" و"تاريخية" فعلاً إلى جانبه عندما زاره في المستشفى.

لقد سقط ديكتاتور قرطاج المخيف، ثم عبرت نيران البوعزيزي فضاء شمالي أفريقيا، قافزة -إلى حين من الدهر ليس إلا- فوق ليبيا، لتنشب في مصر وتطيح "الفرعون" ثم لترتد إلى ليبيا فتطيح على نحو مروّع بأقدم ديكتاتور عربي، ثم لتجعل من طاغية اليمن جسدا يقاوم بكل تكنولوجيا التجميل العالمية الممكنة ترميم جسد محترق بعد تهاوي نظامه على وقع الحناجر المدوّية. ثم لتعبر سماء "المقاومة" و"الممانعة" وتهزَّ عرشاً ترصع بعظام ضحاياه على مدار أربعين عاما من التغوّل الأمني.

لو لم تكن لدينا مثل هذه الأنظمة القاهرة التي لا تقبل أبسط أشكال الإصلاح، لما كان مدخلنا إلى التاريخ جسدا محترقا وجموعا تتصدى إلى الرصاص بأجسادها المقهورة

هذا عام البوعزيزي.. بامتياز. عام النيران. عام الربيع المعمّد بالدم، فمن اعتقد أن الثورات العربية ستكون بردا وسلاما لا يعرف ماذا تعني الثورات، خصوصاً في ظل أنظمة استبداد مستعدة لحرق الأخضر واليابس دفاعا عما سرقته من شعوبها المجوَّعة، المُذلة والمُهانة. كلا، ليست الثورة مجرد صرخة احتجاج وينتهي الأمر، ليست نزهة في حديقة، ليست مجرد فكرة سديدة. إنها في أحيان كثيرة، دم، تخلخلٌ، تفكيك عنيف، إعادة بناء بالكامل. وهذا يقتضي هدما وتقويضا.

الفارق بيننا وبين دول أوروبا الشرقية التي ثارت ضد الاستبداد (رغم "اشتراكيته" و"ديمقراطيته الشعبية") ولم يرق على جوانب ثورتها الكثير من الدم، هو الفارق بين أمم أنجزت أطوارا من تقدمها على صعد مادية وثقافية متعددة وأمم حيل بينها وبين دخول الحداثة والعصرنة.. أي دخول التاريخ.

فنحن، بهذا المعنى، ندخل التاريخ الذي حيل بيننا وبينه على مختلف المستويات. فمن الاستعمار الأجنبي إلى ما يسمى "الدولة الوطنية" انتقلنا من شكل من الاستبداد والنفي والنهب إلى شكل آخر منه. لم تفتح "الدولة الوطنية" أفقا لشعوبها ولم ترس أسس التقدم والازدهار.

هكذا نرى بعض من أيدوا الثورات العربية في بدايتها يرتد الآن إلى الخلف، لأن الثورة خرجت من "نزهة" الحديقة ولم تعد "ربيعا" حافلاً بالورود والوعود السريعة. إنهم يعودون إلى أسطوانة "الاستقرار" في مواجهة الفوضى، و"البناء" في مواجهة الهدم. وهم بذلك، يعيدون الاعتبار إلى الاستبداد الذي لا يزال يقاوم بدباباته وكتائبه وإعلامه الصفيق رياح التغيير التي تهبّ عليه.

لو لم تكن لدينا مثل هذه الأنظمة القاهرة التي لا تقبل أبسط أشكال الإصلاح، لما كان مدخلنا إلى التاريخ جسدا محترقا وجموعا تتصدى إلى الرصاص بأجسادها المقهورة. لربما رأينا ثورة مخملية لم تصطبغ بالدم. ولكن الثورة تكون، كما يظهر لنا، على شكل النظام نفسه، ولهذا رأينا تدرجات في لون الدم العربي بين بلد وآخر.

سلام على روح البوعزيزي. سلام على أرواح الشباب الذين فتحوا أفقا في جدار الخوف والقهر والاستثناء من قوانين التاريخ.
_______________
شاعر وكاتب من الأردن

المصدر : الجزيرة