محمود سعيد ونطة الضفدع

حوار مع الروائي محمود سعيد - زهرة مروة - بيروت

الروائي العراقي اختار العودة للثمانينيات بعد تناوله في أعمال سابقة الواقع الحالي (الجزيرة نت)

زهرة مروة-بيروت

تم اختيار روايته "أنا الذي رأى – مدينة صدّام" بين إحدى أفضل 57 رواية في العالم بحسب الموقع الأميركي الشهير "شؤون المكتبة – نيويورك"، كما أشادت بها مجلة الـ"نيويوركر"..

الروائي العراقي محمود سعيد يُصدر اليوم رواية جديدة بعنوان "نطة الضفدع" يُسلّط فيها الضوء على مرحلة الثمانينيات، وخصوصا مرحلة الصراع بين التنظيمات الفلسطينية في لبنان.

يرى الروائي الذي يقيم في الولايات المتحدة الأميركية أن الثورات العربية العربية تحتاج إلى الدراسة بشكل منفصل لاختلاف المعطيات من دولة لأخرى، ففي وقت يؤكد أن نجاح الثورة المصرية يقاس بمدى قدرتها على إعادة الجيش إلى ثكناته يعتبر أن الموضوع السوري معقد ولا تتسع تفاصيله لهذا الحوار الذي خص به ""الجزيرة نت".

undefined يوحي عنوان روايتك الأخيرة "نطة الضفدع" بأكثر من فشل تتناوله الرّواية، يعبر عن هزيمة البطلين أم فشل التّنظيمات الفلسطينيّة، فأي فشل قصدته تحديدا من العنوان؟

محمود سعيد: كلها، نحن شعب مهزوم وفاشل، والرّواية إشارة إلى بعض الحلقات في هذا المسلسل الهائل من الإخفاق والذلّ والانحراف عن الهدف والذّات والمبادئ، أردتُ أن أعبّر عن فشلنا نحن الشّباب "آنذاك" في فهم طبيعة صراعنا مع أعدائنا، ومغزى ودور المنظمات الحزبيّة "النّضاليّة" والمبادئ التّي رست عليها، وكيف خدعتنا، وظللتنا، وكيف اُستغلّتْ عواطفنا وجيوبنا وحرفتنا عن الاتجاه الصّحيح. فمنذ ستين سنة وإلى حد الآن بحّت حناجر الخطباء والمناضلين، وجفّ حبر أقلام الثّوريين، وتبعثرت أهداف "الرفاق"، لنكتشف بعد هذه المدة الطّويلة من النّضال أنّ كلّ ذلك وهم وبناء من رمل وملح، تهاوى إلى عدم، وأن المناضلين والثوريين والرفاق مخروقون مخادعون يعملون ضد مصالح شعبهم، ويساهمون بتزييف القضيّة وقتلها.

لم يبق من تلك الكميّة الهائلة من الزّيف سوى ثروة ماديّة بائسة يتخم بها أولئك المخادعون معداتهم. ستون سنة من النّضال تفضي إلى الاعتراف بالخصم والحصول على أقل من 18بالمائة من أرض وطن يقضِم منه حليفنا اللدود كلّ يوم لقمة.

هناك جرائم اقترفها النّظام العراقي الحالي ضد العراقيين لا تغتفر قط، إنها تشبه جرائم النّظام السّوري ضد شعبه، لكن جرائم المنظمات الفلسطينيّة والسّلطة الفلسطينيّة لا تقلّ عنها، أنظري على سبيل المثال إلى الفلسطينيين المبعدين من العراق، قتل الكثيرون منهم بدون ذنب، وأخرجوا من بيوتهم، وانتزع منهم ما حصلوا عليه طيلة عمرهم كلّه، ورموا على الحدود سنين في الحرّ والقرّ والرّياح، ومع ذلك لم تبادر السّلطة الفلسطينيّة ولا حركة حماس بإنقاذهم، واحتضانهم في وطنهم، بل تركتهم للبرازيل التّي رمتهم في الشّوارع، يعتدى عليهم مرة أخرى، وتنتهك حقوقهم الإنسانيّة، ويقتلهم الجوع والمرض، فهل هذه منظمات محترمة؟ ألا تستحق الكشف والزّراية؟

من يقرأ الرّواية ينتهي إلى حقيقة أن المنظمات الفلسطينيّة بالذّات نشأت على الغش وحرف مقارعة الخصم، ولذا لا يفاجأ المرء بما انتهت إليه بعد عقود النّضال المزيّف من هزيمة وخضوع للعدو، فمن يزرع الخداع يحصد الفشل، ومن يكذب على جماهيره يفقدها ويواجه عدوّه عارياً ضعيفاً بلا سند لينتهي إلى لا شيء.

undefinedلماذا العودة الى زمن الثّمانينيات في العراق، ألا يستحقّ ما يجري في العراق اليوم أن يُكتب عنه حيث نسبة العنف فيه لا تقلّ عن ذلك الزّمن؟

غلاف رواية نطة الضفدع (الجزيرة نت)
غلاف رواية نطة الضفدع (الجزيرة نت)

محمود سعيد:  نعم، نسبة العنف في العراق ومستواه بعد الاحتلال أشدّ من ذلك الزّمن، وأقوى، وأقسى، وأكثر وحشيّة، لقد خصصتُ العنف في العراق برواية كاملة "الشّاحنة" (دار شمس. القاهرة 2010) وصفتُ بها قتل مئات الألوف بقلب أقسى من الحجارة، وصفتُ بها أجواء تصفية الأبرياء في العراق سنة 2005-2008، وصفتُ بها قتل المواطن العراقي المسالم بوساطة "الدّريل" والسّاطور، وفقأ الأعين وتقطيع الأوصال، وصفتُ بها مجرمين كبارا "أبو درع- صولاغ" كما لم يوصفوا من قبل، وتطرقتُ إلى أمور لم يتطرق إليها أحد..

وبينتُ في الرّواية أشياء ظهرت بعد "ويكيليكس" بأكثر من ستة أشهر، وصفتُ بها ما يحدث في السجون السريّة العراقية والسورية معاً، في الطريقة نفسها التي تكلّمت بها عن السجن في زمن صدّام، وكنتُ الرائد في ذلك، تكلمتُ عن السجن في العراق الآن، والسجن في سوريا الآن كما لم يتكلم أحد من قبلي. تكلمت عن المهجرين ومعاناتهم، وتكلّمت عن الأطفال الذين وصلوا سوريا هاربين من الجحيم، ولا يعرف أحد كيف وصلوا، لأنهم كانوا وحدهم بدون ذويهم.

وفي مجموعتي قصص "الجندي والخنازير" و"مساء باريس" تكلّمت عن استهتار القوات الأميركيّة والمليشيات الطائفيّة وقتلها للعراقيين المدنيين بدون ذنب، عن الأطفال الأيتام، عن ضحايا الحرب، عن مقاومة الأميركان المشروعة، عن مقاومة الشعب لحكومة حيوانات المنطقة الخضراء المتوحشة. لا أظن أن أحداً غيري كتب عن كلّ هذه القضايا. كنت وما زلت أعبر عن مآسي شعبي، ولهذا أدرجتِ المليشيات الإجرامية اسمي في قائمتين للقتل.

undefinedعارضت نظام صدّام حسين ومُنعت رواياتك آنذاك، واليوم انت تعارض النّظام الجديد في العراق. ألا تعتقد بوجود امكانية لخلق مساحة مشتركة بين المثقف والأنظمة.. أم أن المعارضة هي المكان الوحيد للمثقف؟

محمود سعيد: هنا في أميركا يعتبرون معارضة النّظام، وفضحه، والتّهجم عليه موضوعاً شخصياً، فمن يفعل ذلك لا يسجل نقطة لصالحه، ولا تنقص نقاطه الجيدة قط. موضوع كغيره، كأيّ حدث في الحياة. اكتبي عن حاضنة الأطفال، عن حادث سير، عن خيانة زوج أو زوجة، عن مصاص دماء مسيحي أو يهودي، عن التخريب الإسلامي أو الزنجي، عن المثلية، عن حريق الغابات، عن عقوق الوالدين،  كل الموضوعات سواء.

ما يلتفت إليه هنا الكتابة النوعية، والأسلوب الجيد، والموضوع فائق الاختلاف والإثارة. ما يُحترم هنا التّمكن من أدوات الكتابة وإخراجها بأفضل صورة فقط. أما في الأدب الأوروبي فلا، لقد ذهب إلى العدم كل من أشاد بالنازية، ونسي القراء كل من مجّد قادة الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، لكن القارئ المثّقف في جميع أنحاء العالم يحترم كُتاب أميركا اللاتينية الذين يقارعون الدكتاتورية، وينظر القارئ الأميركي نظرة مغلّفة بالإثارة إليهم، ويتساءلون لماذا يختار هؤلاء الكتاب موضوعات سياسية دون غيرها؟ أقول لأصدقائي من الكتاب الأميركان إننا مثلكم نكتب عن كل شيء، لكن لأن ضحايا السياسة في أوطاننا يفوق ضحاياه هنا، ويفوق ما يسقط في أي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية لذا ترى معظم ما يطفو على السطح من كتابتنا موضوعات سياسية.

لم يكن في ظني"ككاتب" أن أكتب عن قضايا سياسية مطلقاً، كتبت بروح إنسانية، لكن السلطة لا ترضى عن ذلك. فهي تضطهد كل من يعالج مشاكل الوطن. وعندما تمارس التعسف ضد الكاتب يظهر الكاتب وكأنه يفضل الموضوعات السياسية. وهذا غير حقيقي.

أما النقطة الثانية التّي أثارها السؤال حول إمكانية خلق مساحة مشتركة بين المثقّف والأنظمة" فهي موجودة فعلاً، فالأدباء الذين يوالون السلطة بغض النّظر عنها سواء أكانت سلطة صدّام حسين أم سلطة المالكي يفوقون عدة مرّات الكتّاب الذين يعارضون السلطة. إنها قضيّة اختيار لا غير. أنا أختار من يقف مع المواطن العراقي البريء الضّعيف ضدّ مضطهده.

undefinedاليوم أنت موضع اهتمام في الصحافة الأدبية الأميركية ورواياتك تترجم تباعا. هل تعتقد أنّ عيشك في أميركا هو من سهل ذلك؟ وماذا عن مقروئيتك في بلدك العراق؟

عندما انتصر الشعب في مصر، وانصاع المجلس العسكري للشعب، قلت في ندوة في جامعة ديبول إن المجلس العسكري يحني رأسه للعاصفة، لكن سيرفعه حينما يهدأ الشعب، وخالفني الكثير لأني مرة أخرى وقفت ضد التيار

محمود سعيد: بدأ الاهتمام بي بعد ترجمة "أنا الذي رأى – مدينة صدّام" واستمر بشكل بطيء إلى حدّ الآن، ولا بد أن وجودي في الولايات المتحدة سهّل ذلك، لكن من كتب عني أو أشار إلى جهات لم أعرفها، ولم أتصل بها قط، فطريقة الاهتمام هنا تختلف عن العالم العربي، هنا ينظرون إلى قوّة العمل فقط، أما في الوطن العربي فينظرون إلى الولاء الطائفي والسياسي والشخصي والوساطات، ونادراً ما رأيت عملاً جيدا أثار انتباه المثقفين والنقاد كما كان يحصل قبل السبعينيات عندنا في الوطن العربي، ولّى ذلك الزمن، والروائي المحظوظ من يجد ناقداً يكتب عنه لا يعرفه، وهذه ظاهرة سلبية ومشينة.

 أما عن مقروئيتي في العراق والوطن العربي فأظنها صفرا، أو لا تتجاوز أصابع اليد، لأني أنشر خارج العراق، والعراقي والعربي في معظم الدول العربية الآن لا يستطيع دفع بضع دولارات ثمن كتاب، إضافة إلى أننا بشكل عام شعب لا يقرأ، وإن قرأ فلا يملك أدوات التّقويم.

undefined في الرواية العراقية لمن تقرأ اليوم؟

محمود سعيد:
 أنا بعيد عن العراق، وعندما ذهبت في الصيف الماضي بعد عقود طويلة من الغربة، لم يتيسر لي الوقت للاطلاع على ما نشره الجيل الجديد مع الأسف. لكني أخطط لزيارة أخرى أرى فيها أصدقائي، وآمل أن أجد الكثير وأقرأ الكثير.

undefined أخيراً، ما رأيك بالثّورات العربيّة اليوم. وهل تعتقد بأنها "نطة ضفدع" أيضا؟

محمود سعيد: أظن أن على المعلق على الثّورات العربية أن يدرس كل ثورة بشكل منفصل كحالة خاصة، وليدة ظروف معينة، فأنا لا أعرف عن تونس وليبيا إلا ما أراه في الأخبار، لكني أعرف عن سوريا ومصر كما أعرف عن العراق، وعندما انتصر الشعب في مصر، وانصاع المجلس العسكري للشعب، قلت في ندوة في جامعة ديبول إن المجلس العسكري يحني رأسه للعاصفة، لكن سيرفعه حينما يهدأ الشعب، آنذاك سنعرف من المنتصر ومن المهزوم. وخالفني الكثير لأني مرة أخرى وقفت ضد التيار.

ولكي نفهم الوضع في مصر علينا أن ندرك أن مشكلة الجيش قديمة جداً، فقد أعاد عبد النّاصر بناءه على مبادئ سريّة لا يعرف عنها شيء خارج المختصين من المصريين، وأهم تلك المبادئ الامتيازات، ولعلّكِ تذهلين إلى جذور الجيش المصري في التغلغل للسيطرة على مصادر الثّروة في البلاد.

فمقابل التهرب من دفع الضرائب بنت معظم الشّركات في مصر "صغارها وكبارها" علاقات مع الجيش، (عش واتركني أعش) فالشركة تموت إن لم تشارك الجيش، ولا تزدهر ولا تتطور.

وسيبقى الجيش المصري سيفاً مسلطاً على الشّعب "لا على العدو" إن لم يتنبّه الثّوار، ويعزلوه في ثكناته، أما إن ظلّ يرأس السلطة في البلد، فهذا يعني أن مبارك باقٍ في الحكم باسم آخر، ولا ثورة ولا هم يحزنون.

انتصار الثورة المصرية يعني الانتصار على الجيش المصري فقط، لا على مبارك ولا على أي شخص آخر أو مجموعة أخرى. وإن تمّ هذا فستشرق الشمس من جديد.

أما في سوريا فالموضوع أعقد ويحتاج إلى تفصيل آخر لا محل له هنا. لكن أثق بالشعب العربي كله ولابد أن ينتصر يوما ما من دون محال.

المصدر : الجزيرة