منعطف جديد في تاريخ الكتابة

هناك زائر يأتي لا ليكون ضيفا بل ليهدد بإخلاء البيت من صاحبه، هذا ما يبدو عليه هجوم الظاهرة الرقمية على عالم النشر الورقي

أمجد ناصر

منذ نحو خمسة آلاف عام بدأت الكتابة، ليس هناك تاريخ دقيق للحظة ولادتها ولكن هذا ما يجمع عليه المختصون. حدثت تلك النقلة الحاسمة في تاريخ البشرية، على ما تقول المصادر التاريخية في بلاد الرافدين، فقد صارت للإنسان مع استيطانه وتمدينه، حاجة إلى التدوين سواء تعلق الأمر بشؤونه الروحية والثقافية أم بمعاملاته الدنيوية.

ومثلما بدأت اللغة بإشارات وإيماءات كانت الكتابة رموزا وصورا، قبل أن تتحول إلى أبجدية صوتية تجهد لتدوين الكلام والأفكار والمعاملات والأرقام وإشاعتها على نطاق صار يصعب اليوم تصور مداه.

إننا أمام لحظة مفصلية كبرى في تاريخ الكتابة كما عرفها البشر عبر قرون طويلة

رحلتنا مع الكتابة قديمة، إنها اللحظة الملهمة التي اكتشف فيها الإنسان شيئا آخر غير عضويته شبه الخام، لحظة تساؤله عن ذاته ووظيفتها في الكون ومحاولته التعبير عنها على نحو يتلاءم مع تعقيد هذه الأسئلة، أبعد من رسم الكهوف، أكثر جدلا وتعقيدا من صور الأشياء. إنها لحظة تدوين السؤال والمعنى، لحظة تحقق باهرة على طريق الشرط الإنساني. فما الإنسانية من دون كلمات ومعان؟ ما هي من دون تعبيرها عن وجودها وأشواقها وقلقها ومطامحها؟

لم يكن ممكنا للإنسانية أن تتحقق من دون كلمات، من دون كتابة، مغادرة الإنسان لعجمته ليست في اكتشافه النطق بل بتدوين هذا النطق وتحويله إلى تعبير، ولكن الكتابة تحتاج وسيطا كي تنتقل. كان الوسيط الأول، كما نعرف الرُّقم الطينية. كان كتبة الألواح الأولى ينقشون على الطين وهو طري بأداة ذات سن رفيعة، قيل إنها من البوص، هل كانت تسمى أقلامًا؟ ربما. ولكن ذلك الحفر على الطين هو أول أشكال الكتابة المتداول وتلك الألواح الطينية هي أول خطى رحلة الكلمة الطويلة، وتلك الأدوات الحادة ذات الأسنان الرفيعة (من البوص أو غيره) هي أول الأقلام.

لكن دخول الورق على الكتابة هو الذي غيرها، سهل مهمة نقلها وإشاعتها وأخرجها من المعبد والبلاط وصالونات النخبة المحظوظة إلى هواء الشارع الطلق وجعلها أكثر ديمقراطية.

النخبة المثقفة في أميركا تقول إنه بزوال الصحيفة الورقية يتهدد الكيان الديمقراطي الأميركي، ويزول عامل رقابة حاسم على أداء المؤسسات العامة

من المرجح أن يكون الصينيون هم الذين قدموا هذه الهدية الثمينة للإنسانية. حدث ذلك، كما تقول المصادر التاريخية في القرن الأول الميلادي، ذلك الورق الصيني مختلف عن ورق البردي الذي عرفه المصريون في فترة أقدم، فهو أكثر صلابة وقابل للطباعة التي ستأتي لاحقا. أيا يكن الأمر، سواء كان ورق كتابتنا الأول قادما من الصين أم من مصر، فقد ظل وسيط الكتابة قرونا. كانت هناك جلود الحيوانات، والعظام، والفخار، غير أن الورق هو الذي سيكتب له شرف احتضان إرثنا الكبير من ثقافة الأسلاف.

لكن يبدو أن تاريخ الكتابة ووسائطها -التي تساوي تاريخ الإنسان- كانَا على موعد حاسم، أمام نقلة لم يكن ممكنا تخيلها قبل عشرين سنة فقط. عشرون سنة تتحدى عشرين قرنا. عشرون سنة تهدد بإرسال عشرين قرنا إلى المتحف! من كان يتخيل أن الورق والقلم والحبر، هذه الأدوات النبيلة التي رافقت الإنسان المتحضر طويلا، ستكون أمام مفترق طرق قبل أن يدخل الكمبيوتر؟ ولكن هذا ما حدث.

ليست صرخة روبرت ميردوخ، أحد أبرز أباطرة الإعلام في العالم، التي نعت "عصر الورق" هي التي تدلنا إلى هذا التحول الدراماتيكي الذي يعرفه عالم المطبوعات والنشر اليوم، كلا. لقد رأينا هذا التحول يحدث سريعا أمام أعيننا إلى حد أنه يسبق تفكيرنا فيه والتأمل في مصائره.

لكن تلك الصرخة أو ذلك النعي، من رجل كميردوخ يعني، في سوق الطباعة والنشر، الشيء الكثير. هناك عالم كامل، تاريخ حافل يوضع، رغما عنه، أمام مفترق طرق. هناك تحديات يطرحها التسارع التكنولوجي على عملية الكتابة والقراءة كما عرفها البشر قرونا طويلة. إنها تحديات تتعلق بالوجود نفسه، لا في مظهره وشكله فقط.

من كان يتخيل أن الورق والقلم والحبر، هذه الأدوات النبيلة التي رافقت الإنسان المتحضر طويلا، ستكون أمام مفترق طرق قبل أن يدخل الكمبيوتر؟ ولكن هذا ما حدث

تكون أو لا تكون. هذا هو السؤال الذي تطرحه علينا التكنولوجيا، في عصرها الرقمي المتسارع، اللاهث وراء جديد لا يلبث أن يغدو قديما بعد وقت قصير. فهل تواصل المطبعة والورق والأحبار وشبكات التوزيع وأكشاك البيع التي تنخرط في عملية النشر الورقي (الصحف، المجلات، الكتب) المهام التي درجت عليها أم أنها ستعيد تكييف نفسها مع الزائر الرقمي الذي يبدو أنه جاء ليقيم؟ هل تضمحل تدريجيا إلى أن تختفي؟ ما هو تأثير هذا الزائر الرقمي الذي طلع من قبعات سحرة التكنولوجيا على جوهر الكتابة وشكلها؟ أي نوع من الكتابة والكتاب ستأتي بهما الرقمية على حياتنا؟

هذه أسئلة مؤرقة. ليست مشابهة أبدا للأسئلة التي طرحها تأثير مجيء التلفزيون على السينما كما يشاع، فقد رأينا التلفزيون -الذي تخوف منه البعض على السينما- يصبح وسيطا جديدا للسينما وخادما لها. فقد ظلت السينما تصنع نتاجها بشروطها ذاتها. صحيح أن تلك الشروط تطورت، ولكن ليس خشية من تهديد الوافد الجديد الذي يبث صورا هو أيضا وينتج دراما تشبه دراما السينما، بل استجابة لنهم الفن في تجديد ذاته وتحسين شروطه.

ظل الأستديو السينمائي هو نفسه، نتاجه ظل يتواصل ضمن تحديات عمله، ولم يفعل التلفزيون، الذي شهد تطورات متسارعة في طبيعة وشكل عمله، سوى أن يعمم السينما. أن يخرجها من  الصالة المعتمة إلى بيوت الناس حول العالم وإن يكن بصورة مختلفة وشروط تلقٍّ مغايرة.

هذا هو التكيف الوحيد، تقريبا الذي اضطرت السينما إلى الخضوع له. لكن ما يحدث على جبهة الكتابة المنشورة عبر وسائطها "التقليدية" مختلف تماما عن المثال السابق، فالزائر الرقمي على عالم النشر يحمل الملامح نفسها التي يحملها النشر الورقي. إنه يستخدم تقريبا اللغة نفسها والحروف ذاتها  ويعمل على تأدية الغرض نفسه.

بوسع كتابة الإنترنت أن تكون مجهولة النسب والاسم والمصدر، فكيف يمكن تلقي كتابة لا تحيل إلى مرجع ولا تجهد في سبيل حجة ولا يعنيها بيان ولا تقيم في حيز مساءلة ما؟

فما الفرق، حتى الآن بين المقال المكتوب على الموقع الإلكتروني والمقال المكتوب في الجريدة أو المجلة؟ لقد قدم التلفزيون نتاجا مختلفا تماما عن نتاج السينما: برامج الترفيه والأخبار والطبخ والأزياء والطقس والمسابقات والتنجيم والغناء والرياضة إلخ.. لكن النشر الإلكتروني يفعل بالضبط ما تفعله وسائل النشر الورقي. أتحدث هنا عن المواد والغايات والمقاصد وليس عن شكل الوسائط وآليات عملها. إذن هناك وسيط يبدو أنه يأتي ليحل محل وسيط آخر وليس لكي يجدده أو يحفِّزه على تحسين شروطه. هناك زائر يأتي لا ليكون ضيفا بل ليهدد بإخلاء البيت من صاحبه، هذا ما يبدو عليه هجوم الظاهرة الرقمية على عالم النشر الورقي.

ومع اتساع عدد المتصلين بالشبكة العنكبوتية قل عدد الذين يبتاعون الصحيفة والمجلة الورقيتين، وهذا خبر سيئ للصحف والمجلات الورقية، إنه تهديد للوجود نفسه. فكيف يمكن للصحيفة والمجلة الورقيتين مواصلة الحياة في الوقت الذي تتراجع فيه مبيعاتهما وتتغير فيه أنماط تلقيهما. هل تقفل الصحف والمجلات الورقية مواقعها الإلكترونية أم تتقاضى رسوما على تصفح تلك المواقع؟ واضح أنه لا يمكن للصحف والمجلات أن تقفل مواقعها وتعود إلى بيتها الحصين: الورق، ولكنها أيضا لا يمكن أن تقبل بتواصل نزف مصدر رزقها: التوزيع والإعلان.

النخبة المثقفة في أميركا -أكثر البلدان تضررا مما جرى لعالم الصحافة الورقي- تقول إنه بزوال الصحيفة الورقية يتهدد الكيان الديمقراطي الأميركي ويزول عامل رقابة حاسم على أداء المؤسسات العامة. ولن تكون الصحافة الإلكترونية بديلا صحيا للصحافة الورقية، فعالم صحافة الإنترنت، لفرط فرديته وتشتته، تتحكم فيه الأهواء وتعمه الفوضى، فيما تتحلى الصحافة الورقية بمصاف و"شبكات أمان" للأخبار والتعليقات(المواد المنشورة عموما) لا تعرفها صحافة الشبكة العنكبوتية.

هذا المثال بارز في العالم العربي، صحيح أن "صحافة" الإنترنت رفعت سقف الكلام السياسي واخترقت التابوهات التقليدية وعممت مواد لا تنشرها الصحافة الورقية ومكنت أعدادا أكبر من الناس من التعبير عن نفسها، ولكنها فعلت ذلك بكلفة كبيرة على اللغة وسلامة التعبير وأحيانا على الذوق العام وحق الأفراد في صيانة خصوصياتهم، وفي غياب ضوابط ناظمة لعمل المواقع الإلكترونية "ضاعت الطاسة" كما يقول المثل الشعبي.

مع اتساع عدد المتصلين بالشبكة العنكبوتية قل عدد الذين يبتاعون الصحيفة والمجلة الورقيتين، وهذا خبر سيئ للصحف والمجلات الورقية. إنه تهديد للوجود نفسه

لست، قطعا، من المدافعين عن الرقابة الرسمية التي تفتك بالصحافة الورقية قبل غيرها، ولست من دعاة القيم التقليدية ولست ضد اتساع نطاق حريات التعبير، ولكني ضد تحول الإنترنت إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية وتحطيم اللغة وإشاعة الركاكة. ضد أن يصبح، كما وصفه محمود درويش مرة، كتابة مراحيض. ليست لأنها كتابة في مكان غير نظيف ولكن لكونها تحدث في غياب من تُكتبُ ضده. فبوسع كتابة الإنترنت أن تكون مجهولة النسب والاسم والمصدر، فكيف يمكن تلقي كتابة لا تحيل إلى مرجع ولا تجهد في سبيل حجة ولا يعنيها بيان ولا تقيم في حيز مساءلة ما؟

فعلى الكتابة أن تكون كتابة في المقام الأول، أن تحقق شروطها التي تجعل منها عملاً معرفيا ينهض بالشرط الإنساني، بصرف النظر عن الوسيط الذي تتخذه في سبيل ذلك. هل هذا الكلام تجديد للتقليدية؟ هل يصدر عن ذات محافظة أو شبه محافظة؟ إنه يبدو كذلك للوهلة الأولى. غير أنه في العمق ليس كذلك.

خلاصة القول: إننا أمام لحظة مفصلية كبرى في تاريخ الكتابة كما عرفها البشر عبر قرون طويلة. ليس كل قديم جيدا وكل جديد فوضويا، فالجديد نفسه لا يلبث أن يصبح، في نهر هيرقليطس، قديما.

المصدر : الجزيرة