هموم جزائرية في "مينوتور 504"

غلاف كتاب مينوتور 504 للكاتب الجزائري كامل داوود

غلاف المجموعة القصصية "مينوتور 504 " للكاتب الجزائري كامل داود (الجزيرة نت)

أنطوان جوكي-باريس

أدرجت لجنة جائزة "غونكور" الفرنسية للقصة القصيرة مجموعة "مينوتور٥٠٤" للكاتب جزائري كامل داود على لائحة الكتب المرشّحة هذا العام لنيل هذه الجائزة. فعلى مستوى المهارات الكتابية الموظفة في القصص الأربع التي تتألف منها هذه المجموعة، أو الجرأة والبصيرة في معالجة موضوعها الثابت، أي وضع الجزائر المخيف اليوم، يستحق الكاتب هذا الاهتمام.

وأول ما يشد القارئ في هذه االمجموعة القصصية الصادرة عن  دار نشر "سابين فسبيسر" بباريس هو الأسلوب السردي الذي اعتمده داود لخط ترجمة دقيقة وقاتمة للجزائر، فبين واقعية فجة أحيانا ورمزية عالية، يتجلى هذا البلد كما لو أنه نائم على حافة هاوية.. هاوية الماضي الذي ما برح يبتلعه.

ففي القصة التي تحمل عنوان الكتاب، نقرأ حوارا داخليا طريفا لسائق سيارة أجرة انخرط أثناء عشرية العنف الأخيرة في الجيش للمدافعة عن عاصمة بلده، فوجدها "أشبه بضابط برتبة عالية قادر على التهام شخصٍ بعينيه، وعلى سرقة الخبز أو إخفاء أحد ما باتصال هاتفي أو حتى بتلكس".

وفي معرض سرده للجالس بجواره قصة علاقته الخائبة بهذه المدينة ومسلسل خياناتها له، لا يهمل السائق المناطق الجزائرية الأخرى حيث "كان الأصوليون قادرين على قتل أمك وأبيك وكل قبيلتك دون أن يحدث ذلك ضجة أكثر من رش مبيد للحشرات"، أو وضع العاصمة اليوم التي لم يعد فيها أي شيءٍ أبيض يبرر تسميتها "بالجزائر البيضاء"، بعدما أصبحت "ملكية اللصوص في الليل والأقوياء في النهار".

الكاتب الجزائري كامل داود (الجزيرة نت)
الكاتب الجزائري كامل داود (الجزيرة نت)

سخرية مُرة
وفي قصة "جبريل بالكيروسين"، نتعرف على ضابط طيار في الجيش الجزائري استطاع ابتكار طائرة من لا شي تقريبا، ونجده واقفا في "معرض الجزائر الدولي" أمام ابتكاره لا يقترب منه أحد، فينطلق في تأملٍ مثير يقوده إلى جملة استنتاجات مريرة أبرزها أن "الإنسان العربي يبلغ دائما شهرة أكبر حين يخطف طائرة منه حين يصنعها"، وأن سبب فشله في إثارة فضول الجموع بابتكاره هو النعاس الخارق لشعبه الذي -بعدما استمع إلى القصة المجيدة لثورته- نام ولم يصحُ بعد.

يقول الضابط في القصة "شعب فارغ من الداخل منذ فترة طويلة جدا، يعيش تحت الأرض من كثرة ما يحب جذوره ويتكلم عنها، ويعتبر الطيران في  السماء حكرا على العصفور والأميركي والطائرة المستوردة والميت.. لذلك تهابني الجموع كما تهاب مرض الطاعون".

وفي قصة "صديق أثينا"، نستمع إلى ما يدور في خلد عدّاء جزائري أثناء مشاركته في سباق عشرة آلاف متر خلال الألعاب الأولمبية بأثينا.. استمر العدّاء في الجري حتى بعد تخطّيه خط النهاية وربحه السباق، كهارب لم يعد يصدق ما كان يثيره في السابق.

ولا عجب في قراره حين نعلم أنه -لحث رجليه على الركض خلال هذا السباق- "تخيّلتُ نفسي أركض وفي يدي أول رسالة كتبتها لطلب عمل.. أركض في البلديات.. أركض لتسديد الفواتير.. أركض خلف حافلة أقلعت قبل الأوان.. أركض أمام شرطة بلدي التي أرادت تطويق طفْح كيلي بطرادات الثلج.. أركض خلال أيام الرعب الرمادي يوم الخامس من أكتوبر ١٩٨٨.. أركض كي لا أفوّت حلقة من مسلسل "رأفت الهجان" الذي لطّف قليلاً هزيمتنا أمام إسرائيل".

أما ما حاول العدّاء الهروب منه بهذا القرار فهو ما اقترفته يداه حتى قبل أن يولد.. "نوعٌ من الجريمة أو الجبن أمام النساء اللواتي لم نعرف أبدا كيف ندافع عنهن أمام المحتل على مدى قرون، أو لعلي كنتُ أهرب من جثة متشبثة بعنقي كتوأم مرعوب".

أول ما يشدنا في هذه المجموعة القصصية هو الأسلوب السردي الذي اعتمده داود لخط ترجمة دقيقة وقاتمة للجزائر

أصوات الجزائر
أما في القصة الرابعة والأخيرة التي تحمل عنوان "مقدّمة الزنجي" فتحكي عن عجوز أميّ يستدعي كاتباً شابا ليملي عليه ذكرياته المجيدة التي جمّدت تاريخ بلده، وإذ بالكاتب ينتفض في السر ويخون مهمته معتبراً العجوز شخصا رائعا لكنه باهتٌ مثل رقم داخل قصيدة"، ومذكّرا بأن "القاعدة التي تقول إن الأبطال لا يشيخون، بل يموتون شبّانا، لا تُطبّق عندنا، نحن الشعب الآتي من البعيد جدا كي لا يبلغ أي مكان".

ويضيف "أبطالنا ينتهون دائما في رائحة عفن ويُفسدون موسيقاهم الخاصة، ويمضون كامل وقتهم كمرشدين لا جدوى لهم على أبواب الماضي (…) بدلاً من رفض الشيخوخة، كما في التراجيديات، والانفجار كألعابٍ نارية".

أربع شخصيات تبدو كل واحدة رهينة مخاوفها المبررة أو الاستهامية، عالقة في ذهان هذياني مختلَق أو مرضي، ضحية انعدام الأفق والأمان.. أربعة أصوات تقول الجزائر اليوم بشكلٍ بليغ وتصوّر شعبا يبحث عن مستقبلٍ جديد يفلت منه في كل مرة داخل جغرافيا غير أكيدة تقع بين الأساطير الكلية الحضور لآباء الاستقلال ويأس الواقع اليومي.

المصدر : الجزيرة