رعب السيرة الذاتيّة

الروائي الأردني إلياس فركوح - رعب الانكشاف ليس سهلا، فالصراحة تتماهى مع مفهوم الفضيحة، بحسب القيم السائدة في أيّ مجتمع عاش ويعيش شتّى حالات الكبت والقمع
 
إلياس فركوح
 
"أنتَ، منذ اليوم، تقف أمام ثماني سنوات على فقدك لصديق عمرك، مؤنس الرزاز!"
 
قلتُ محدّثًا نفسي، ناظرًا في أمر تأجيل نشر آخر كتاباته غير المكتملة حتّى الآن رغم العذر، أو المبرر الذي تلقيته بعد رحيله، وبدء التفكير فيما نحن مقبلون على فعله بما خَلَّفه لنا من أوراق، وهي كثيرة.
 
غير أنَّ سؤالي لنفسي تمحورَ مُنْصَبًّا على ما قرأتُ فيه نزيفَ روحه، وتدفقات ذاكرته وتأمله كُلّ ما حَمَلَتْهُ عنه وعن سواه، التي صاغها في ما أسماها هو: "السيرة الجُوانيَّة".
 
تلك الكتابات المنشور بعض فصولها المنفلتة في تداعيها الواعي، إلى حَدّ الرعب، أو الحَرَج في ألطف الأحوال، مدفوعة بصراحةٍ ملتهبة وصدقٍ صادم ولغةٍ أدبيّة "اعترافيّة النزعة"، لكنها نائية عن التهذيب المصنوع والتكلُّف في غير موضعه.
 
تساءلتُ عن "سيرة" مؤنس الرزاز "الجُوانيَّة" وقد مَثُلَت في وعيي مسألتان:

1- ليس من سيرةٍ تُكْتَب، وتستحق اسمها، إلاّ و"الجُوانيُّ" رديفٌ يتصادى ويتفاعل مع "البَرَّانيّ" ويكون، في أغلب النصوص الصادقة في تمثيلها الواعي لأصحابها، كاشفًا لوجهيْ المسألة قيد السرد.

 
وعادةً ما تكون تلك الكتابات إفشاءً لكيفيّة تلقي العالم، وبأي رؤًى يصير فهمه وإضفاء المعاني عليه، من غير تقيّدٍ بالمألوف والسائد والمتعارف على وجوبه، ضمن معايير المجتمعات. بهذا كلّه، وبغيره، كتبَ جان جاك روسو، وكذلك ما فعله القديس أوغسطين (أبرز مِثالين مؤسسيين)، وحتمًا ثمّة كثيرون غيرهما تبعوا نهجهما، بصورةٍ أو بأخرى.
 

"
يرى فركوح أن ما يحجب الصدق داخل المجتمعات، ويحول دون التصارح بين الأفراد، هو نفسه ما يبقي الكلام ناقصا والكتابة شبه بيضاء والوجوه، حكما، جامدةً وخاليةً من ملامح "جُوانياتها"

الروائي الأردني مؤنس الرزاز
الروائي الأردني مؤنس الرزاز

"

سؤال الصدق

ومع ذلك يبقى سؤالُ الصدق المفترَض في "السيرة"، كميثاقٍ مبرم غير مكتوب، مطروحًا بوصفه سؤال المطابقة مع ماديّات الواقع والحياة اليوميّة.
 
2- ليس في الكتابات العربيّة، الحديثة والمعاصرة، ما يمكّننا من إجراء تماثلات مع تلك المتوفرة في المجتمعات المنفتحة على أفرادها، والمنفتح الفردُ فيها على مجتمعه بالتالي. ولعلّ السبب الأوّل في استحالة هذا التماثُل على الصعيد الكتابي يتمثّل في التضاد بين نمطين اجتماعيين متنافرين بما يتضمّن، في آليته، المناحي السياسيّة والقِيَميَّة والدينيّة والمفاهيم الأخلاقيّة ودرجة "التطور"، في العلاقات الخاصّة والعامة، والرؤية إليها.
 
إنّ ما يحجبُ الصدقَ داخل المجتمعات، ويحول دون التصارح بين الأفراد، هو نفسه ما يُبقي الكلامَ ناقصًا والكتابة شبه بيضاء والوجوه، حُكْمًا، جامدةً وخاليةً من ملامح "جُوانياتها" التي ينبغي (بعُرْف المجتمع) حجبها والتستر عليها خوفًا من "فضيحةٍ" ما!
 
وقد تشكّلُ التغطيّة، أو التمويه، الخطوة الأُولى باتجاه إنقاص وتحريف وتزييف السِّيَر الذاتيّة والغَيريّة، وصولاً إلى اختلاق محطات في تاريخ الشعوب مُصابة بالريبة، أو إعادة إنتاجها على نحوٍ لم تكن عليه حقًّا!
 
ولا غرابة، والحال هذا، أن نلحظَ التغطيّةَ هذه واحدةً من سِمات الشخصيّة العربيّة في راهنها التاريخي، أو على الأصحّ: في تاريخها الحديث والمعاصر.
 
والتغطيّة هنا تعني التبطين وعدم كشف المستور الجُوانيّ، خشية تعريّة الذات في بؤس انهراسها تحت أثقال المجتمع، ككتلة، والإنسان كشخص يتحرك وسط أُطر أخلاقه ونسيج قِيَمه. وفي حالة كهذه يصبحُ الانكشاف فضيحة؛ إذ يتحدد المعنى وينحصر في خانة "العَيب" مقابل "الاحترام" كوضعيّة نقيضة.
 

"
يتساءل فركوح عن إمكانية كتابة السيرة في الثقافة العربية ويرى أن سؤال الصدق المفترَض في "السيرة"، يبقى كميثاق مبرم غير مكتوب، مطروحًا بوصفه سؤال المطابقة مع ماديّات الواقع والحياة اليوميّة

"

حكم أخلاقي

نحن، إذن، حيال واقعة ستصل بنا، عند استفحال مفاعيلها، إلى إصدار حُكْمٍ أخلاقي عليها لا يتنازل عن منطوقه القائل "هذا نِفاقٌ مُعْلَن"، وإلاّ فكيف نفسّر عمليات التخبئة والتستر والإخفاء والتمويه، بغير وضعها أمام نقائضها التالية: الظهور والكشف والعَرْض والإيضاح؟
 
وإذا ما افترضنا حقيقة وجود واقعة التغطية فعلاً، كسمة من سمات الشخصيّة العربيّة في راهنها التاريخي، فإنّ هذا كفيلٌ بأن يطرح حاضرنا، بكل ملامحه، على مشرحة التساؤل والتشكيك. حاضرنا غير المُنْبَتّ أبدًا عن ماضينا. وهكذا، وجريًا في منظومة التساؤل ومنهجيّة التشكيك، علينا أن نتحلّى بالجرأة على مكاشفة ذاك الماضي وسبره هو أيضا.
 
عند هذا المفترق تكاد تشكّل كتابةُ المغربي محمد شكري علامةً فارقةً في المُنْتَج الأدبي العربي الحديث، لكونها أحدَثَت صدمةً حقيقيةً لذائقة القارئ الذي لم يعتد صراحةً كتلك الكائنة من غير تمويه، وانكشافًا كذاك من غير تردد. فلأوّل مرّة يتصدّى كاتبٌ عربيّ لحقائق واقعه الشخصي (غير المعزول بالطبع عن واقع محيط عيشه المجتمعي)، التي تتصفُ بأكثر من وجهٍ واحد لمفهوم "العيب"، ويقوم بعرضه، كما هو، دون أيّ محاولة منه لتغطيته.
 
كأن واقعة المصارحة، حين تصدر عن كائنٍ اتخذ قراره بممارستها، إنما تُطلقُ فيه ومنه طاقةَ حُريّةٍ كانت محبوسة في أعماقه بكامل شحنتها، ضاربةً عرض الحائط بـ"كياسة المألوف المُهَذَّب"!
 
ولعلّ إحدى الإشارات الدالة على هذا، كما عاينتها، ابتعاده عن لُغةٍ تعتني بالصوغ وتتكلّف التَجَمُّل. فهي أشبه ما تكون باللغة الحوشيّة الذاهبة باتجاه مقصدها "المخبوء" مباشرةً، خالعةً عنها طبقات الخوف من "الفضيحة"، وكاسرةً، في الوقت نفسه، الرُعْبَ من إصبع الاتهام الذي سيوجهه المجتمع.
 
فالرعبُ الناتج عن الانكشاف ليس من السهولة الحيلولة دون لجمه أيّ محاولة لكتابة السيرة الذاتيّة المنفتحة ضمن محيطٍ مُعَبّأ به. وخاصةً إذا ما كُتبت من غير خلق فراغاتٍ يخشى صاحبها، إنْ قام بتعبئتها، أن يخوضَ صراعًا مع "حُرّاس القِيَم والأخلاق الحميدة" سيكون الخاسر فيه حتمًا.
 

"
يؤكد فركوح أن كتابة الروائي المغربي محمد شكري تكاد تشكّل علامة فارقة في المُنْتَج الأدبي العربي الحديث، لكونها أحدَثَت صدمةً حقيقيةً لذائقة القارئ الذي لم يعتد صراحة كتلك

الروائي المغربي محمد شكري
الروائي المغربي محمد شكري

"

النبذ والتشهير

وقد يصل به الأمر إلى النبذ والتشهير بالسُّمعة والصيت. وحين ننظر إلى كتابة محمد شكري من هذه الزاوية، يمكننا إدراك سبب إدراجها ضمن السرد الأدبي القصصي (أي المتخيّل)، لا السِيَريّ، رغم أنه على مستوى الإفادات الشخصيّة، لم يلجأ إلى رفض أو إنكار حقيقتها المتصلة بحياته هو دون سواه.
 
إنَّ الكشف، والانكشاف، والوضوح، والإعلان، والصراحة لمفرداتٌ توازي معنى الفَضْح وتتماهى مع مفهوم الفضيحة، بحسب القِيَم السائدة في أيّ مجتمعٍ عاشَ ويعيشُ شتّى حالات الكبت والقمع. ولعلّ مفاعيل ذلك داخل الكاتب تكوّنُ سببًا، أو تفسيرًا، لظاهرة الروايات الآخذة بتناول السيرة الذاتيّة لكتّابها، أو لبعض محطاتها ومفاصلها.
 
فأن تُكتَب على هذا النحو إنما هو طوق نجاتها من سقوطها في شَرَك "الفضيحة" بحسب العُرْف الناتج عن آليات القمع والكبت مع احتفاظها ببعدها الأدبي التخييلي، في الوقت نفسه.
 
غير أنَّ مؤنس الرزاز لم يلجأ إلى هذا حين اتخذ قراره الواعي في كتابة "سيرته الجوّانيّة". فهو لم يَقُلْ بأنها سيرته "الذاتيّة" من جهة، تلافيًا للمفهوم السائد الرائي إليها كسردٍ لوقائع حدثت في الواقع الحياتي المكشوف وما يستتبع ذلك من طريقة كتابة. ولم يعتزم الخروج من دائرة الكتابة الأدبيّة السرديّة، بمعناها الجمالي الخاصّ به وسط نصوصه الأخرى؛ لكنه خاضَ صادقًا ومقتحمًا ونافذًا باتجاه الداخل فيه ليخرجَ بسيرةٍ جديدة غير مألوفة.
 
وإنه، لمّا كان يكتبها، لم يكن ليفعل سوى طرد العديد العديد من المحظورات دون نوايا التخبئة ونصف الكلام. لم يكن ليكترث خاشيًا رُعب المجتمع وحساباته.
 
لكنه رحلَ ماضيًا تاركًا لنا أوراقًا ربما يأتي حينٌ، نرجوه قريبًا، تزول فيه أشباح الرعب، فنعاينها نظيفةً في صراحتها، كما أرادها صاحبها؛ فتكتملُ بذلك صفحاتُ كتابه الممتد.
المصدر : الجزيرة