دخول رام الله.. تضامن أم تطبيع؟
لكن الجدال حول "تصنيف" هذه الزيارة، أهي تطبيع أم تضامن؟ لم يسفر عن نتيجة، فوجهات النظر المتباينة لم تؤسس لحوار بين أصحابها، كما أن الأحكام القيمية المطلقة التي يطلقها معسكر "المتضامنون" أو معسكر "مقاومة التطبيع" تبدو أخلاقية إلى حد بعيد.
المثقفون الأردنيون كانوا جزءاً أساسياً من هذه المواجهة بسبب زيارة عدد منهم إلى رام الله، كان آخرها مشاركة الكاتبتين بسمة النسور وسامية عطعوط في فعاليات الأسبوع الثقافي للمرأة المبدعة الذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية أواخر العام الماضي.
" |
واتقد رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين الكاتب سعود قبيلات هذه المشاركة، مؤكداً أن لدى السلطة الفلسطينية رغبة في "توريط المثقفين العرب في التطبيع"، رغم الموقف الواضح الذي عبّر عنه المكتب الدائم لاتحاد الكتّاب العرب في أثناء احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، برفض تلبية دعوة السلطة الفلسطينية لزيارة القدس، والمشاركة معها من خلال فعاليات تقام في جميع العواصم العربية تضامناً مع المدينة المحتلة.
"هنالك أكثر من محاولة لجرّ كتاب أردنيين وعرب. كان آخرها دعوة الرئيس محمود عباس إلى زيارة فلسطين المحتلة ولو بتأشيرة إسرائيلية، لكن ووجه برفض قاطع أثناء اجتماعه بكتاب وفنانين مصريين في السفارة الفلسطينية بالقاهرة، مما اضطره لإنهاء الاجتماع والخروج بطريقة مستغربة"، يضيف قبيلات.
وكان الكاتب المصري يوسف القعيد انتقد بشدة في مقال له مطالب عباس الذي وصفها بـ"الخديعة" التي حاول أن يوقع بها المصريين، مشيراً إلى أن "إسرائيل" طلبت من عبّاس الدفع نحو "التطبيع" مقابل تجميد الاستيطان في الضفة الغربية، على حد قوله.
النوايا والعزل
وأعاد قبيلات في حديثه للجزيرة نت طرح أسئلة القعيد حول الفائدة التي سيجنيها الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة من زيارتهم والتضامن مهم، مقترناً ذلك بالتعامل مع المحتل بصورة طبيعية كأمر واقع.
الكاتبة بسمة النسور ردّت على قبيلات بقولها إن "من يعتبرون الذهاب إلى أراضي السلطة الفلسطينية تطبيعاً، يدافعون بنوايا حسنة عما تريده إسرائيل بإبقاء الفلسطيني معزولاً ومسجوناً".
ولفتت إلى أن المثقف العربي هو من يضع "معاييره" بناء على ما يريده الفلسطيني الذي يقابله باحتفاء، ويعبر عن فرحته بمشاركته وتضامنه مع معاناته، ولا يحددها له اتحادات الكتّاب العربية.
وكانت القاصة النسور -التي ترأس تحرير مجلة تايكي- قد تعرضت لمساءلة رابطة الكتّاب الأردنيين بسبب مشاركتها ضمن مجموعة من الكاتبات العربيات في فعاليات الأسبوع الثقافي للمرأة المبدعة في رام الله، وهو نشاط دعمته وزارة الثقافة الفلسطينية لكسر الحصار والحاجز الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
ورغم تلك المساءلة التي لم تفض إلى "نتيجة"، فإن النسور لا تزال تفتخر بجلوسها مع الأسيرات الفلسطينيات المحررات وأمهات الشهداء، والسماع لحكاياتهن التي لا تلقي لها وسائل الإعلام العربية بالاً، على حد وصفها.
"قراءة فقهية"
الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب رفض ما أسماه "القراءة الفقهية"، متسائلا "إذا كانت زيارة مناطق السلطة الفلسطينيّة (الضفّة الغربيّة) عملا تطبيعيّا، بوصفها زيارة لأرضٍ محتلّة تدار من قبل سلطةٍ أنتجتها اتّفاقيّة أوسلو، فهل يصحّ أن نعتبر زيارة غزّة كذلك عملا تطبيعيًّا، وهي بالضبط أرض محتلّة تدار من قبل سلطة انتخبت في ظلّ أوسلو؟".
وأضاف "ثمّة إجماع على ضرورة المساهمة في "الحجّ" إلى غزّة من أجل فكّ الحصار الإسرائيليّ العربيّ الفلسطينيّ الدوليّ عنها. لكن أليست الضفّة الغربيّة هي الأخرى محاصرة وتحتاج إلى "حملات" تضامنيّة لفكّ الحصار عنها؟ فلماذا، إذن، اعتبر الذهاب إليها عملا تطبيعيًّا، فيما اعتبر الذهاب إلى غزّة واجبًا دينيًّا وقوميًّا وإنسانيًّا، وفعلا من أفعال المقاومة؟".
"نحن نعلم أنّ غزّة ضربت بكلّ تلك الوحشيّة، وحوصرت، ودمّرت لأنّ سلطة حماس تمسّكت بخيار المقاومة، وهذا ما استدعى التضامن معها ومع أهلنا الصامدين الصابرين في غزّة. لكن ألم تضرب الضفّة الغربيّة بالوحشيّة نفسها عندما اندلعت الانتفاضة الثانية؟ فلماذا ظلّ الذهاب إلى الضفّة الغربيّة –حتّى أثناء الانتفاضة– فعلا مكروها وشبهة تطبيعيّة؟" يقول أبو شايب.
الأسئلة التي طرحها أبو شايب لم تنف -من وجهة نظره- واجب زيارة غزّة، بل إنه يقول إن "زيارة الأراضي المحتلّة كلّها فعل ملتبس شديد التعقيد، ولا يصحّ أن نقرأه قراءة تسطيحيّة ساذجة".
السفارات الإسرائيلية
ويدور الجدل كذلك حول تأشيرة الدخول التي يحصل عليها الزائرون العرب للسلطة الفلسطينية، فهي تمنح عبر السفارات الإسرائيلية الموجودة في مصر والأردن وغيرهما، أو عبر تصريح تستحصله السلطة الفلسطينية من دولة الاحتلال وتمنحه لضيوفها.
واعتبر رئيس رابطة الكتاب الأردنيين أن كلتا الطريقتين للحصول على التأشيرة لا تغيّران من جوهر التعامل مع المسألة، وهو أن زيارة الأراضي المحتلة تشكل عبئاً إضافياً على الفلسطيني، الذي يقف الساعات الطوال على الحواجز للانتقال من مدينة إلى مدينة، وهو ما ينطبق على مسؤولي السلطة أيضاً، كما تساءل عن "الضمانة" التي يمكن أن تقدّم للزائر العربي بأن تسمح سلطات الاحتلال بتأشيرة زيارة عبر مكتب الرئيس الفلسطيني.
ومن جهتها، أوضحت بسمة النسور أن زيارة السجن لا تعد اعترافاً بالسجان وسلطته التي تفرض الظروف التعامل معها، لافتة إلى أن "ختم السجّان" على جواز السفر يعدّ "مسألة شكلية"، طالما أن الدخول يتطلب موافقة السلطات الإسرائيلية أساساً.
أما الشاعر أبو شايب فقد أبدى رفضه لممارسات السلطة الفلسطينيّة على الإطلاق، غير محبّذ أن يذهب مثقف عربي إلى الأراضي المحتلة الآن لكي لا تكون زيارته شكلاً من أشكال الدعم للسلطة الفلسطينيّة الفاسدة، لكنّه سيتحفظ كثيرًا على القول إنّ كلّ تلك الزيارات، دون استثناء، هي "أفعال تطبيعيّة"، لأنّ ذلك لا يستقيم مع مقتضيات المنطق السليم بكلّ بساطة، حسب قوله.
فرق جوهري
وقال إن "السفارة تعني أنّ "إسرائيل" كيان طبيعيّ، وأنّ الزائر ذاهب إلى أرض إسرائيليّة يعترف هو بإسرائيليّتها، أما تصريح الاحتلال فيعني أنّ الزائر ذاهب إلى أرض فلسطينيّة تحتلّها "إسرائيل" وتعترف بأنّها سلطة احتلال فيها. لذا لا يصحّ أن نساويَ بين الحالتين".
واستشهد أبو شايب بـ"إصرار" الفلسطينيّين، منذ اللحظة الأولى للاحتلال عام 1967، على التواصل مع أهلهم وأرضهم وذاكرتهم من خلال زياراتهم السنوية الدائمة للأرض المحتلّة، مشيرا إلى أنهم كانوا يضطرّون للحصول على جوازات سفر أردنيّة خاصّة للسفر إلى الأرض المحتلّة، لأنّ "إسرائيل" كانت تختم تلك الجوازات.
وأضاف "لم يكن أحد يعتبر ذلك الأمر عملا تطبيعيًّا، فما اّلذي جدّ حتّى صرنا نتّخذ من ختم الجوازات ذريعة لوصم أيّ زيارة للأراضي الفلسطينيّة المحتلّة بأنّها تطبيع؟".
" |
الرد المناسب
من جهة أخرى ألمح رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين إلى احتمال اتخاذ إجراءات مشددة بشأن من يكرر زيارته الأراضي المحتلة، عبر اللجوء إلى الهيئة العامة للرابطة وتحويل الأمر لاتحاد الكتاب العرب والاتحادات العربية، لكنه لم يستطع تقدير "الرد المناسب" في تلك اللحظة رغبة منه في عدم دفع الكتّاب إلى الاتجاه الآخر.
وفي المقابل اعترضت رئيسة تحرير تايكي على "مبدأ التشكيك" في مشاعرها الوطنية، وأشارت النسور إلى أن "رابطة الكتاب ليست حزباً يلزم أعضاءه بأدبيات معينة"، وأنه "لا يمكن المزايدة على أدباء كبار زاروا السلطة الفلسطينية مثل الروائي والشاعر إبراهيم نصر الله".
وبانتظار الرد المناسب ووقوفاً عند محاولات التشكيك في وطنية الكتّاب، دعا أبو شايب إلى إنتاج "قراءة نقديّة عقلانيّة" تحرّر وعينا من التناقضات والتخبّطات الانفعاليّة، تمهيدًا لجعله وعيَ مقاومةٍ ووعي فعلٍ لا وعيَ انفعال.
وأوضح بقوله "ذهب كتّاب عرب إلى أربيل (العراق)، وهي أرض محتلّة، ولم يتّهمهم أحد بالتطبيع، ولم يشارك في الحملات الّتي نظّمت لفكّ الحصار عن غزّة أيّ كاتب من أولئك. وهذا ليس كافيا لاعتبارهم كتّابًا نظيفين وغير مطبّعين".
وأضاف أنّ "مقاومة التطبيع تقتضي (أحيانًا) تنظيم حملات حجّ تضامنيّ إلى الأراضي المحتلّة. لكن دون أن تتحوّل زيارة الأراضي المحتلّة إلى تعبير معكوس عن شهوة معانقة العدوّ"، رافضاً ما أسماه "الاكتفاء بإصدار الفتاوى الثقافيّة القاطعة المانعة" الّتي تقضي بتحريم الذهاب إلى هناك أو بتحليل الذهاب إلى هناك سواء بسواء، لأنّ فعل "الذهاب إلى هناك" يتغيّر بتغيّر الظروف والحيثيّات، على حد قوله.
أما النسور فرفضت "تسييس" المواقف من السلطة الفلسطينية وإسقاطها على الثقافة، مشيرا إلى أن "جزءا كبيرا من الشعب الفلسطيني يؤيد السلطة التي أنتجتها اتفاقية أوسلو".