أكُف نساء القدس تشتعل بالجمر

أكُف نساء القدس تشتعل بالجمر

قصيدة العودة لن تكتبها أكف الثوار فقط، بل تغزلها أصابع نورانية ناعمة تحترف المقاومة كما تحترف الأمومة.

أتحسس رأسي عندما خلعوا حجابها في الخان الأحمر في القدس. أمسح نزف قدمي عندما أرى تلك المرابطة المقدسية تُسحَل أمام عيني على تراب حار، وأتنفس بصعوبة بينما أراهم يدوسون على رأسها بأقدامهم فيعز الهواء ويمتلئ وجهها بالجراح، وبالدعاء أضمد جرحها حينما يعز الضماد.

تداهمني هذه الصور على التلفاز عنوة، وأنا من توقفت عن رؤية الصور المرافقة للأخبار بأمر من الطبيب.

كل صورة أقف أمامها تهزني بعنف كما تهز الغيمةُ المطر الذي في جعبتها. فتندلق الحكايا المعلقة على حبل الجرح وتنفرط الغيمة فتسيل المشاهد من حواشي الذاكرة.

تداهمني صورة "ستي صفية" عندما تحاملت على جرحها وأطلقت زغرودة مدوِّية لحظة رؤيتها للجنود الصهاينة وهم يمسكون بابنها معصوب العينين ومقيد اليدين، ويضعونه فوق ركام الدار المهدومة ويجرُّونه صوب الزيتونة الرومية ليمثل العملية المقاومة التي قام بها وكان قد خبأ سلاحه في تلك الزيتونة.

لم ألتحق بالمقاومة إلا لأمسح دمعك ودمع كل الأمهات

وتجمعت كل القرية ولم يبق أحد فيها إلا وجاء ليرى المشهد..

اخترقت "ستي" الجموع والجنود وهي التي سمعت في لحظتها مدة الحكم على ابنها (عشر سنوات) واستيقظ الجمع المندهش على زغرودة مدوية منها أربكت الجنود، وداهمت ابنها كخيط مطَري رقيق نزل على روحه الظامئة.

أسرعت إليه وأزاحت الجنود بقوة وأزالت العصبة عن عينيه ونزلت دمعة حَرَّى وهي تعاود الزغاريد، في هذه اللحظة تمنى عمي أن يقبل جبهتها وينحني تحت قدميها ويكسر العكازة التي رآها تتكئ عليها لأول مرة.

صرخ حينها وقال لها "ليش العكاز يمّا" لم ألتحق بالمقاومة إلا لأمسح دمعك ودمع كل الأمهات، أريد أن أسمع زغرودتك مرة ثانية.

كنت ألتقط الحكايات من أبي الذي يشعر بتأنيب الضمير لأننا وُلِدنا في المنفى بلا ذكريات عن الوطن وبلا أقارب وأهل، كان يعوِّضنا بمزيد من الحكايا، كان يحاول أن يصنع ذاكرة جديدة لنا ولأطفالنا بعد ذلك.

كثيرا ما كنت أتلصص على ذاكرة أبي وحكاياته، ذاكرة عمرها سبعون عاما.

هذه المعركة معركة النساء في البدء، والنصر فيها ليس لمن يملك الذخيرة

أدرك جيدا أن هذه القصص التي أسمعها وأدونها ما هي إلا خدعة تساعدني على العيش في تربة مالحة، وأحاول بكل بساطة أن أغزل خيطا يربطني بتلك الأرض التي أتمنى أن أطأها يوما.

في القدس وفي غزة والضفة لعبة الموت اليومية.. الفسفور.. الاجتياحات اليومية.. الاعتداءات على المرابطات.. تكفلت بتشكيل قلب جديد للمرأة الفلسطينية وحتى لا يتوغل سواد الموت في بياض قلبها سيجته بالدم. ليس خيارا ما فعلته، يخال إليَّ أنها استبدلت قلبها بحجر، وأعود لأصحح الهاجس وأقول بل استبدلت قلبها بوطن.

هذه المعركة معركة النساء في البدء، والنصر فيها ليس لمن يملك الذخيرة بل لمن يملك اليقين والقرار.

هذه المرأة المقدسية التي ترابط في الأقصى وتلك الغزاوية التي تقف أمام أعتى قوة تنعتق من ضعفها وأمومتها وتطير بأجنحة من نور صوب آخر نقطة من الحدود لترفع العلم الفلسطيني وتغيظ الاحتلال، تقص السلك الشائك وتلقي الحجارة وتقود وحدات الطائرات الورقية.

تارة تحمل كاميرتها لتوثق الوجع، فأكثر ما يؤلمها أن تموت الصورة قبل أن يراها العالم، أن يموت المظلوم دون أن يعرف العالم من القاتل.

من جرح إلى جرح وما زالت الفلسطينية تسُد بكفها الطريَّة شُقوق الوهن

وتارة تراها ترتدي الرداء الأبيض، تترك خلفها صبية صغارا يتعلقون بطرف الثوب، ترتعش وهي تنظر إليهم، لكنها فلسطين ومن أحق بها سوانا.

يمتلئ صدرها بالغاز المليء بالمواد السامة والحارقة، تسعف.. تأخذ قسطا من الراحة ثم تعود للميدان من جديد، فالفلسطينية لم ترض أن تكون رقما مهملا بل كانت لغزا استعصى على الاحتلال حله.

فمن نكبة إلى نكسة، ومن ثورة إلى ثورة، ومن جرح إلى جرح وما زالت الفلسطينية تسُد بكفها الطريَّة شقوق الوهن في الخريطة فتلتئم وتنبت زهور الفرح في الأرجاء.

هذه المرأة تواصل الرفض وترشق كل من تآمر وقال إن الفلسطيني باع أرضه.

ها هي صورة المرأة في القدس وغزة وفي الضفة ترشق كل متصهين لتشُجَّ رأسه المليء بالأكاذيب وتقول له بل أنتم من تواطأتم علينا وبعتم طُهر دماءنا بثمن بخس.

إن عدِمت الرجولة العربية كَفها فأكُف نساء القدس ومرابطاته وأكف الغزاويات تشتعل بالجمر!.

المصدر : الجزيرة