القدس.. كيف كانت وكيف أصبحت؟

حدود القدس.. كيف كانت وكيف أصبحت؟"
نشأت النواة الأولى لمدينة القدس على تلة الظهور المطلة على قرية سلوان، حيث اختير هذا الموقع لأسباب أمنية، وساعدت عين سلوان في توفير المياه للسكان، ثم هجرت هذه النواة إلى مكان آخر هو جبل بزيتا ومرتفع موريا، الذي تقع عليه قبة الصخرة المشرفة.

أحيطت المدينة بالأسوار، ثم بدأت التقلص حتى بنى السلطان العثماني سليمان القانوني السور الحالي محددا حدود القدس القديمة جغرافيا.

لقد أُجري على هذا السور بعض التعديلات في نهاية القرن التاسع عشر، ففي عام 1889 تم فتح الباب الجديد، وفي عام 1897 فتحت ثغرة في باب الخليل لإتاحة الفرصة لعربة الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني للدخول إلى البلدة القديمة.

وفي عام 1863 تأسست بلدية القدس، وبذلك تكون القدس المدينة الثانية بعد إسطنبول التي تحظى بهذا التكريم، وقد أسهمت هذه الخطوة في تطوير المدينة بنواحيها التجارية والعمرانية والاقتصادية والتعليمية.

أعطى قانون البلديات عام 1878 صلاحيات لبلدية القدس من حيث مراجعة البناء وتنظيم الشوارع، ومد أنابيب المياه والإضاءة، والحفاظ على النظافة

قانون البلديات
وأعطى قانون البلديات عام 1878 صلاحيات للبلدية من حيث مراجعة البناء وتنظيم الشوارع، ومد أنابيب المياه والإضاءة، والحفاظ على النظافة
.

كما جرى تأمين مصادر دخل للبلدية بفرض الضرائب والرسوم والتبرعات. وأسهمت السلطة المركزية في هذا الدعم المادي مما جعل المدينة تتحول من سلطة محدودة إلى مؤسسة مهمة.

بعد الاحتلال البريطاني رسمت حكومة الانتداب حدود بلدية القدس، حيث ضمت جميع المستعمرات اليهودية الواقعة خارج البلدة القديمة حتى وصلت إلى منطقة المصلبة، التي تبعد خمسة كيلومترات (هوائية) عن البلدة القديمة.

وفي المقابل أخرجت جميع التجمعات العربية القريبة من أسوار البلدة القديمة، التي لا تبعد سوى بضع مئات الأمتار (سلوان، الطور، رأس العمود) عن حدود البلدية لأسباب سياسية وديموغرافية، ونتيجة لسياسة واضحة تماما تسعى لإيجاد أغلبية يهودية وأقلية عربية. وهذا ما يظهر دائما في الأدبيات الإسرائيلية التي تبين أن القدس منذ القرن السادس عشر كانت ذات أغلبية يهودية.

وفي عام 1921 وسّعت سلطات الانتداب الحدود مرة أخرى باتجاه الغرب، وضمت مستعمرات تبعد أكثر من ثمانية كيلومترات عن مركز المدينة إلى حدود البلدية، وفي الوقت نفسه أبقت الحدود الشرقية كما هي عليه دون ضم، لوجود أغلبية عربية مطلقة فيها.

القدس الدولية
في 29 نوفمبر/تشرين الثاني1947 صدر قرار عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وما زال هذا القرار وفق القانون الدولي يشكل الأساس والمرجعية لتطبيق الشرعية الدولية في فلسطين. وقد أعطيت القدس في هذا القرار مكانة خاصة وكيانا منفصلا (Corpus separation).

واعتبرت القدس وحدة إدارة مستقلة (دولية) تدار من قبل الأمم المتحدة، عبر مجلس وصاية، يدير هذه الوحدة الإدارية حاكم يعينه مجلس الوصاية، وإعطاء صلاحيات إدارية واسعة للمجالس البلدية والمحلية والقروية القائمة والتابعة لمدينة القدس.

ويتم بموجب هذا القرار توسيع مساحة القدس لتصل إلى 258 كيلومترا مربعا ونسبة السكان العرب إلى 105 آلاف مقابل مئة ألف يهودي.

واعتبر القرار أن لهذه الحدود وضعا خاصا، ما زال حتى اليوم لا يعترف بأن القدس شرقا وغربا عاصمة للدولة العبرية.

أدت نتائج الحرب حول القدس ومحيطها، والتوقيع المبدئي لخرائط وقف إطلاق النار بين الجانبين الإسرائيلي والأردني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1948 إلى تقسيم المدينة

بعد 1948
أدت نتائج الحرب حول القدس ومحيطها، والتوقيع المبدئي لخرائط وقف إطلاق النار بين الجانبين الإسرائيلي والأردني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1948 إلى تقسيم المدينة، حيث قُسمت على ضوئه قسمين، شرقي تحت السيطرة الأردنية، وغربي تحت السيطرة الإسرائيلية. 

وبتوقيع اتفاق الهدنة في 4 مارس/آذار 1949 تأكدت حقيقة اقتسام القدس بينهما، انسجاما مع موقفهما السياسي المعارض لتدويل المدينة، وأضحى قرار التقسيم بالنسبة إلى القدس غير قابل للتطبيق. 

وانطلاقا من هذا الواقع وخصوصا بعد الإعلان في مؤتمر أريحا في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 1948، عن طلب ضم الضفة الغربية بما فيها القدس إلى المملكة الأردنية، اتخذت الحكومة الأردنية مجموعة من الإجراءات أصدرها الحاكم العسكري عبد الله التل، ومنها تعيين مجلس بلدية برئاسة أنور الخطيب في بداية 1949 حتى بداية 1950. بعد ذلك تم تعيين عارف العارف رئيسا جديدا.

وبعد صدور قانون البلديات الأردني وتعديلاته عام 1955، تم تعيين العديد من الرؤساء لبلدية القدس كان آخرهم روحي الخطيب، الذي استمر في ممارسة مهامه حتى عام 1967، عندما جرى حل مجلس أمانة القدس بعد ضم المدينة من قبل سلطات الاحتلال وإبعاده إلى الأردن.

بعد وقف إطلاق النار وتقسيم المدينة لم تزد مساحة بلدية القدس عن 3117 دونما، تكونت من الأحياء الشرقية المتبقية من بلدية القدس في ظل الانتداب.

توسيع 1952
اجتهد المجلس البلدي برئاسة عمر الوعري في توسيع حدود البلدية، لتتمكن من القيام بدورها، وكان لهم ذلك في عام 1952، حيث ضمت للبلدية أحياء سلوان ورأس العمود وعقبة الصوانة وأرض السمار والجزء الجنوبي من شعفاط.

كما بقي في هذه الفترة الالتزام بمشروع المهندس هنري كاندل (مهندس بلدية القدس في الفترة الانتدابية) الذي منع البناء في سفوح جبل الزيتون، وقد انتشر البناء في القدس في الأحياء الواقعة في المناطق الشمالية والجنوبية التي كانت تشكل مناطق للبناء نتيجة للزيادة السكانية، فظهرت الأحياء الجديدة والكبيرة على طريق رام الله، في مناطق شعفاط وبيت حنينا وقلنديا وكفر عقب.

ولما كانت هذه الأحياء خارج حدود بلدية القدس، فقد توجهت أمانة القدس عام 1964 لتوسيع حدود البلدية لتمتد من مطار قلنديا شمالا حتى بيت لحم جنوبا وشرق العيزرية شرقا.

إن إعلان مدينة القدس أمانة أدى إلى تطور المدينة واعتبار القدس عاصمة ثانية للأردن، وبالتالي قيامها بدورها التاريخي والديني، وأصبحت مركزا للجذب السكاني نتيجة للتطور الاقتصادي، وما تبع ذلك من إقامة المشاريع الاقتصادية والسياحية.

اندلعت حرب عام 1967، فاحتلت إسرائيل شرقي القدس، وبدأت خطوات تهويد المدينة، واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على هذه السياسة

حرب حزيران
اندلعت حرب عام 1967، فاحتلت إسرائيل شرقي القدس، وبدأت خطوات تهويد المدينة، واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بزعامة حزبي المعراخ الليكود على هذه السياسة، ووضعت البرامج الإستراتيجية والتكتيكية لبلوغ هذا الهدف. 

بعد إعلان توسيع الحدود البلدية للقدس وتوحيدها بتاريخ 28 يونيو/حزيران 1967، وطبقا للسياسة الإسرائيلية للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقل عدد ممكن من السكان العرب، رسم رحبام زئيف حدود بلدية القدس لتضم أراضي 28 قرية ومدينة عربية، مع إخراج جميع التجمعات العربية لتأخذ هذه الحدود وضعا غريبا.

فمرة مع خطوط التسوية (الطبوغرافية) ومرة أخرى مع الشوارع. وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6.5 كم مربع إلى 70.5 كم مربع وتصبح مساحتها مجتمعة (الشرقية والغربية 108.5 كم مربع) لتتوسع مرة أخرى عام 1990 باتجاه الغرب لتصبح مساحتها الآن 126 كم مربعا.

قوانين وتهويد
1- مصادرة الأراضي: استخدمت السلطات الإسرائيلية قوانين مصادرة الأراضي للمصلحة العامة من أجل إقامة المستعمرات عليها. فبموجب قانون الأراضي لسنة 1943 ومن خلال وزارة المالية وتحت غطاء (الاستملاك للمصلحة العامة) تمت مصادرة 24 كم مربعا، وما يعادل 35%من مساحة القدس الشرقية، أنشئت عليها 15 مستعمرة إسرائيلية، وشيدت فيها 60 ألف وحدة سكنية. 

وكان قانون المصادرة للمصلحة العامة من أهم القوانين التي استخدمتها إسرائيل في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي كانت تعتبر المجال الحيوي للتطور العمراني الفلسطيني.

2 – قوانين التنظيم والبناء: استخدمت السلطات الإسرائيلية قوانين التنظيم والبناء للحد من النمو العمراني في القدس والسيطرة على هذا النمو عن طريق التنظيم والتخطيط، حيث بدأت إسرائيل منذ الأيام الأولى للاحتلال بإغلاق مناطق حول البلدة القديمة بإعلانها مناطق خضراء يمنع البناء عليها، مما جعل 52% من مساحة القدس الشرقية مناطق خضراء واعتبرت مناطق احتياط إستراتيجي لبناء مستوطنات عليها كما حدث في جبل أبوغنيم، ومنطقة الرأس في قرية شعفاط عندما تم تحويلها من مناطق خضراء إلى مناطق بناء استيطاني (هارحوماة، رامات شلومو).

كذلك تم تحديد مستوى البناء، فبالنسبة إلى الفلسطيني لا يسمح له بالبناء في أكثر من 75% من مساحة الأرض، وهو الحد الأقصى، بينما يسمح لليهود بنسبة بناء تصل إلى 300% من مساحة الأرض.

كما وضعت عراقيل كثيرة أمام رخص البناء وتكاليف باهظة تصل إلى 30 ألف دولار للرخصة الواحدة، بالإضافة إلى الفترة التي يستغرقها إصدار رخصة البناء مما دفع السكان إلى البناء دون ترخيص أو الهجرة باتجاه المناطق المحاذية لبلدية القدس حيث تعتدل أسعار الأراضي ويسهل الحصول على رخص البناء وتقل تكلفتها.

3- قانون الغائبين: استخدمت إسرائيل قانون أملاك الغائبين لسنة 1950 الذي سن من أجل تهويد القدس. وينص هذا القانون على نقل أملاك كل شخص كان خارج إسرائيل أثناء عملية الإحصاء التي أجرتها إسرائيل عام 1967، إلى القيّم على أملاك الغائبين. ويحق للقيم البيع والتأجير، وهذا ما حصل في العقارات التي استولت عليها الجمعيات الاستيطانية بالبلدة القديمة.

في عام 1993 بدأ التخطيط "للقدس الكبرى" التي كان يحمل لواءها "بنيامين بن إليعازر" وزير الإسكان آنذاك

القدس الكبرى
وهكذا ونتيجة لهذا الوضع وهذه السياسة تمت السيطرة على 87% من مساحة القدس البالغة 72 كم مربعا، وتبقى للعرب 13% بعد أن كانوا يسيطرون عليها 100
%.

شكلت الزيادة السكانية العربية مفصلا أساسيا في رسم خطوط القدس الكبرى. ففي عام 1993 بدأ التخطيط "للقدس الكبرى" التي كان يحمل لواءها "بنيامين بن إليعازر" وزير الإسكان آنذاك، مدعوما بتعليمات مباشرة من إسحاق رابين، لتنفيذ المخطط.

وكان من أهم أهداف المخطط خلق تواصل واضح للسكان اليهود وتقليص التقارب والاحتكاك مع العرب، والحفاظ على تعزيز مكانة القدس الخاصة باعتبارها عاصمة لإسرائيل ومدينة عالمية، بالإضافة إلى ربط المستعمرات الخارجة عن حدود البلدية بما هو داخلها بواسطة ممرات لتحقيق أغلبية يهودية تبلغ 88% وأقلية عربية بنسبة 12%.

وتهدف هذه الخطة إلى إحداث تغيير ديموغرافي لصالح إسرائيل، تنفيذا لرؤية إيهود أولمرت (رئيس بلدية القدس آنذاك) الهادفة إلى ضم الكتل الاستيطانية الواقعة خارج حدود البلدية، وإخراج التجمعات العربية، وفصل المناطق الفلسطينية بعضها عن بعض وتقسيم الضفة إلى كانتونات، وإحكام السيطرة على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ومنع أي جهد فلسطيني لإيجاد وحدة الولاية الجغرافية عليها، أو الانتقال إلى ممارسة السيادة الفلسطينية على الأرض، وتدمير أي نمط اقتصادي مستقل خاصة بالضفة الغربية ومنع قيام عاصمة فلسطينية بالقدس.

رغم القرارات الدولية، خاصة قرار محكمة العدل الدولية باعتبار أن الجدار غير قانوني، فإن السلطات الإسرائيلية أمعنت في تجاهلها للقوانين والأعراف الدولية واستمرت في تشييد الجدار والنظام الملحق به.

في نهاية 2012 اكتمل بناء جدار الفصل حول مدينة القدس، وقام الجيش بتأهيل الحواجز العسكرية وتحويلها إلى معابر

جدار الفصل
وفي نهاية 2012 اكتمال بناء جدار الفصل حول مدينة القدس، وقام الجيش بتأهيل الحواجز العسكرية وتحويلها إلى معابر رسمية وتسليمها إلى سلطة المطارات. وهكذا عزل الجدار في منطقة شمال القدس (كفر عقب، وسميرميس) ومنطقة الشياح شرق المدينة والجنوب الشرقي (أبوديس) والجنوب الغربي (بير عونا) من أراضي بيت جالا، وفيها أكثر من 125 ألف فلسطيني
.

وفي تطور أكبر مما سبق ذكره أعلنت القناة الإسرائيلية الثانية من التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2015 عن توجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى سحب الهويات الزرقاء من سكان القدس، لا سيما مخيم شعفاط وكفر عقب والسواحرة وغيرها من الأحياء.

وهكذا كانت السياسة الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى اليوم تسير ضمن إستراتيجية واضحة المعالم ضمن خطين متوازيين هما السيطرة على الأرض واقتلاع السكان منها، ضمن سياسة موضوعة في فترة الانتداب أو عام 1948، حيث تم تهجير السكان من المدينة باتجاه الشرق، والسيطرة على جميع الأملاك والأراضي والأحياء لتتحول إلى أغلبية يهودية مطلقة.

وبعد الاحتلال استمرت هذه السياسة، ففي 1973 تم المصادقة على مشروع في اللجنة الإسرائيلية لشؤون القدس بتحديد نسبة السكان العرب بـ22% من مجموع السكان، فتمت مصادرة الأراضي وهدم المنازل وسحب الهويات وجدار الفصل، الذي أقيم لأسباب سكانية وليس لأسباب أمنية، كما يبدو من إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه بصدد سحب هويات السكان الذين يسكنون خارج الجدار، وضم المستعمرات الموجودة خارج حدود بلدية القدس، لإحداث تغيير جذري في السكان يقيم أغلبية يهودية مطلقة وأقلية عربية، ضمن قدس ترسم حدودها ضمن رؤية تجمع بين التاريخ والدين والسياسة لتكون عاصمة لدولة واحدة دون شريك فلسطيني.

المصدر : الجزيرة