القدس وحدها الآن

القدس التي وحدها الآن يا قبيلة العرب

سمعتها أكثر من مرة بل وقرأتها عشرات المرات: لن نستمر في دعم الفلسطيني، وتحرير القدس واجب عليه وحده! ليتها خرجت من فم رجل لا يعلم عن القدس شيئا، بل خرجت من أفواه عرب أقحاح يصدعون رؤوسنا كل يوم عن الأخوة والمصير المشترك وإثبات أن الجينات هي ذات الجينات!

القدس التي تعيش وحدتها الآن بصمت عربي مشبوه بعد مجزرتين رهيبتين في آن واحد: مجزرة تقطيع الكرامة العربية إلى فتافيت صغيرة ورميها في مقلاة التجبر الأميركي أثناء افتتاح السفارة في القدس، ومجزرة الشهداء في يوم واحد بنتيجة صاعقة.. نعم كان الطرف الآخر يقتل ويسفك الدم بالمجان، وعرب فضائيات الدعارة منشغلون بالاستعداد لكسب السباق بينها في شراء مسلسلات لا تعبر إلا عن مرض يتمدد كالسرطان اسمه: حط الشرف على طرف!

إن الصدمة الأخيرة بعد نقل السفارة تقول الكثير، فالعرب الذين ملؤوا الشوارع حين وقع الثور الهائج ترامب على القرار، اختفوا فجأة في مشهد غير مفهوم، وكأن هناك من أهدى كل محتج أو متظاهر طاقية الإخفاء!

في حكاية القدس الأخيرة انقلب المشهد: كانت القبيلة العربية براكين غضب عند توقيع قرار نقل السفارة، وعند تنفيذ النقل لم نر إلا قرارات مسعورة تُجاه الشعوب المنكوبة

ثورة القبيلة
في العادة تثور القبيلة حين يتعرض ابنها للتهديد، وإن مسه سوء تصبح القبيلة نارا وحطبا وبركانا لا يهدأ على الفاعل! في حكاية القدس الأخيرة انقلب المشهد.. كانت القبيلة العربية براكين غضب عند توقيع قرار نقل السفارة، وعند تنفيذ النقل والافتتاح المهين لكرامة القبيلة لم نر إلا قرارات مسعورة تُجاه الشعوب المنكوبة برفع الأسعار وخنق الحريات ومنع الطائرات الورقية، وكله باسم الإصلاح والمشي بركب الحضارة، وهم أبعد الناس عن الإصلاح بعد كل هذا العطب، وهم لا يعترفون بالحضارة إلا حين يريدون تناول الأنخاب مع أصحاب الريموتات التي تغير أنظمتهم بكبسة زر واحدة حين ينتهي مفعول نظام منهم
!

القدس في المشهد الأخير كانت راية حزنها على كل رأس عربي حين تخلت عنها عشائر العرب وتركتها تواجه مصيرها الدموي وحدها، حتى من الفلسطينيين الرسميين، ومن الفلسطينيين أصحاب الفصائل التابعين والقابضين من أصحاب الخطوط الساخنة الذين يقولون لهم: تقدموا ليتقدموا وتراجعوا ليتراجعوا! وإلا فأين الفصائل الثورية في المشهد الأخير؟ ولماذا يتصدر المشهد بطل فلسطيني مبتور القدمين لا يقوى إلا على تقديم روحه نكاية بكل زعماء الثورة الفلسطينية دون استثناء، ونكاية بكل قدمين قادرتين على الحراك ولا تتحركان!

إذا كانت القدس للفلسطينيين فقط وهم المسؤولون عن أولها وآخرها ولا أحد غيرهم، فلماذا تدخلون وتصنعون "صفقة قرنكم"؟ لمن صفقة القرن هذه؟ إذا كانت القدس ليست من شرفكم وعزكم فما الشرف والعزة؟ إن الفلسطيني أضاع حاضره ومستقبله وهو يدافع عن تخاذلكم، ليستبدله ببطولة مزعومة فيكم، وباسم الفلسطيني ثبتت لكم عروشكم وما عاد ينافسكم عليها ابن قبيلة آخر!

يا ويلكم حين تتركون القدس الآن بين سندان الأميركان ومطرقة إسرائيل! يا ويلكم وأنتم تتنازلون بالمجان عن حصانكم الرابح في رهان البقاء! القدس التي تقاتل بصمت وحدها الآن وصارت عبئا على شهواتكم وملذاتكم؛ هي ذاتها من ستمضي في طريقها ووحدها ولن تنظر إلى كل مخططاتكم!

القدس التي تقاتل بصمت وحدها الآن وصارت عبئا على شهواتكم وملذاتكم، هي ذاتها من ستمضي في طريقها ووحدها

وإذا كانت القدس مشكلة الفلسطينيين وحدهم فـمكة المكرمة التي هي ملك لكل المسلمين دون استثناء؛ هل هي للسعوديين وحدهم أيضا؟! وهل إذا أصاب مكة أو المدينة مكروه -لا سمح الله- سنقول للسعوديين: ما دخلنا نحن؟ كما ترتفع كثير من الحناجر الآن في السعودية والبحرين والإمارات؟

لا والله، فكما أن القدس لنا فإن مكة والمدينة لنا أيضا، وما يملك الفلسطيني في القدس إلا حق الوجود فقط، أما حق الحماية والحدود فإنهما مرهونان بالعرب والمسلمين، كما أن كل قطعة من بلاد العرب هي قطعة من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، جميعنا لنا فيها نفس الحقوق وعلينا نفس الواجبات ولو جاءت مليون اتفاقية "سايكس بيكو" لتقرر غير ذلك!

تريد الصمت
القدس الآن لا تريدكم أن تحملوا بنادقكم وتخفّوا إليها، ولا تريد منكم صواريخ وطائرات وعتادا أنتم قادرون عليه.. هي لا تريد أن تزعج برامجكم في اللذة والفجور وأنتم تتضرعون إلى الله بأن يقبل صيامكم وقيامكم، هي لا تريد منكم ذاك ولا أكثر، فكل ما تريده القدس الحزينة الوحيدة وهي تقاتل بصمت؛ ألا تقطروا في أذنيها كلاما وسخا لا يشبه إلا هزيمتكم! كل ما تريده منكم ألا تقولوا لها على الملأ: كوني وحدك، حتى لو تركتموها وحدها بالفعل
!

يا قبيلة العرب: إيفانكا التي ذهبت إلى القدس بهداياكم لها وافتتحت عزها وعاركم، هي ذات إيفانكا التي لا قيمة لها إلا عندكم! والقدس التي تستقبل نكبتها الجديدة بروح مقاتلة لن تتخلى عن ثوبها ولا عن لباس ألبسها الله إياه، فكان نصرها وعدا على الله مقضيا.

فموتوا يا عرب الصفقات بغيظكم.. القدس لوحدها، ولكن الله معها، والأيام بيننا رغم كل الدم والجراح.

المصدر : الجزيرة