مسيرة العودة وصفقة القرن

مدونات - العودة
لم يعد الفلسطينيون في مخيمات الشتات يُعَلّقون مفاتيح بيوتهم كبيرة الحجم على أبواب خيامهم أو بيوت الصفيح التي أقيمت لهم في منافيهم فحسب، وما عاد يكفيهم رفعها في أيديهم أمام كاميرات التصوير أو رسمها كشعارات للعودة في إعلانات كبيرة يوزعونها على وسائل الإعلام في مهرجانات الإصرار على العودة؛ فمسيرة العودة التي يجري الإعداد لها، والتي ظهرت بوادرها في يوم الأرض بزخم كبير، خاصة على الحدود الشرقية لقطاع غزة؛ هذه المسيرة الكبرى التي ستبلغ الذروة في 15 مايو/أيار القادم ستغير أسلوب التصميم على العودة، كما أظهرت مقدمة المسيرة في يوم الأرض، حيث سترفع الجموع الغفيرة المتجهة إلى حدود فلسطين لافتات تحمل عبارات وشعارات تؤكد حق العودة إلى فلسطين.. كل فلسطين.

والجديد في هذه العبارات والشعارات أنها مكتوبة بدم الشهداء.. شهداء مسيرة العودة الكبرى التي ستنطلق من كل الجهات، مخترقة جدار الصمت العربي ومسجلة أعلى درجة من التصميم على العودة، رغم كل التحديات والمثبطات والحواجز المعززة بالأسلاك الشائكة.

إن ما يجري وسيجري الإعداد له من أعراسٍ وطنية لمسيرة العودة ستفوق معطياته ونتائجه كل التوقعات

إن العبارات والشعارات الصادقة والقوية التي ستكتب بدم الشهداء على لافتات كبيرة تحمل صور مدن وقرى فلسطين المغتصبة ستجذب عيون العالم الحر، وستحرّك الضمائر فيه نحو رد الظلم الكبير الذي وقع على شعب فلسطين، وحرمه من العيش على أرضه والتنفس من هواء وطنه المحتل.

إن ما يجري وسيجري الإعداد له من أعراسٍ وطنية لمسيرة العودة ستفوق معطياته ونتائجه كل التوقعات، وسيكذب زحف عشرات الآلاف -بل مئاتها- تلك النبوءة الكاذبة والواهمة التي تبجحت بها رئيسة وزراء الكيان المحتل في سبعينيات القرن الماضي جولدا مائير حين زعمت بأن الآباء من شعب فلسطين المنكوب والمشرد سيموتون والأبناء سينسون؛ فتنتهي القضية.

لقد ظهرت ردود فعل عربية وإسلامية كثيرة على القرار الظالم الذي اتخذه ووقعه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ونصَّ على أن تكون القدس عاصمة لدولة الاحتلال، كما ظهرت تعليقات رافضة وساخرة من "صفقة القرن" التي تقول الإدارة الأميركية إن طبختها على النار، ولكن ردود الأفعال تلك إلى جانب التعليقات الرافضة لم تغير من الأمر شيئاً، وظلت الإدارة الأميركية مصرّة على نقل سفارتها إلى القدس، وما زالت تتحدث عن صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية على الطريقة الإسرائيلية، ممهّدة لها بحض أطراف عربية على التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب والمصادر لكل الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك حق العودة.

مسيرة العودة ستمتلك القدرة الجماهيرية على تجسيد رد فعلٍ قوي وجازم على الوعد البلفوري للرئيس الأميركي ترمب الذي اعتبر القدس عاصمة إسرائيلية

ولكن الرد الحقيقي والفاعل والمؤثر سيتمثل في مسيرة العودة الكبرى التي بدأت ترفع مشاعلها في هذا الظلام الحالك، لتضيء طريق الرجوع إلى فلسطين، لافتة أنظار العالم بمجتمعه الدولي ومذكّرة بحق العودة الشرعي الذي نصّت عليه الأمم المتحدة، وتمثل في قرار مجلس الأمن (194) الذي أكَّد حق الفلسطينيين المحرومين من ديارهم في الرجوع إليها، سواء من أصبح لاجئاً منفياً عن "أرض 48″، أو من بات نازحاً عن الأرض التي احتلت عام 1967 نتيجة حرب حزيران المشؤومة.

ستمتلك مسيرة العودة القدرة الجماهيرية على تجسيد رد فعلٍ قوي وجازم على الوعد البلفوري للرئيس الأميركي ترمب، الذي اعتبر القدس عاصمة إسرائيلية، وعلى صفقة القرن الرهيبة والمريبة التي يجري الترويج لها في الأوساط العربية والدولية قبل ولادتها بكل ما فيها من تشوهات صادمة للطرف الآخر، ونعني به الطرف الفلسطيني والعربي والإسلامي على حد سواء.

إن مسيرة العودة بكل زخمها وصوتها القوي ستثبت أن اعتبار القدس عاصمة إسرائيلية ما هو إلا حبر على ورق سيتم طمسه بدم شهداء العودة، كما أن هذه المسيرة ستكون بمثابة الريح القوية التي ستقلب قدر طبخة صفقة القرن، مطفئة نارها دون أن تنضح شيئاً من طعامٍ لا يخلو من سم قاتل.

لقد أثبت التاريخ على مر السنين والعصور أن الشعوب تنتصر في النهاية وإن هُزمت، وأن إرادة الجماهير الواعية لقضيتها والمتشبثة بحقوقها المشروعة ستكون لها الغلبة في نهاية المطاف. قد تعترض نهر إرادتها المتدفق سدود ومحاولات أثيمة لتحويل مجراها، ولكنّه يظل ممتلكاً لقوة التدفق ومهدداً كل ما يدور حوله بالفيضان.

إن ما ظهر على الحدود الشرقية من قطاع غزة، الذي يعاني من حصار مزمن وإجحاف كبير خانق، في يوم الأرض ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن القضية الفلسطينية ما زالت حيّة في نفوس الأجيال

تلك هي حقيقة تاريخية ستجعلنا على يقين من أن إصرار الجماهير الفلسطينية في الداخل والخارج على تنفيذ مسيرة العودة وتصعيد فعلها الحازم على جهات الشتات الأربع سيغير من الواقع الرّديء، وسيضع القضية الفلسطينية برمتها وبكل جراحها ومآسيها على طاولة البحث أمام المجتمع الدولي، الذي لن يملك هذه المرّة أن يغمض عينيه، أو يُغيّب ضميره، أو يجيّر عقله لطرف ظالم دون طرف وقع عليه ظلمٌ كثير.

إن ما ظهر على الحدود الشرقية من قطاع غزة، الذي يعاني من حصار مزمن وإجحاف كبير خانق في يوم الأرض، من حشد وتضحيات ومواجهات دامية ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن القضية الفلسطينية ما زالت حيّة في نفوس الأجيال الجديدة، وثوابتها والحقوق المتعلقة بها ما زالت متجذرةً ومخضرةً ومزهرة في قلوب وعقول أبناء فلسطين، سواء من شرّدوا وأبعدوا عنها أو من ظلوا صامدين مرابطين على أرض البطولات والتضحيات فيها.

كما أن ارتقاء 18 شهيداً في انتفاضة يوم الأرض بقطاع غزة، وإصابة نحو 1400، في يوم واحد لهو أكبر دليل على تصميم هذا الشعب الذي لا ينحني لظلم أو يهادن ظالماً إزاء حقه في كسر الحصار الجائر، أو يقبل المساومة على العودة إلى كل مدنه وقراه المحتلة باستعمار صهيوني مسلح لم يشهد التاريخ له مثيلاً.

من يضمن لهذه المسيرة الكبرى أن تظل سلمية على أكثر من جبهة مواجهة، وألا تصبح مسيرة مسلحة بكل وسائل المقاومة وأسلحتها في قادم الأيام؟

ما جرى من مقدمات لمسيرة العودة في يوم الأرض على السياج الحدودي لقطاع غزة وفي أنحاء الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر؛ يشير بكل وضوح إلى الحجم الكبير لمسيرة العودة هذا العام، ودائرتها التي تأتي على أوسع نطاق دون أن تكون محكومة بمكان أو زمان محدّدين مما يوحي للمراقب بأن هذه المسيرة الأكبر والأوسع ستشكل بداية انتفاضة جديدة تكون امتداداً لانتفاضة القدس والانتفاضات السابقة لشعب اعتاد أن يعيش فوق الاحتلال لا تحت غطرسته وحصاراته.

وستحمل هذه الانتفاضة في الخارج والداخل اسم انتفاضة العودة التي ستكون كفيلة بوأد صفقة القرن وتشييعها إلى مثواها الأخير دون ترّحم عليها وعلى صانعيها وطهاتها في المطبخ الصهيوني على الطريقة الأميركية التي لا يعرف منظروها وعلى مدى عقود إلا الانحياز للطرف المحتل الذي تستبد به شهوة الاستيطان ومصادرة الحقوق وتزييف التاريخ.

ويبقى سؤال يطرح نفسه على الصعيدين العربي والدولي: إذا كانت مسيرة العودة الكبرى هذا العام سلمية يجري الإعداد لها على كل حاجز وسياج حدودي بإقامة مساحات اعتصام وأماكن مواجهات مدنية ترفع اللافتات وتطلق الهتافات التي تؤكد تصميم هذا الشعب على حق العودة المقدس، فمن يضمن في السنوات القادمة التي ستشهد تصاعد التحديات وتراكم المؤامرات وتواصل الحصارات والمصادرات والاقتحامات للمسجد الأقصى المبارك.. من يضمن لهذه المسيرة الكبرى أن تظل سلمية على أكثر من جبهة مواجهة، وألا تصبح مسيرة مسلحة بكل وسائل المقاومة وأسلحتها في قادم الأيام؛ فتشعل حرباً جديدةً في المنطقة، حيث لا تؤكد حق العودة فحسب، بل تعمل أيضا من أجل تحقيقه على الأرض بقوة المقاومة المتحدية لقوى الاحتلال والقوى المساندة لها؟

المصدر : الجزيرة