القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة (3-4)

"القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة"
كان علماء الآثار يظنون أن سرجون الثاني (722-705 ق.م) هو ابن تغلث بلاسر الثالث، وأنه أصبح ملكا على آشور عقب وفاة شقيقه سلمانو الخامس (شلمانصر في التوراة).

وكان السائد في الأوساط العلمية، خصوصا علماء الآثار، أنه الشخص نفسه الذي قصدته نقوش سلمانو الخامس (الذي كان يعد خطأ أنه الرابع).

كما أن بعض علماء الآثار خلط بينه وبين ابنه سنحاريب، وسوف أترك للقرّاء، من المتخصصين والهواة، الحرية والحق في طريقة وشكل استقبال الوقائع.

أما وجهة نظري، وهي عموما باتت معروفة في كثير من الأوساط العلمية خارج العالم العربي، فهي مبنية على قراءة موضوعية ونزيهة لهذه النقوش، فـ(تبّع إيل) مثلا ليس (إثيوبيًّا) بل هو ملك من ملوك سبأ.

أما (أرض المعينيين) فهي ليست أرض (المانويين)، بل هي أرض مملكة معين الجوف التي يعرفها علماء الآثار، و(الأرمانيين) ليسوا (سكان أرمينيا) بل هم قبائل اليمن، وهم يعرفون حتى اليوم باسم موطنهم هناك (قبائل الأرمان).

وبكل تأكيد لا يمكن لي أن أصدق أن قبائل سبأ وحمير ومأرب كانت تتصارع مع الآشوريين حول أورشليم في فلسطين، بمساعدة من إثيوبيا وأرمينيا ومصر وملك (مقاطعة موسكو) الآسيوية؟ مثل هذا الهراء تعجّ به كتب التاريخ القديم، وفي كل هذه السجلات لا وجود البتة لأي إشارة أو تلميح لأن القدس كانت عاصمة مملكة إسرائيل.

إن روايتي مبنية على الوقائع كما هي في النقوش، ففي العام 724 ق.م زحف شلمنصر الخامس (شقيق سرجون) على إسرائيل في الشمال (مأرب وصنعاء)، فاحتل كل البلاد باستثناء أورشليم.

كانت "السامرة" في هذا الوقت حصينة وتحت سيطرة القتبانيين الجنوبيين (في عدن ولحج وشبوة وسواحل تعز)، واستطاعت أن تقاوم الحصار لثلاث سنوات، ولكنها سلَّمت أخيرا في 722-721 ق.م. 

وحول هذه النقطة أريد أن أشير إلى أن أهمية (السامرة) كعاصمة لمملكة إسرائيل في التوراة (أي لمملكة سبأ الشمالية في التاريخ اليمني) شغلت علماء الآثار من التيار التوراتي.

سأشير عرضا -هنا- إلى أن السبئيين يعرفون بأنهم (أبناء عابر) أي أن هؤلاء هم العبرانيون، وهذا ما سوف أكشف عنه بدلالة النقوش في مؤلفاتي القادمة.

منذ وقت مبكر من أعمال التنقيب الأثري في نينوى (شمال العراق) التي قامت بها البعثة الدانماركية عام 1761-1768م، ثار نقاش طويل بين علماء الآشوريات حول اسم الفاتح الحقيقي (للسامرة) ضمن النصوص الآشورية (نقوش سرجون الثاني Ancient Assyrian records 2   P26).

في نص طويل من هذه النصوص سجل سرجون الثاني أنه استولى على السامرة، ولكن كان هناك إشكال محدد، يتعلق بوجود أكثر من اسم لإمبراطور آشوري ارتبطت به قصة الاستيلاء على (السامرة).

فهل كانت هذه الإشارات تتناقض مع إشارات مماثلة وردت في التوراة عن (سقوط السامرة) في قبضة ملك إسرائيلي؟

لقد دار النقاش حول هذا الجانب، وتغاضى الذين انخرطوا فيه عن طرح السؤال التالي: إذا كانت التوراة تتحدث عن (السامرة) باعتبارها عاصمة إسرائيل، فهل يعني هذا أن الآشوريين استولوا عليها، بصرف النظر عن اسم الإمبراطور؟ وبالفعل؛ فإن التوراة تتحدث عن الاستيلاء على السامرة بشكل تفصيلي، وكيف أصبحت (عاصمة لإسرائيل).

 

ما لم يفطن إليه علماء الآثار، أو أنهم تجاهلوه قصداً، أن سياق السجلات الآشورية يعجّ بأسماء قبائل وأماكن يمنية (وليست فلسطينية)، وبالتالي؛ فإن النقوش الآشورية تتحدث عن (سامرة) أخرى في مكان آخر لا علاقة لها بفلسطين

ما لم يفطن إليه علماء الآثار، أو أنهم تجاهلوه قصدا، أن سياق السجلات الآشورية يعجّ بأسماء قبائل وأماكن يمنية (وليست فلسطينية)، وبالتالي؛ فإن النقوش الآشورية تتحدث عن (سامرة) أخرى في مكان آخر لا علاقة لها بفلسطين، وعن ملك إسرائيلي استولى عليها وهو يحمل اسما عربيا صريحا (أخاب بن عمري).

ولا يزال هذا النقاش مستمرا حتى اليوم، فقط لأن التيار اللاهوتي -وهو الذي روّج لسردية زائفة تزعم أن أحداث النقوش الآشورية تدور في فلسطين- كان يشعر بالارتباك والقلق من أن ينسف هذا النقاش القصة الزائفة التي روجّ لها ، والقائلة إن (القدس كانت عاصمة إسرائيل القديمة)؟

وهكذا، أصبح الجدل حول اسم عاصمة إسرائيل القديمة مُحرجاً وبات أي اقتراب منه نسفا لرواية أن (القدس) هي التي أصبحت عاصمة إسرائيل القديمة. وفي وضع من هذا النوع أصبح اسم السامرة موضع خلاف بين علماء الآثار واللاهوتيين. 

بيد أن معظم هؤلاء سوف يصطدمون غالبا بالوقائع التي تسجلها نقوش سرجون، ففي بداية حكمه، حاصر السامرة وفتحها وسبى نحو ألف رجل من سكانها.

ولكن علماء آخرين لاحظوا أن ما جاء في سفر الملوك الثاني (17: 3-6) يؤيد على نحو ما فكرة استيلائه على السامرة، ذلك أن سلمانو الخامس (شلمانصر 744-727 قبل الميلاد ) دمر المدينة الحصينة دون أن يتمكن من الاستيلاء عليها.

وفي سفر الملوك الثاني (18: 10) يستخدم سارد النص جملة "أخذوا السامرة"، وهذا ما اعتبره علماء الآثار دليلا على أن المقصود (ملوك آشور)، وأن سرجون الثاني قد يكون هو منْ تمكن بالفعل من الاستيلاء عليها. في هذا الإطار يزعم علماء الآثار من التيار التوراتي (اللاهوتي) المهووس بالاستيلاء على أرض فلسطين بأي ثمن، أن حكم سرجون (720ق.م) شهد ثورات مضادة في حماة وغزة ودمشق ومصر وموسكو؟ وهذا أمر عجيب، لأن الجغرافيا في هذه الحالة تصبح خيالية.

لقد اعتقدوا خطأ ان اسم موضع (موشكو- موشكي Muski) يدل على ثورة حدثت في أرمينيا وموسكو؟ في الواقع ثار على سرجون ملك مقاطعة يمنية صغيرة تدعى (موسكي-موشكي) وهي عزلة جبلية لا تزال حتى اليوم تعرف بهذا الاسم في اليمن.

ثم تضاعف الخيال حين تصوّروا أن الملك (مته) ملك مقاطعة (مته) عام 717 ق.م هو -ملك موسكو الفريجية في أسيا الصغرى- المتحالف مع الحاكم الحثي، أثناء التصدي لسرجون الثاني في كركميش بسوريا؟ ولو أننا صدّقنا هذا الخيال اللاهوتي الذي قرئت فيه نقوش الآشوريين، فسوف تصبح فلسطين جزءا من مشكلة كان مسرحها بلاد الأناضول وأرمينيا وموسكو؟ وهذا خيال فظيع.

كما ترجمت كلمة (Mannean land أرض المعينيين) إلى(المناويين) والصحيح أنها (أرض المعينيين). كما ترجموا اسم أرمان إلى (أرمينيا)، والصحيح هم الأرمان وهؤلاء قبائل يمنية معروفة، كما ترجم اسم موشكي (Muski) إلى (موسكو/ الفريجية الآسيوية التي لا نعرف عنها أي شيء).

وبالطبع يستحيل علينا الجمع بين فلسطين وأرمينيا وموسكو في جغرافية واحدة. نقرأ في نقوش سرجون الثاني (722-705 ق.م) الذي ثار الجدل حول هويته بين علماء الآثار (ما يعرف باسم نقوش النمرود ) أنه وقبل أن يستولي على (السامرة) أخضع (أرض المعينيين) و(منطقة لود  Iaudu) التابعة لأرض اليهودية  Judah واستولى على عدد كبير من المدن منها (موشكي)، ومقاطعة (البديري Paddiri) وأسر أحد ملوكهم ويدعى أوبيدي إيلو / عبيد إيل). كما استولى على مقاطعة (الطبال  Tabal ).

 

أصبح الجدل حول اسم عاصمة إسرائيل القديمة محرجا وبات أي اقتراب منه نسفا لرواية أن (القدس) هي التي أصبحت عاصمة إسرائيل القديمة. وفي وضعٍ من هذا النوع أصبح اسم السامرة موضع خلاف بين علماء الآثار واللاهوتيين

يقول النص ما يلي:
(الأمير المعظم ، الذي قاتل (خمبان جاش Humbani gash ) ملك (Elam  عيلم) وجها لوجه في ضواحي (دير Der ) وهزمه والذي أخضع أرض (Iaudu   العود ) أي ((Judah اليهودية الواقعة بعيدا هناك، الذي حمل (أهالي) (حمث Hamath ) والذي أسرت يداه ملكهم (أوبو إدئيل Ia’u-bidi) الذي تصدى لشعب (Kamke كمخي) اﻷعداء اﻷشرار، الذي (أعاد القبائل) المعينية (Mannean) إلى النظام بعد ما عمّ فيها من الفوضى، والذي أسعد قلب أرضه، الذي وسع حدود (آشور Assyria), القائد المثابر، صائد الكفرة، الذي أسر بيده (بسيرس Pisiris) ملك حتي (Hatti) ووضع مأمورا له على عاصمته (كركميش Carchemish), والذي حمل (شعب) (سنحوتو Shinuhtu) الخاضع لـ(كياكي Kiakki ) ملك (الطبال Tabal) وأحضرهم إلى عاصمته آشور، الذي وضع نيره على أرض (موشكي Muski) الذي غزا المعينيين و(قر اللوى  Kar allu) والبديري (Paddiri)، والذي انتقم لأرضه؛ وأطاح بـ(الميداس Medes) البعيدة هناك عند حدود الشمس من مشرقها.

ويتابع النص:  ثم عبرت الربه (Rappa) وأرات- العراط (Aratta), وهما نبعان يتدفقان من قرب قواعد تلك الجبال، عبرتها والمياه مرتفعة فيها كما (لو كانتا) قنوات للسقاية. ونزلت بعدها على (Suri kash سوري وخاش ولاية من ولايات المعينيين) التي تقع على حدود (Kar alla قر- العلة) والعبرة (Allabria).

وكان أولو سونو (Ullu sunu) –المعيني- مدركا أنني لم أنس مخططاتي بالانتقام منه طوال كل تلك السنوات، كان قد سمع باقتراب حملتي. فما كان منه إلا أن هرع إليها من أرضه هو والنبلاء والشيوخ والمستشارون وبذور بيت أبيه (أي عائلته) والولاة والأشراف الذين كانوا يحكمون أرضه، هرعوا دونما رهائن، (مرتحلين) من (Izirtu العزرة), مدينته الملكية إلى (Sinihinu سنحانو), حصن مجاور لأرضه ووقف بين يدي. ثم وضع جزيته بين يدي من الخيول المثقلة بالأحمال مع سائسيها وقطعانا وماشية، وقبل قدمي.

كل هذا يعني أن النقاش حول (السامرة) التي استولى عليها سرجون لا معنى له، فهاهنا جغرافية يمنية لا جدال حولها، فأرض المعينيين هي مملكة الجوف (معين الجوف) و(موشكي) هي اليوم كما بالأمس البعيد في محافظة المحويت، مديرية الرجم، عزلة البشاري، قرية بيت الموشكى.

كل هذا يعني أن النقاش حول (السامرة) التي استولى عليها سرجون لا معنى له، فها هنا جغرافية يمنية لا جدال حولها، فأرض المعينيين هي مملكة الجوف (معين الجوف) و(موشكي) هي اليوم كما بالأمس البعيد في محافظة المحويت

وكل هذا يعني أيضاً أن (القدس) لم تكن قط، ولا في أي وقت عاصمة إسرائيل القديمة. وهل لعاقل أن يصدق أن (القدس) كانت عاصمة إسرائيل في (موشكي بالمحويت) ضمن (أرض اليهودية) قرب (أرض المعينيين)؟

لن أكشف في هذه الحلقات عن المكان الحقيقي لـ (السامرة) الأخرى، لأسباب تقنية وقانونية تتعلق بعقد نشر كتابي القادم (الثالث من مجلد إسرائيل المُتخيّلة.. مملكة يهوذا والسامرة.. البحث عن مملكة حمير اليهودية)، ففيه خرائط دقيقة وتفاصيل مذهلة عن (السامرة) التي أصبحت عاصمة إسرائيل القديمة. 

يتبقى أن أوضحّ الأمر التالي: عندما انقسمت المملكة السبئية/الحميرية الموحدّة  727-605 ق.م، وتحولت إلى مملكتين شمالية (سبأ) وجنوبية (حمير/أي يهوذا) فقد اتفقت المملكتان حسب التوراة على حماية (أورشليم) كمدينة دينية مشتركة.

بكلام آخر: أصبحت (السامرة) عاصمة مملكة إسرائيل، لكنها مع ذلك وبسبب الصراع بين الإسرائيليين الشماليين واليهود الجنوبيين (الحميريين) سقطت مرارا في قبضة اليهود.

ومع كل هذا ظلت أورشليم هي (المدينة/المعبد)، أي المدينة المقدسة التي يحج إليها الإسرائيليون الشماليون واليهود الجنوبيون.

المصدر : الجزيرة