دوافع نقل أحياء القدس لمسؤولية جيش الاحتلال

قرار إسرائيل نقل المسؤولية الامنية في احياء القدس
في خطوة اعتبرت التفافا على رفض الكنيست الإسرائيلي قبل بضعة أسابيع تعديل قانون أساس القدس بما يسمح للحكومة الإسرائيلية بإخراج أحياء القدس الشرقية -الواقعة خارج الجدار- خارج حدود بلدية القدس ومنحها مجلسا محليا منفصلا؛ قررت حكومة نتنياهو نقل المسؤولية الأمنية في الأحياء المقدسية إلى الجيش.

ويقطن في هذه الأحياء قرابة 140 ألف مقدسي، مما يثير تخوفات السكان ويطرح تساؤلات عديدة عن نوايا إسرائيل تجاه هذه الأحياء وسكانها. فالجيش الإسرائيلي لا يحمل أي مسؤولية أمنية داخل أي مكان في إسرائيل، وإعطاء الجيش مسؤولية أمنية بهذه الأحياء هو سابقة قد يكون لها ما يتبعها.

الجدار والخطة
في عام 2002، وكرد على انتفاضة الأقصى وما رافقها من عمليات، قررت حكومة شارون بناء جدار عازل بين إسرائيل والفلسطينيين. قرار رآه جزء من العالم عبقريا، وجزء آخر من العالم رآه غير واقعي وفيه ترسيخ للفصل العنصري.

مسار هذا الجدار لم يمر بالضبط على حدود السادس من يونيو/حزيران 1967،  لكنه قضم الكثير الكثير من الأراضي الفلسطينية ومنع آلاف الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم. أكثر شيء غرابة بمسار الجدار كان فصله أحياء من القدس الشرقية -تعتبرها إسرائيل جزءا من القدس الموحدة- وإبقاؤها خارج الجدار.

بين 1967 و2015 ازداد عدد السكان اليهود في المدينة 174 ألف نسمة، ولكن السكان العرب ازدادوا في هذه الفترة الزمنية نفسها ضعفين أو أكثر

بعد الاحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة، قامت السلطات الإسرائيلية بضم ما يقارب 72 كيلومترا مربعا من أراضي الضفة الغربية إلى حدود بلدية القدس، وفرضت القانون الإسرائيلي عليها. ولم تشمل الأراضي المضمومة المدينة الشرقية بحدودها التي كانت تحت السيطرة الأردنية فقط، وإنما شملت أيضا قرابة 64 كيلومترا إضافية كانت تتبع للقرى والمدن الفلسطينية المحيطة.

الاعتبار الإسرائيلي الرئيسي كان الامتناع عن ضم المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين إلى حدود القدس، وذلك من أجل ضمان الأغلبية اليهودية في المدينة، ووفقا لذلك وضعت عدة قرى خارج الحدود البلدية للمدينة، في حين ضمت بعض أراضيها لهذه الحدود.

بحلول عام 2000 تقريبا، فهمت إسرائيل أنها بصدد خسارة المعركة الديمغرافية بالقدس، إذ تؤكد معطيات الكتاب السنوي الإحصائي للقدس الذي أصدره الاحتلال عام 2017، أنه بين عامي 1967 و2015 ازداد عدد السكان اليهود في المدينة 174 ألف نسمة، ولكن السكان العرب ازدادوا في هذه الفترة الزمنية نفسها ضعفين أو أكثر. وبحسب المعطيات الرسمية، ففي عام 2015 كان يعيش في القدس 542 ألف يهودي (مقارنة بـ187,700 عام 1967) و324 ألف عربي (مقارنة بـ86,600 عام 1967)؛ وهذا دفع إسرائيل للبحث عن حلول جذرية للمشكلة الديمغرافية.

معضلة ديمغرافية
ويبدو أن السلطات الإسرائيلية وجدت الحل للمعضلة الديمغرافية ببناء الجدار، ففي الوقت الذي كانت فيه دائما تدعي أن الهدف من بناء الجدار أمني بحت، فإنها اعترفت بشكل رسمي عند رسم مسار الجدار داخل حدود بلدية القدس أنه جاء لهدفين: "حماية أمن إسرائيل والمحافظة على اهتمامات إسرائيل بالقدس". وعلى الرغم من أن الادعاء الأمني كان واضحا وقتها، لكن موضوع "المحافظة على اهتمامات إسرائيل بالقدس" لم يكن مفهوما، لكنه بدأ يتوضح الآن
.

استعملت إسرائيل الجدار داخل هذه الأحياء لعمل فراغ أمني ثم استعملت الفراغ الأمني لنقل المسؤولية الأمنية بعد ذلك للجيش

فبعد أن ضمت إسرائيل القدس الشرقية وصعبت كثيرا البناء على الفلسطينيين -حيث سمحت بالبناء للفلسطينيين فقط على 8% من أراضي القدس الشرقية، واليوم هناك نقص بحوالي عشرين ألف وحدة سكنية بالقدس- قررت بناء الجدار العازل داخل أحياء القدس الشرقية، ثم سمحت بالبناء العشوائي ودون حسيب أو رقيب في أحياء خلف الجدار واستمرت بمنع البناء داخله، وهذا اضطر السكان إلى الانتقال إلى هذه الأحياء مما رفع بشكل كبير جدا عدد السكان هناك. في المقابل تجاهلت بلدية القدس الزيادة المهولة بعدد السكان واحتياجاتهم، مما أدى إلى شبه انهيار في الخدمات البلدية والبنى التحتية.

الجدار وسيطرة الجيش
تستعمل السلطات الإسرائيلية مصطلح الأمن بشكل فضفاض، ففي عام 2002 كانت هناك حاجة أمنية لبناء الجدار داخل حدود بلدية القدس وفصل أحياء مقدسية عن مدينتها الأم، واليوم تستعمل إسرائيل الأمن كحجة لنقل المسؤولية الأمنية بهذه الأحياء ليد الجيش الإسرائيلي، فهي تدعي أن بناء الجدار أدى إلى وجود فراغ أمني بهذه الأحياء وهذا أدى إلى خروج مهاجمين فلسطينيين كثر منها باتجاه إسرائيل، وهذا أمر غير صحيح أبدا من ناحية إحصائية.

بمعنى آخر، استعملت إسرائيل الجدار داخل هذه الأحياء لعمل فراغ أمني، ثم استعملت الفراغ الأمني لنقل المسؤولية الأمنية بعد ذلك للجيش، هذا على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي كان أصلا يقوم في كثير من المرات بعمليات داخل هذه الأحياء.

سيناريوهات متوقعة
كما أسلفنا، فإن إسرائيل دفعت بالمقدسيين للانتقال بشكل كبير لأحياء خلف الجدار، ثم ما لبثت أن أهملتها بشكل كامل، والآن جاء القرار بنقل المسؤولية الأمنية للجيش بعد فشل تمرير قانون يسمح يفصلها عن القدس، كل هذا يوحي بأن الخطوة التالية ستكون فصل هذه الأحياء عن القدس. فيكفي أن نعرف أن الجيش الإسرائيلي يطلق على نقاط التفتيش الفاصلة بين هذه الأحياء وباقي مدينة القدس مصطلح "معابر" -وليس "نقاط تفتيش"- لنعرف أن هناك نوايا مبيتة.

لا أظن أن إسرائيل ستتخلى مجانا عن هذه الأحياء، حتى لو كانت لا تريدها، فهي لن ترجعها للفلسطينيين دون أن يكون لإرجاعها مكاسب سياسية لها

رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزيره لشؤون القدس ورئيس بلدية القدس أوضحوا أكثر من مرة أنهم لا يريدون الأحياء المقدسية الواقعة خلف الجدار، وهم من مدة بدؤوا "شيطنة" هذه الأحياء أمام الرأي العام الإسرائيلي بالقول إن عشرات آلاف المقدسيين يسكنون بها وإنها أصبحت مرتعا للإرهاب والمهاجمين الفلسطينيين ضد إسرائيل، ناهيك عن التذكير بالوضع الديمغرافي بالقدس، كل هذا يمكن أن يكون خطوة باتجاه الانفصال عن هذه الأحياء، ولا سيما أن الجيش الإسرائيلي يعمل حاليا على توسيع حاجز قلنديا العسكري مما يعني أن النوايا قد تتحول إلى أفعال قريبا.

من ناحية أخرى، لا أظن أن إسرائيل ستتخلى مجانا عن هذه الأحياء، حتى لو كانت لا تريدها، فهي لن ترجعها للفلسطينيين دون أن يكون لإرجاعها مكاسب سياسية لها. وقد تكون هذه الأحياء جزءا من صفقة ترمب.

مكانة الفلسطينيين
وفقا لتفسير حكم القضاء (الإسرائيلي) للبند (أ) من قانون الدخول إلى إسرائيل 1952، ينظر إلى سكان القدس الشرقية على اعتبار أنهم حصلوا على تصريح أو إذن بالإقامة الدائمة، استنادا للاعتراف بالسكان الذين شملهم الإحصاء السكاني الذي أجرته وزارة الداخلية الإسرائيلية بعد حرب العام 1967، وذلك على الرغم من أن هؤلاء الفلسطينيين لم "يدخلوا" إلى إسرائيل، حسبما جاء في نص القانون، والأصح القول إن إسرائيل هي التي "دخلت" إليهم.

وبذلك فقد فرضت -من ناحية عملية- مكانة "الإقامة" على سكان القدس الشرقية العرب، علما بأن رفضهم لهذه المكانة كان معناه إلغاء حقهم في مواصلة السكن في بيوتهم وإقامة حياة منظمة في المكان الذي ولدوا وعاشوا فيه، والعيش في ظل شبح الطرد.

لا يتمتع السكان المقدسيون بالحق المدني الأساس في الانتخاب والترشح لمؤسسات السلطة المركزية (البرلمان الإسرائيلي) طالما أنهم لا يحملون جوازات سفر إسرائيلية، لكن يحق لهم التصويت والانتخاب في انتخابات السلطة المحلية الممثلة ببلدية القدس، من دون حق الترشح لمنصب رئيس البلدية. مع ذلك فإن الغالبية العظمى من سكان المدينة العرب تقاطع الانتخابات البلدية كتعبير عن عدم تسليمها بسلطة الاحتلال والضم الإسرائيلي للمدينة، وللتأكيد على انتماء المقدسيين الوطني الفلسطيني.

التخوّف الحقيقي لسكان أحياء خلف الجدار هو أن يكون نقل المسؤولية الأمنية بداية لخسارتهم حقهم في الإقامة

ما بعد المسؤولية الأمنية
على الرغم من أن "قانون الدخول إلى إسرائيل" لا يتضمن أي نص أو تعليمات صريحة ينتهي بموجبها مفعول تصريح الإقامة الدائمة في حال مغادرة صاحب التصريح إسرائيل وإقامته في دولة أخرى، فإن وزارة الداخلية الإسرائيلية قامت، خلال العشرين سنة الماضية -معتمدة على تفسير معين لأنظمة الدخول إلى إسرائيل ولأحكام صادرة عن المحكمة الإسرائيلية العليا- بإلغاء مكانة "الإقامة الدائمة" وسحب هويات الآلاف من المقدسيين الذين مكثوا في الخارج لأغراض مختلفة كالدراسة أو العمل، لمدة تزيد على سبع سنوات.

ومنذ منتصف عقد التسعينيات، واجه أيضا الكثيرون من سكان القدس الشرقية الذين توجهوا بطلبات مختلفة لوزارة الداخلية الإسرائيلية، رفضا من جانب الوزارة لإعطاء الخدمة المطلوبة، وتم تسليمهم بلاغا مقتضبا بانتهاء مفعول رخصة إقامتهم الدائمة بدعوى أنهم نقلوا "مركز حياتهم" إلى خارج إسرائيل.

التخوّف الحقيقي لسكان أحياء خلف الجدار هو أن يكون نقل المسؤولية الأمنية بداية لخسارتهم حقهم في الإقامة. لا شك أيضا أن هناك تخوفات أخرى تتعلق بالعمليات الأمنية التي قد يبدأ الجيش بتفعيلها أكثر وأكثر في هذه الأحياء، مما سيمس بمسيرة حياتهم. يتخوف السكان أيضا من زيادة ساعات الانتظار على نقاط التفتيش الفاصلة بينهم وبين القدس، ومن أن تقوم البلدية الإسرائيلية باستعمال نقل المسؤولية الأمنية سببا لإيقاف خدماتها البلدية السيئة جدا أصلا.

المشكلة، أنه لا توجد ردود فعل فلسطينية أو دولية بخصوص نقل المسؤولية الأمنية للجيش، فعلى الرغم من أن القانون الدولي لا يزال يرى في هذه الأحياء أحياء محتلة واقعة تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، فإن استمرار إسرائيل باتخاذ خطوات أحادية الجانب في ظل استمرار الصمت العربي والدولي سيمنع بالتأكيد أي أفق حل سياسي.

المصدر : الجزيرة