شلمانصر الثالث والصراع مع ملوك اليهود في اليمن

تصميم يصلح صورة رئيسية لمقال يفند فيه الكاتب اداءعائات إسرائيلية بشأن أحداث وشخصيات تاريخية مثيرة للجدل، في محاولة من المحاتل لتعزيز وجوده بروايات تاريخية يفندها الكا

لم يطرح أي من علماء الآثار ممن اشتغلوا بأعمال التنقيب في العراق، أو ترجموا النقوش الآشورية، أو قدّموا دراسات وتحليلات بشأنها طوال المئة عام الماضية، السؤال البسيط التالي: إذا كانت الحملات الحربية البابلية والآشورية -كما يقال لنا- دارت في فلسطين واستهدفت ملوك اليهود، فلماذا تسجل النقوش أسماء القبائل والممالك اليمنية التي واجهها هؤلاء؟ أي لماذا تروي هذه النقوش وقائع الحملات الحربية ضد مملكة أوسان (جنوب اليمن) وقبائل سبأ وحمير وخولان، وتسجل أسماء الملوك اليهود الذين تمت هزيمتهم خلالها، إذا ما كانت هذه الحملات دارت في فلسطين؟

ثم هل من المنطقي تخيّل معارك ضد ممالك وقبائل في أقصى الجنوب الغربي من الجزيرة العربية (اليمن) وفي الآن ذاته معارك أخرى ضد ملوك اليهود في فلسطين، أي في أقصى شمال الجزيرة العربية؟ هذه حروب خيالية في جغرافيا خيالية. هل يمكن تخيّل وجود الملك الإسرائيلي "أخاب" في فلسطين، وهو يقاتل ضمن تحالف يضمّ قبائل مملكة أوسان وخولان؟ إن التاريخ لا يتقبّل مثل هذه الجغرافيا، ولا يعرف أي شيء عن واقعة من هذا الطراز العجائبي.

هل يمكن تخيّل وجود الملك الإسرائيلي "أخاب" في فلسطين وهو يقاتل ضمن تحالف يضمّ قبائل مملكة أوسان وخولان؟ إن التاريخ لا يتقبّل مثل هذه الجغرافيا

ومع ذلك، قام علماء الآثار من التيار التوراتي بتزوير وتلفيق تاريخ بلاد الشام وتصنيع تاريخ فلسطيني لا أساس له، فقط لتبرير أكذوبة أن البابليين والآشوريين اضطهدوا اليهود في فلسطين، بينما تقول النقوش إن هؤلاء اضطهدوا قبائل اليمن وأخضعوها وفرضوا عليها  الجزية، وأرغموها على تأمين وصول إمدادات البخور والذهب إلى بابل ثم آشور، ومن ضمن هذه القبائل بنو إسرائيل.

إن الثروة الهائلة التي كانت في حوزة شعوب وقبائل اليمن القديمة تضاهي وتماثل ثروة النفط في عصرنا، ولذا كان هدف الغزو البابلي-الآشوري المستمر ضمان الحصول على حصة الأقوياء في المنطقة من هذه الثروة.

قراءة النقوش
في هذا العصر، لم يكن القطاع الجنوبي من بلاد الشام -وهو ما سيعرف بفلسطين- يملك أي شيء من الثروات التي تطمع فيها الإمبراطوريات.. لا البخور ولا الذهب ولا الأحجار الكريمة. سأثير في نطاق هذه المسألة الشكوك بشأن "قراءة النقوش الآشورية".

لقد جرى تلاعب مفضوح وشامل في قراءة وفهم المضامين الحقيقية لكل النقوش (ما يزيد عن خمسة مجلدات ضخمة في المتحف البريطاني). وأكثر من ذلك، تمّ من خلال هذه القراءة التلاعب بتاريخ المنطقة وتلفيق تاريخ فلسطيني ليدعم أسطورة وجود مملكة إسرائيلية في فلسطين قبل ألفي عام، ولتبرير ما يزعم أنه حق تاريخي في فلسطين؟

في النقش المعروف باسم "نقش شلمانصر الثالث" ضمن مقتنيات المتحف البريطاني، يسجل الملك الآشوري (858-823 ق.م وهو ابن الملك آشور ناصربال الثانى) ما يلي:

أنا أميّز -كما يفعل القرآن- بين بني إسرائيل واليهود، فبنو إسرائيل قبيلة، واليهود أتباع ديانة تعرف باسم اليهودية. وهذا أمر مماثل للتمييز بين قريش القبيلة وبين الإسلام

"خرجتُ من أرجانة-عرجان واقتربتُ من قرقر. أنا دمرت، وهدمت، وأحرقت كركه (كوركه عند نهر وادي تجرس.. مدينته الملكية). أحضر اثني عشر من الملوك لدعمه.. احتشدوا في مواجهتي يطلبون قتالي: 1200 من المركوبات، 1200 من أسلحة الفرسان، و2000 جندي ينتمون إلى هدد عزر دمشق. 700 من المركوبات و700 من أسلحة الفرسان، و10000 جندي ينتمون إلى عر-خولان وحمة. و2000 من المركوبات، و10000 جندي ينتمون إلى أخاب الإسرائيلي، و10000 جندي من عر-جنات، و200 جندي من متاني بعلو، ومن أرفد 200 جندي و30 من الأوسانيين مركوبات، (0؟)، 000 (هكذا وردت في أصل النقش) جنود بعل عدينو من شيان-سيان وجندبو ملك العربة جنود بعشا-بعشه، من رحوب، ومن العمونيين. كل هؤلاء الملوك الـ12 احتشدوا ضدي، وبقوة إلهي آشور قهرتهم".

في هذا النقش لدينا اسما ملكين، أحدهما إسرائيلي هو "أخاب" وآخر يهودي هو "بعشه-بعشا". وهذان الاسمان وردا في نصوص التوراة بنفس الصيغة الواردة في النقش تماما. وأنا أميّز -كما يفعل القرآن- بين بني إسرائيل واليهود، فبنو إسرائيل قبيلة، واليهود أتباع ديانة تعرف باسم اليهودية، وهذا أمر مماثل للتمييز بين قريش القبيلة وبين الإسلام. ولدينا -فضلا عن ذلك- بعل عدينو (بعل العدين وهي من ممالك ما يعرف اليوم بمحافظة إب). والأهم من كل هذه الأسماء، لدينا اسم الأوسانيين مؤسسي مملكة أوسان الجنوبية.

ورد اسم بعشه-بعشا في سفر الملوك (1: 15: 33) "فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لآسَا مَلِكِ يَهُوذَا، مَلَكَ بَعْشَا بْنُ أَخِيَّا عَلَى جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ فِي تِرْصَةَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً".

وورد اسم أخاب في سفر الملوك الأول (الآيات 29-34): وأخاب بن عمري ملك على إسرائيل في السنة الثامنة والثلاثين لآسا-آسه ملك يهوذا (يهوده)، وملك أخاب بن عمري على إسرائيل في السامرة اثنتين وعشرين سنة، وعمل أخاب بن عمري الشر في عيني الرب أكثر من جميع الذين قبله.

اللاهوتيون في علم الآثار هم الذين حرفوا أنظارنا عن المكان الذي جرت فيه المعارك، واستبدلوه بمسرح خيالي هو أرض فلسطين

هذا يعني أن أخاب أصبح ملكاً بعد 35 عاما من وفاة بعشا، والنقش الآشوري يؤكد أن شلمانصر اصطدم بملكين-زعيمين، يدعى أحدهما أخاب وآخر يدعى بعشا-بعشه. هذا التطابق بين الرواية التاريخية الآشورية، والرواية الدينية في التوراة، يجب أن يلفت انتباهنا إلى المسرح الحقيقي للأحداث.. أين وقعت؟ إن اللاهوتيين في علم الآثار هم الذين حرفوا أنظارنا عن المكان الذي جرت فيه المعارك، واستبدلوه بمسرح خيالي هو أرض فلسطين.

سوف أقدّم الملاحظات التالية للكشف عن نوع وطبيعة التلفيق الذي تعرض له التاريخ الفلسطيني وتاريخ المنطقة:

أولا- إن الحملة التي قادها شلمانصر الثالث بنفسه نحو 850 ق.م، جرت في اليمن القديم ضد مملكة أوسان وليس في فلسطين. وفي هذا العصر، وطبقاً للنقوش المسندية اليمنية، كانت هذه المملكة العظيمة تفرض سيطرتها من باب المندب وعدن وصولاً إلى تعز وساحل الحديدة. كانت أوسان من أهم حلفاء سبأ (وخولان بطبيعة الحال)، وقد وضع السبئيون والأوسانيون الأسس الأولى للتحالف الشمالي-الجنوبي (السبئي-الحميري) لمواجهة مملكة مصرن في الجوف (مصريم التي يزعم أنها مصر البلد العربي). ولذلك يقول النقش الآشوري إن شلمانصر الثالث هزم الأوسانيين ودحر خولان والملك الإسرائيلي أخاب. انتهت مملكة أوسان بعد 200 عام من هذه الحملة، حين انهار تحالف الشمال السبئي مع الجنوب الحميري، وجرى تفكيك المملكة على يد الملك السبئي كرب إيل وتر عام 650 ق.م.

ثانيا- أن الملك الآشوري واجه تحالفا قبليا عريضا ضم بني إسرائيل (ملك أخاب) والكاهن اليهودي بعشا-بعشه، وأوسان وخولان وملك دمشق. وبالطبع لا يمكن تخيّل وجود مثل هذا التحالف في أرض فلسطين. فما علاقة مملكة أوسان في أقصى الجنوب الغربي من الجزيرة العربية بفلسطين أو دمشق؟ بينما يرسم لنا النقش الآشوري وبوضوح، جغرافيا جنوب اليمن حيث دارت المعارك.

ما علاقة مملكة أوسان في أقصى الجنوب الغربي من الجزيرة العربية بفلسطين أو دمشق؟ بينما يرسم لنا النقش الآشوري وبوضوح، جغرافيا جنوب اليمن حيث دارت المعارك

ويمكننا اليوم أن نجد هذه الأسماء في جنوب اليمن صامدة على مر التاريخ، بحيث تتطابق الجغرافيا مع التاريخ تطابقاً تاما.. سنجد اسم المدينة التي وصلها شلمانصر (أرجانة-عرجانة) في محافظة لحج، مديرية طور الباحة، عزلة طور الباحة ، قرية عرجان.

كما نجد اسم قرقر في محافظة أبين، مديرية سرار، عزلة سرار، قرية قرقر. وهناك سنجد اسم إسرائيل: محافظة أبين، مديرية لودر، عزلة زاره، قرية قرن آل إسرائيل. كما نجد اسم إسرائيل في مديرية أخرى من نفس المحافظة: مديرية مودية، عزلة مودية، قرية قرنعة آل إسرائيل. وعلى مقربة منها سنجد اسم الملك الإسرائيلي أخاب في محافظة الضالع، مديرية دمت، عزلة الظاهرة، قرية خاب. وسوف أعطي في مناسبة أخرى الأسماء نفسها في النقوش المسندية (لأن المساحة المخصصة لي لا تتسع للمزيد).

ثالثا- شرح علماء الآثار من التيار التوراتي مضمون النقش (شروحات المتحف البريطاني) على النحو الآتي، وهذا نموذج واحد عن التزوير:

"ومع ذلك، نالت الحرب ضد سوريا الكثير من اهتمام أخاب في الشمال (ملوك 1: 20). وعندما قويت شوكة إسرائيل وأصبحت يدها هي اليد العليا، وقعت معاهدة سلام بين البلدين استمرت ثلاث سنوات (ملوك 1: 20، 31-34، 22). ولدت فترة السلام هذه من الضرورة، لأن سوريا وإسرائيل كانتا تواجهان الآن عدوا مشتركا آشوريا).

إن هذا الشرح الخيالي المفرّغ من أي تحليل علمي نزيه موضوعي، الذي دخل مناهج التعليم في العالم العربي منذ نحو قرن كامل، وأعاد إنتاجه الباحثون والدارسون العرب دون توقف، هو الطبقة الرقيقة من التاريخ الزائف الذي اختلقه اللاهوتيون. ومن المؤسف أن من يقرؤون ويدرسون النقوش الآشورية لا يكلفون أنفسهم عناء النقد والتدقيق في الهراء الاستشراقي الذي انتهى إلى صناعة تاريخ فلسطيني يخدم أسطورة المملكة الإسرائيلية القديمة في أرض فلسطين.

هذا النقش ومعه نص التوراة، يرويان قصة المعارك المبكرة ضد مملكة أوسان 850 ق.م، يوم لم يكن هناك قطاع إداري في بلاد الشام يدعى فلسطين. لقد ولد اسم هذا القطاع بعد قرون طويلة مع الرومان.

المصدر : الجزيرة