الأسرى وفن كتمان الوجع

الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية

 

أحلام التميمي*
أحلام التميمي*

لم تتقن عبير ابنة العشرة أعوام فن كتمان الوجع يوم منعتها مصلحة السجون احتضان والدها الأسير يوسف سكافي المحكوم بالسجن أربعة مؤبدات، وقفت في غرفة زيارة الأسرى في سجن بئر السبع منتظرة السماح لها باحتضان والدها لدقيقتين من دون حاجز، ولكنهم لم يفتحوا لها الباب فظلت شاخصة البصر تضرب على الفاصل الزجاجي باكية لعلها تكسره فلم يكسر.

عادت أدراجها إلى المنزل ولم تنبس بحرف واحد، أصيبت بصدمة عصبية وتوفيت على الفور، ليستقبل والدها الأسير نبأ رحيلها بقهر بالغ يعادل قهر الأمم المنكوبة، دوت صرخته بين جدران الزنزانة ليرجع صداها إليه ويزيده قهرا مضاعفا.

في أبريل/نيسان من كل عام يحيي المتضامنون مع الأسرى ذكرى يوم الأسير، بينما يحيي الأسير سكافي في الشهر ذاته مرور خمس سنوات على استشهاد ابنته، ومنذ رحيلها حتى اليوم وهو يحترف فن كتمان الوجع كغيره من الأسرى الذين يستقبلون بين حين وآخر نبأ رحيل عزيز عليهم، من دون أن يحظوا بلحظة عناق واحدة.

عشرات الأسرى يودعون عزيزا عليهم أو يزوجون أبناءهم ويكتفون بالخيال ملاذا، وفي كلتا الحالتين "الفرح والترح" تكون المشاعر موجعة تضرب كالخنجر في القلب

عشرات الأسرى يودعون عزيزا عليهم أو يزوجون أبناءهم ويكتفون بالخيال ملاذا، وفي كلتا الحالتين "الفرح والترح" تكون المشاعر موجعة تضرب كالخنجر في القلب، فاعتصار المشاعر ودفنها يشكل غصة تؤلم وقهرا لا يفرغ.

يلجأ الأسير إلى تفريغ وجعه بالبكاء وبالصلاة والسجود والرياضة وغيرها ولو بشكل مؤقت، فالوجع متجذر بعمر سنوات الأسر، تارة بسبب البعد وتارة بسبب صلف السجان وتارة يكون الشوق قاهرا كموج متلاطم حتى يستنفد قواه، مع هذا تبقى له القدرة على كتمان الوجع والمواصلة نحو المجهول.

هو فن احترفه منذ وطأت قدماه زنزانة السجن، منذ أن ترك خلفه الحرية وأضحت مجرد ذكريات تستحضر كلما سكنه الحنين، ويصبح المستقبل مقرونا بالخيال، صور يرسمها الأسير بريشته كما يحلو له وكما يتوقع، يحتفظ بها في عقله الباطن متأملا بيوم تضحك له الألوان.

كم الأوجاع التي يكتمها الأسرى في خوالجهم يشل أي إنسان، ولكنهم يمتلكون قلوبا تضخ دماء الكرامة، فلا تراها تنضب ولا تراها تفسد ولا تفتر، ولربما يعود السر لمياه الأرض التي امتزجت بتكوينهم وإلى الإيمان المطلق بحقهم في الحياة بحرية دون منازع.

ترى بعضهم ممنوعين من زيارة عائلاتهم بحجة قانون المنع الأمني الذي ابتكره الكيان الإسرائيلي لأسباب تبقى خلف الستار، وبعضهم الآخر ممنوعون من مراسلة زوجاتهم عبر الورق إلا إذا فحص كلماتهم الحميمية رجل مخابرات أرعن متخصص بالتلصص على الخصوصيات، وبعضهم ممنوعون من احتضان أطفالهم الذين يصعب عليهم فهم ماذا يعني إسرائيلي؟ وماذا يعني أسير؟ وماذا يساوي؟ هم فقط يريدون آباءهم، وغير متخصصين بمهارة فك المعادلات.

كلهم احترفوا فن كتمان الوجع ومضوا في دهاليز السجن، أقدمهم الأسير كريم يونس (68 عاما) الذي أنهى عامه الـ34 في الأسر، قضى نصف عمره وأجمل سنوات حياته وفتوة جسده خلف القضبان، لتترك له بياض الشعر وتجاعيد الوجه وألما هنا وهناك، لتسرق منه الذاكرة والمكان وتكبل أحلامه بالمستقبل.

في ركن آخر حيث تشاركها الجرذان سنوات أسرها وتزورها بين الفينة والأخرى من فتحات المصارف الصحية لسجن الشارون تقبع أقدم أسيرة.. لينا جربوني، وقد تجاوز عمرها الأربعين وكادت السنوات الـ13 الأخيرة تخفي بسمتها.

ظنت يوما أنها ستبعثر أوجاعها في الهواء وتنطلق مع نسيم الحرية، لكنها صفعت ألف صفعة يوم أغلق باب الزنزانة عليها لتبقى وحيدة مع الجرذان وسكون المكان إلا من وحشية السجان.

ماذا لو كان شعار كأس العالم صورة كريم يونس مثلا، أو حمل لباس منتخباتنا الوطنية مع كل رقم صورة أسير محكوم بنفس العدد، ماذا لو فكرنا أن شكلا تضامنيا بسيطا بنظرنا يعني الكثير لهم ويشكل وقود استمرارهم، فمن يبادر باستلام زمام تخفيف الوجع بدل كتمانه؟

تركتها الأسيرات يوم تحررن في صفقة "وفاء الأحرار" ليتحول المشهد من بقعة جغرافية مسيجة عامرة بالأسيرات إلى مشهد فارغ حيث لا شيء سوى نقطة في صفحة بيضاء لا تدور حولها الكلمات فظلت مجرد نقطة في الفراغ.

كتمان الوجع لا يحترفه إلا من نحتت عزيمته الأيام الطويلة على سرير حديدي أصم، فهناك أكثر من أربعمئة طفل أسير تحت سن الـ18، أحدهم حاصر جسده النحيل ثلاثة محققين، تحسسوا مناطق الحياء فيه، ضربوه عليها فلم يقل آه بل كتمها في جوفه، ومن لحظتها وهو يبتلع ألمه ويواصل أمله.

يحتاج الأسير لأصوات تنادي باسمه، تخترق بتضامنها معه حدود السجان المصطنعة، يحتاج لفن التضامن الضاغط ولاتساع رقعته في وقت ما زلنا فيه نذكرهم بشكل موسمي لا أكثر، يحتاج لمن يلتقط أوجاعه فيحتضنها ويذيبها في جزيئات تبعث السعادة وتلون جدران الزنزانة بزهور الأمل.

ما زلنا ندور بأشكال تضامننا مع الأسرى في فلك الروتين والتكرار، لدرجة أن الأسير يجزم بأن الوطن الذي ضحى لأجله لا يكترث بتضحياته، وأن الشعوب التي حمل زمام المبادرة وقاتل باسمها لا تدرك قيمة تضحياته.

ماذا لو تضامنت تركيا مع الأسرى بزهر التوليب في نيسان، ماذا لو كتبنا لهم نحن معكم بفراولة غزة المميزة، ماذا لو كان شعار كأس العالم صورة كريم يونس مثلا، أو حمل لباس منتخباتنا الوطنية مع كل رقم صورة أسير محكوم بنفس العدد، ماذا لو فكرنا أن شكلا تضامنيا بسيطا بنظرنا يعني الكثير لهم ويشكل وقود استمرارهم، فمن يبادر باستلام زمام تخفيف الوجع بدل كتمانه؟
ـــــــــــــــ
أسيرة محررة

المصدر : الجزيرة