الصراع الدولي على سريلانكا.. هل سيدفع ثمنه مسلموها؟

Muslim men pray last Friday prayers during the holy month of Ramadan at a mosque in Colombo, Sri Lanka June 23, 2017. REUTERS/Dinuka Liyanawatte

قرابين الانتخابات
بين الصين والهند
فرص عودة باكسا 

أعلنت الحكومة السريلانكية حالة الطوارئ في البلاد بعد أن شهدت منطقة كاندي الجبلية بوسط سريلانكا (أمس الأول الثلاثاء) اضطرابات دينية، أحرق خلالها حشد من البوذيين -يتزعمه رهبان- محال للأقلية المسلمة ومساجد.

وتعود الأسباب المباشرة لهذه الاضطرابات إلى حادث طرق بين سائق شاحنة بوذي من الأغلبية السنهالية (أدى لاحقا إلى وفاته)، ومجموعة من المسلمين تم سجنهم.

ويؤكد المراقبون أنّ هذا الحشد لم يكن عفويًّا وليس من أهل المنطقة، وإنّما تم تنظيمه بشكل متعمد وباستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وسط عدم مبالاة من السلطات والشرطة المحلية، وكانت النتيجة تدمير ستة مساجد وسبعة وثلاثين منزلاً وستة وأربعين محلا تجاريًّا.

قرابين الانتخابات
تأتي هذه الأحداث غير بعيد عن نتائج الانتخابات المحلية التي أظهرت تفوّق حزب الرئيس السابق راجا باكسا، وهو ما يمكن أن يعدّ مؤشراً على إمكانية عودته إلى الحكم قريباً، خصوصاً إذا أفضت ضغوطه على الرئيس الحالي مايتريبالا سيريسينا إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة.

علماً بأنها ليست المرة الأولى التي تقترن فيها الهجمات الموجهة ضد المسلمين بالانتخابات؛ ففي عام 2014 شهدت سريلانكا -قبل الانتخابات الرئاسية بأشهر- حوادث مشابهة أوسع نطاقاً، قُتل خلالها أربعة أشخاص وجرح العشرات.

اللافت للنظر أن الرئيس الحالي -الذي صوت له المسلمون- ضم إلى تحالفه الحكومي حزباً بوذيّاً متطرفاً آخر لضمان بقائه في منصبه، وهو حزب التراث الوطني، مما يعني أنّ القومية البوذية أملت نفسها على الجميع في المشهد السياسي المحلي، فصار من الصعب الإفلات من براثن الحسابات العرقية والطائفية

كما شُرّد قرابة عشرة آلاف عقب تدمير بيوت ومساجد ومحال ومصانع تابعة للأقلية المسلمة في جنوب غرب البلاد، واتُّهمت بالوقوف وراء هذه الحوادث المجموعةُ المتطرفة المسماة باللغة السنهالية "بادو بالا سينا"، (تعني القوة البوذية الضاربة وتعرف اختصاراً بـBBS).

ويُعتقد أن هذا التنظيم -الذي أنشئ إبان ولاية الرئيس السابق ماهيندا راجا باكسا- يدين له بالولاء، وهو ما دفع المسلمين إلى معاقبته والتصويت لصالح وزير منشق عن حكومته هو الرئيس الحالي سيرسينا، مما أدى لفوز هذا الأخير في الانتخابات؛ إذ إن أصوات المسلمين مثّلت النسبة المرجِّحة في انتخابات انقسمت فيها أصوات الأغلبية السنهالية.

بيد أنّ اللافت للنظر هو أن الرئيس الحالي ضم إلى تحالفه الحكومي حزباً بوذيّاً متطرفاً آخر لضمان بقائه في منصبه، وهو حزب التراث الوطني، مما يعني أنّ القومية البوذية أملت نفسها على الجميع في المشهد السياسي المحلي، فصار من الصعب الإفلات من براثن الحسابات العرقية والطائفية.

يعتبر الشعور بالتهديد الوجودي أهم ما يميز الشعوري القومي السنهالي، إذ إن الهند فرضت وطأتها الثقيلة -منذ الأزل- على هذه الجزيرة الصغيرة، مما جعلها في حالة تأكيد مستمر على الذات وتوجس.

ولذا عملت الأحزاب الحاكمة -منذ الاستقلال- على تأكيد الهوية السنهالية، وسيطرة الغالبية السنهالية على شؤون الدولة وكامل مساحتها الجغرافية، لكنها ووجهت بالرفض والتمرد من تاميل الشمال الذين كانوا يطمحون للانفصال.

ومع محاولات تعزيز الهوية المحلية؛ تم إضعاف اللغة الإنجليزية لصالح اللغة السنهالية مما جعل الحاجز بين القوميتين أكبر، وجعل المسلمين الذي يتحدثون اللغات الثلاث هم الجسر الثقافي بين الطرفين، فسهل لهم ذلك تبوؤ المناصب الحكومية والنجاح في عالم الخدمات والتجارة، غير أنّهم اليوم سيذهبون ضحية لانقسام الأغلبية السنهالية وحيرتها بين العملاقين الآسيويين: الهند والصين.

بين الصين والهند
انطلاقا من طموحاتها التي ترمي إلى التنمية الاقتصادية بتأمين طريق التجارة الدولية عبر المحيط الهندي؛ طوّرت الصين نظرية "طريق الحرير البحري"، وتنص على إنشاء مجموعة من الموانئ الكبيرة على طريق التجارة من الصين وحتى أفريقيا.

وهذه النظرية تتطلب أن تكون الدول التي على الطريق مستقرة نسبياً وبها نظم حكم متعاونة مع الصين، وفي المقابل تساعدها الصين على تحقيق الحماية الإقليمية والاستقرار الداخلي بمشاريع تنموية كبرى، خصوصاً ما يتعلق بإنشاء وتطوير الموانئ ذات المواصفات العالمية والبنية التحتية بشكل عام كالطرقات والمطارات وشبكات الاتصالات.

وهو ما يساعد في رفع معدل النمو الاقتصادي والاستقرار المجتمعي والسياسي، وهو الأمر الملحوظ في سريلانكا التي شهدت في عهد الرئيس السابق باكسا طفرةً اقتصادية حققت نسبة نمو ثابتة بلغت حوالي 7%، رغم خروجها من حرب أهلية طاحنة استمرت نحو ثلاثين عاماً.

تحاول الهند -في خضم صراعها مع الصين على النفوذ بآسيا- أن تبقي في دائرة نفوذها الدولَ التي كانت تاريخياً ضمن فضائها الإستراتيجي، وأن تمنعها من الانزلاق نحو الصين التي تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع البنى التحتية، بدون شروط صعبة كما يفعل البنك الدولي والدول الغربية

وفي هذا السياق؛ قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة سريلانكا 2014 أثناء حكم الرئيس باسكا، الذي يعد ذا ميول شرقية معادية للهيمنة الهندية والغربية.

وفي المقابل؛ لا يمكن القول إن الهند راضية لمشاهدة التوسع الصيني في المنطقة تحت عنوان "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، التي أطلقها الرئيس الصيني 2013، ومن أهم تجلياتها الممر الاقتصادي الذي يبدأ من ولاية شينغيانغ ويشق أراضي باكستان، لينتهي في ميناء غوادر الباكستاني على بحر العرب.

ويأتي ذلك ضمن سلسلة من مشاريع البنى التحتية الكبرى التي اجتذبت دولاً كانت تعد ضمن فضاء الهند الإستراتيجي، مثل سريلانكا ونيبال والمالديف. وأبرز معالمه سلسلةُ الموانئ في المحيط الهندي المعروفة بخط الحرير البحري، وخطوط الملاحة البحرية التي تمر جنوب الهند.

ويستدعي ذلك حضوراً عسكرياً صينياً كثيفاً لحماية الخطوط التجارية من القرصنة البحرية، وهو ما تنظر إليه الهند بوصفه تهديدا إستراتيجياً، خصوصاً في ظل وجود التحالف الصيني مع باكستان.

تحاول الهند -في خضم صراعها مع الصين على النفوذ بآسيا- أن تبقي في دائرة نفوذها الدولَ التي كانت تاريخياً ضمن فضائها الإستراتيجي، وأن تمنعها من الانزلاق نحو الصين التي تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع البنى التحتية، بدون شروط صعبة كما يفعل البنك الدولي والدول الغربية.

وهو ما رأيناه في سريلانكا خلال الانتخابات الرئاسية المبكرة في يناير/كانون الثاني 2015، والتي أطاحت بالرئيس القوي الموالي للصين راجا باكسا، ثم رأيناه مؤخراً لنفس السبب في محاولة الإطاحة بالرئيس المالديفي عبد الله يمين وإرجاع سلفه محمد نشيد، ولكن فشل هذا التغيير الذي سمته القوى الموالية للحكومة المحلية بأنه محاولة انقلاب فاشلة.

ومنذ انتخاب ناريندرا مودي رئيساً لوزراء الهند -وهو ذو ميول قومية يمينية- عام 2014؛ أخذ الموقف الهندي تجاه سريلانكا إلى بعد آخر. فعقب الجلسة التي أدى فيها مودي القسَم رئيساً للوزراء؛ اجتمع برئيس سريلانكا يومئذ باكسا مطالباً إياه بتقليص النفوذ الصيني ببلاده، ومذكرا إياه بأن ذلك يشكل خطراً على المصالح الهندية.

فما كان من باكسا إلا أن استضاف الرئيس الصيني في بلاده في نفس العام، ورست حملتا طائرات صينيتان في موانئه، مرسلاً رسالة غاية في السلبية والخطورة للهند ومن خلفها أميركا. وقد ترافق ذلك مع عدوان المتطرفين السنهاليين على المسلمين ببعض المناطق، مما جعل الأقليات -بمن فيها المسلمون- تقف مع المعارضة مشكّلةً تحالفاً واسعاً.

فاز مرشح هذا التحالف سيرسينا برئاسة البلاد مقصياً باكسا الذي عدل الدستور ليتاح له الفوز بولاية ثالثة، ولكنه فشل فتعرضت بذلك مصالح الصين لضربة قوية بخسارته للرئاسة، ويُعتقد على نطاق واسع أنه كان للهند يد فيما حصل له.

فرص عودة باكسا
صحيح أنّ الهند استطاعت -بما لها من نفوذ في البلاد- أن تدفع بحكومة مؤيدة لها لتكون على رأس سريلانكا، إلا أن مقدرة نيودلهيعلى ضخ استثمارات ضخمة -تحلّ محل الاستثمارات الصينية في سريلانكا- أمر ليس ممكناً، كما أن الاهتمام الغربي بسريلانكا تراجع منذ زمن بعيد لأسباب تتصل بالوضع الأوروبي وتراجع دوره الاقتصادي.

هناك أرضية خصبة لأية ثورة أو تمرد محتمل، والذرائع حاضرة دائما وكثيرة؛ فهل يقود كل ذلك إلى عودة الرجل القوي راجا باكسا إلى رئاسة البلاد؟ لا يبدو هذا الخيار مستبعداً، ولكن يبدو أنّ مسلمي سريلانكا عليهم أن يدفعوا الثمن بغض النظر عمّن سيرأس بلادهم

ولا يكاد يختلف الحال في ذلك عن الحالة الأميركية، فواشنطن معنيّة بحصد الثمار دون دفع التكاليف، وهو أمر وكّلته -فيما يبدو- إلى الهند التي عجزت حتى الساعة عن تقديم شيء مُغْرٍ لسريلانكا.

أمّا الحكومة السريلانكية -التي رفع رئيسها الشعار الانتخابي: "علاقة خارجية متوازنة" الموجه أساساً ضد الصين- فقد فشلت في تأمين بديل خارجي للصين، أو حتى إيجاد شريك يمكن أن يوازن الميزان التجاري المائل بشدة نحو الصين.

فالبنك الدولي والمؤسسات الغربية لا تقدّم القروض بسهولة، بل تريد ضمانات ودراسات بيئية، ودراسات جدوى معقدة وإجراءاتها طويلة وأحياناً غير مثمرة. وهو ما دفع برئيس الحكومة السريلانكية للتوجه نحو بكين لطلب مساعدتها بشروط أقل مما كان يفرضه الرئيس السابق.

علماً بأنّ راجا باكسا يقوم اليوم بالضغط على الحكومة المحلية بالمظاهرات والتشكيك في سياساتها الاقتصادية، ممّا أثمر في النهاية فوز حزبه في الانتخابات البلدية الأخيرة.

في ظل هذا المشهد؛ تكون الصين قد فرضت إرادتها بالوسائل السلمية على المنطقة واللاعبين الكبار فيها، وهو ما يمكن أن ينقل اللعب من الوسائل الناعمة كالاقتصاد والدبلوماسية إلى الخشنة كالاضطرابات الداخلية والحرب الأهلية. وهو أمر ليس غريباً على بلد خاض حرباً أهلية استمرت 28 سنة؛ فعوامل التفجير ما زالت موجودة وإن اختفت تحت الرماد.

ولا بد أنّ قطاعات معتبرة ما زالت تفكّر في رد الاعتبار، وهو ما قد يشكِّل أرضية خصبة لأية ثورة أو تمرد محتمل، والذرائع حاضرة دائما وكثيرة؛ فهل يقود كل ذلك إلى عودة الرجل القوي راجا باكسا إلى رئاسة البلاد؟ لا يبدو هذا الخيار مستبعداً، ولكن يبدو أنّ مسلمي سريلانكا عليهم أن يدفعوا الثمن بغض النظر عمّن سيرأس بلادهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.