استرجاع العالمية الأميركية

US President Donald Trump addresses the 72nd Annual UN General Assembly in New York on September 19, 2017. / AFP PHOTO / TIMOTHY A. CLARY (Photo credit should read TIMOTHY A. CLARY/AFP/Getty Images)

عند متابعة الجلسات النقاشية في وسائل الإعلام الأميركية؛ يوحى إليك وكأن نقيض "أميركا أولاً" هو التدخل في شؤون الدول الأخرى. ويقصد بهذا الأخير ميول أميركا المتواصل نحو إعلان الحروب وإظهار قوتها العسكرية التي لا نظير لها.

لكن التدخل في شؤون الدول الأخرى لا يشبه العالمية (Internationalism)؛ إذ يُلغي الخلطُ بين الاثنين الفرقَ بين استعمال القوة على نحو سريع وحاسم، والالتزام العقلاني بالتدخل في شؤون العالم ومشاكله.

وفي سياسة " أتْمم عملك" الأميركية التي تندرج ضمن فلسفة الرؤية الكونية؛ تعتبر الصراعات الدولية تحديات عسكرية وليست قضايا سياسية كما تبدو. وفي واقع الأمر؛ غالبا ما يكون العكس هو الصحيح، ولهذا نادرا ما تُحَل أكثر النزاعات تعقيدا في العالم عبر التدخل.

إن للصراعات السياسية تاريخا طويلا ووسخا، وليس العنف سمة متأصلة فيها بقدر ما هو علامة تؤكد عدم قابلية هذه الصراعات للتسوية. فغالبا ما تكون لهذه الصراعات علاقة بالهوية والعنف، وبادعاءات بشأن الملكية المشتركة لأرض توجد على مقربة كبيرة من "دولة" معينة.

إن المشاركة السياسية غالبا ما تكون مبنية على العرق أكثر من القيم المدنية، مما يتناقض مع الإدراك الأميركي لمفهوم الدولة.

بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية؛ غالبا ما تكون النزاعات الدولية فرصة لإظهار "القوة" والتدخل "للحل". وقد كان الهدف من الضربات الجوية الأميركية في البوسنة والهرسك هو دفع العملية السياسية -المدعومة من الاتحاد الأوروبي وروسيا- إلى الأمام. وكانت الحملة الجوية آخر خيار لمعاقبة من لم يدعم مسلسل السلام

وعلاوة على هذا؛ يمكن أن تكون المشاكل التي يشهدها المجتمع المعاصر وليدةً للترتيبات الخاطئة التي أعدت منذ عقود، بل منذ قرون. وخير مثال على ذلك اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 بين بريطانيا وفرنسا التي قسمت الشرق الأوسط، ومعاهدة فيرساي لعام 1919 التي أسفرت عن خلق حدود وطنية في البلقان.

وفي كلتا الحالتين؛ ربما كان يبدو أن الأسلوب الناجع لحل الخلافات هو خلق دولة جديدة، لكن تبين -في آخر المطاف- أن ذلك الحل كان تمهيدا لاندلاع المزيد من الحروب.

وبالنسبة للولايات المتحدة الأميركية؛ غالبا ما تكون النزاعات الدولية فرصة لإظهار "القوة" والتدخل "للحل". وقد كان الهدف من الضربات الجوية الأميركية في البوسنة والهرسك هو دفع العملية السياسية -المدعومة من الاتحاد الأوروبي وروسيا– إلى الأمام. وكانت الحملة الجوية آخر خيار لمعاقبة من لم يدعم مسلسل السلام.

وأدرك العديد من الخبراء والسياسيين الأميركيين آنذاك أنه كان بالأحرى ضرب الأشرار فورا. والقليل منهم فقط من حاول دراسة تاريخ المنطقة من أجل تحديد خط الحدود المشتركة بين الكيانين.

ولو أنهم فعلوا ذلك؛ لبذلوا جهدا أكثر بموجب قرارهم الأخير للحفاظ على الحدود الخارجية، ولبناء مؤسسة دستورية تمكّن الدولة الجديدة من الانضمام إلى خريطة أوروبا.

وكان لكوسوفو تاريخ معقد أيضا مما جعل العديد من الأميركيين يرفضون الغوص فيه؛ إذ كانوا يسخرون من الدبلوماسية اللازمة لتصبح كوسوفو منطقة ذات سيادة، مع احترام الارتباط العاطفي للصربيين بها.

وقد جعل ذلك التدخل العسكري أول خيار -بدل أن يكون الأخير- لضمان استقلال كوسوفو، دون الأخذ بعين الاعتبار رفض العديد من الدول الأوروبية خلق دولة مستقلة. وكانت أوروبا قد دعت من قبل إلى اعتماد دبلوماسية متعددة الأطراف قبل أي مناقشة لشن ضربات جوية.

لقد استمر التدخل في شؤون الدول -الذي أصبح لاحقا العالمية (Internationalism)- إلى غاية القرن الواحد والعشرين، لكن على نطاق أوسع.

إذ بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011 اقتحمت الولايات المتحدة الأميركية أفغانستان واحتلتها لتطرد تنظيم القاعدة من أراضيها. لكن بعد مرور 17 سنة على وجود القوات الأميركية في هذا البلد؛ فَقَدَ الأميركيون صبرهم، وأيد العديد منهم انعزالية سياسة "أميركيا أولاً" للرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وفي العراق حيث العلاقة مع الإرهاب أمر مشكوك فيه؛ استثمرت الولايات المتحدة جهودا كبيرة بغية تحقيق أهداف معقدة وغير ثابتة، ولم يُشَر إليها بوضوح أبدا.

إن تدخل أميركا في شؤون الدول غالبا ما يعرّضها للانتقاد من طرف أصدقائها وأعدائها، الذين تَصِفهم بالضعفاء والمترددين في مواجهة التحديات العالمية، مثل استيلاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على القرم، وتصاعد قوة الصين في بحر جنوب الصين.

العالمية الأميركية سترجع إلى حد ما؛ لكن ينبغي لمؤيديها تسريع عودتها وفقا لمغزاها الأصلي. فالعالميون الحقيقيون يحترمون آراء الآخرين، ويُعَبرون عن رغبتهم في تقبّل البنيات المتعددة الأطراف والدفاع عنها أيضا. إن ما يحتاجه التدخل في شؤون الدول اليوم هو تجديد الالتزام الأميركي بالتعاون

وعندما انقلبت الأمور على عقبها في أفغانستان والعراق؛ ألقت الولايات المتحدة اللوم على القادة السياسيين لتلك البلدان، واصفة إياهم بالمفسدين وبالتالي وَجَب إسقاط أنظمتهم. وكان للأوروبيين نصيب من التنديد أيضا، ليس فقط بسبب عدم قدرتهم على مواجهة الشر، بل وأيضا لأنهم يعيشون حياة مليئة بالرفاه والسعادة دون تحمل أعبائهم.

ونظرا لتغلغل هذا النوع من الخطابات في أذهان الأميركيين؛ فإنه ليس من الغريب إذن أن تتغلب نظرية عالم الواقع المرير على العالمية (Internationalism)، التي أصبحت مرادفة للاستعمال غير المتناهي للقوة والتعالي على الحلفاء.

إن العالمية الأميركية سترجع إلى حد ما؛ لكن ينبغي لمؤيديها تسريع عودتها وفقا لمغزاها الأصلي. فالعالميون الحقيقيون يحترمون آراء الآخرين، ويُعَبرون عن رغبتهم في تقبّل البنيات المتعددة الأطراف والدفاع عنها أيضا.

إن ما يحتاجه التدخل في شؤون الدول اليوم هو تجديد الالتزام الأميركي بالتعاون، حتى عندما تتطلب الحكومات الأخرى المزيد من الوقت لضمان حصولها من ناخبيها على أمر رسمي بالتدخل.

ففي نهاية المطاف؛ يجب أن تنبني القيادة العالمية الأميركية على القيم الأميركية، وعلى اعتراف واسع النطاق بالتمسك بالقيم الثابتة للديمقراطية الليبرالية.

وبمعنى آخر؛ يجب أن تكون أميركا قدوة في القيادة. فقد أدى فشلُها في أن تكون كذلك في السنوات الأخيرة -خاصة فيما يتعلق بمسالة اللجوء– إلى إضعاف التأثير الذي تمارسه على الساحة الدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.