نشيد عيد الميلاد وفقا لترمب

U.S. President Donald Trump speaks during a meeting with Republican members of the Senate about immigration at the White House in Washington, U.S., January 4, 2018. REUTERS/Kevin Lamarque

في عيد ميلاد المسيح هذا العام؛ كانت هدية أميركا للعالم خفضا في الميزانية العادية للأمم المتحدة يبلغ 285 مليون دولار أميركي. من الناحية الفنية، تعكس الميزانية العادية للأمم المتحدة قرارا بالإجماع بين الدول الأعضاء في الاتحاد البالغ عددها 193 دولة، لكن من الواضح أن الولايات المتحدة كانت الدافع الرئيسي لهذا التخفيض.

والواقع أن السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي أرفقت إعلان هذا الخبر -عشية عيد الميلاد- بتحذير من أن الولايات المتحدة ستقرر مزيدا من التخفيضات.

لم يكن بإمكان إيبينزر سكروج (وهو شخصية قبيحة في رواية تشارلز ديكينز) القيام بأمر أفضل؛ فمن شأن تخفيضات الميزانية أن تصعّب على وكالات الأمم المتحدة منع الحروب، ومساعدة ملايين الأشخاص الذين نزحوا بسبب الصراعات، وإطعام وكِسْوَة الأطفال الجياع، ومحاربة الأمراض الناشئة، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وخدمات الصرف الصحي، وتعزيز فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحيةللفقراء.

إن الرئيس دونالد ترمب والسفيرة هيلي يجنيان الكثير من التكاليف المتضخمة لعمليات الأمم المتحدة، وهناك بالتأكيد مجال لبعض التشذيب. ولكن العالم يتلقى عائدا مذهلا مقابل استثماراته في الأمم المتحدة، وينبغي للبلدان الأعضاء الاستثمار أكثر بكثير -وليس أقل- في منظماتها وبرامجها

إن الرئيس دونالد ترمب والسفيرة هيلي يجنيان الكثير من التكاليف المتضخمة لعمليات الأمم المتحدة، وهناك بالتأكيد مجال لبعض التشذيب. ولكن العالم يتلقى عائدا مذهلا مقابل استثماراته في الأمم المتحدة، وينبغي للبلدان الأعضاء الاستثمار أكثر بكثير -وليس أقل- في منظماتها وبرامجها.

يجب أخذ هذه المبالغ بعين الاعتبار. وستبلغ الميزانية العادية للأمم المتحدة في عامي 2018 و2019 حوالي 5.3 مليارات دولار أميركي، أي بمقدار 285 مليون دولار أقل عن ميزانية الفترة ما بين عام 2016 و2017. ويبلغ الإنفاق السنوي حوالي 2.7 مليار دولار. وستكون حصة الولايات المتحدة 22٪، أو حوالي 580 مليون دولار سنويا، أي ما يعادل حوالي 1.80 دولار لكل أميركي في السنة.

ما الذي سيحصل عليه الأميركيون مقابل 1.80 دولار سنويا؟ بداية، تشمل الميزانية العادية للأمم المتحدة أنشطة الجمعية العامة ومجلس الأمن والأمانة العامة (بما في ذلك مكتب الأمين العام وإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وإدارة الشؤون السياسية والموظفين الإداريين). عندما ينشأ تهديد خطير للسلام -مثل المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية– فإن إدارة الشؤون السياسية بالأمم المتحدة غالبا ما تساعد الدبلوماسية السرية.

بالإضافة إلى ذلك، تشمل الميزانية العادية للأمم المتحدة مخصصات لمنظمة الأمم المتحدة للأطفال (اليونيسيفوبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة الصحة العالمية، والمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والهيئات الإقليمية للأمم المتحدة (لأفريقيا، وأوروبا، وأميركا اللاتينية)، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (لمواجهة الكوارث).

وكذلك المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة (من أجل حقوق المرأة)، وكثيرا من الوكالات الأخرى، وكل منها متخصص في الاستجابة العالمية للأزمات أو الصراعات، أو الفقر أو التشرد، أو المخاطر البيئية أو الأمراض، أو غيرها من الاحتياجات العامة.

ويتلقى العديد من منظمات الأمم المتحدة مساهمات "طوعية" إضافية على انفراد من بلدان مهتمة بدعم المبادرات المتخصصة، من جانب وكالات مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية. وعلى أية حال، فإن لهذه الوكالات مهمة عالمية فريدة وشرعية سياسية، وقدرة على العمل في جميع أنحاء العالم.

لفهم غباء الهجوم الأميركي على حجم ميزانية الأمم المتحدة تجب مقارنتها بميزانية البنتاغون؛ فالولايات المتحدة تنفق حاليا حوالي 700 مليار دولار سنويا على الدفاع، أو ما يقارب ملياريْ دولار يوميا.

وهكذا، يبلغ مجموع الميزانية العادية السنوية للأمم المتحدة نحو يوم واحد وتسع ساعات من الإنفاق العسكري الأميركي. وتساوي حصة الولايات المتحدة من الميزانية العادية للأمم المتحدة ما يقارب سبع ساعات من إنفاق البنتاغون؛ يا للمفارقة!

يضغط ترمب وهيلي على ميزانية الأمم المتحدة لثلاثة أسباب: السبب الأول، التقرب إلى قاعدة ترمب السياسية. يعترف معظم الأميركيين بالقيمة الهائلة للأمم المتحدة ويدعمونها، ولكن هامش اليمين في أوساط الناخبين الجمهوريين يعتبر الأمم المتحدة إهانة للولايات المتحدة.

في حالة القدس، أكدت القرارات -التي اتخذتها الجمعية العامة ومجلس الأمن مرارا وتكرارا- أن الوضع النهائي للقدس مسألة من مسائل القانون الدولي. إن الولايات المتحدة تهدد -بإعلانها بجرأة الحق في تجاوز القانون الدولي- صرح التعاون الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة

وأظهرت دراسة مركز بيو لعام 2016 أن موافقة الشعب الأميركي على الأمم المتحدة تبلغ 64٪، بينما يرى 29٪ فقط أنها غير محبَّذة. ولكن الحزب الجمهوري في تكساس -على سبيل المثال- دعا الولايات المتحدة مرارا إلى مغادرة الأمم المتحدة.

والسبب الثاني هو الادخار بتخفيض البرامج المكلفة، وهو أمر ضروري في أي منظمة. والخطأ هو خفض الميزانية الإجمالية، بدلا من إعادة تخصيص الأموال وزيادة النفقات على البرامج التي تشتد الحاجة إليها لمكافحة الجوع والمرض، وتعليم الأطفال، ومنع الصراعات.

السبب الثالث لخفض ميزانية الأمم المتحدة -وهو الأخطر- هو إضعاف التعددية باسم "السيادة الأميركية"؛ فأميركا ذات سيادة -كما يصر ترمب وهيلي على ترديده- وبالتالي يمكنها أن تفعل ما تريده، بغض النظر عن معارضة الأمم المتحدة أو أي مجموعة أخرى من البلدان.

وقالت هيلي -في ختام كلمتها أمام الدورة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القدس، والتي رفضت فيها الدول الأعضاء بشكل كبير اعتراف أميركا من جانب واحد بالقدس عاصمة لإسرائيل– إن "أميركا ستضع سفارتها في القدس. وهذا هو ما يريده الشعب الأميركي منا، وهو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. ولن يكون للتصويت في الأمم المتحدة أي تأثير".

وتنطوي هذه المقاربة للسيادة الوطنية على مخاطر كبيرة، والأكثر وضوحا هو أنها تنبذ القانون الدولي. وفي حالة القدس، أكدت القرارات -التي اتخذتها الجمعية العامة ومجلس الأمن مرارا وتكرارا- أن الوضع النهائي للقدس مسألة من مسائل القانون الدولي. إن الولايات المتحدة تهدد -بإعلانها بجرأة الحق في تجاوز القانون الدولي- صرح التعاون الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

وهناك خطر كبير آخر يُحدق بالولايات المتحدة نفسها؛ فعندما تمتنع أميركا عن الاستماع إلى بلدان أخرى، فإن قوتها العسكرية الواسعة وغطرستها كثيرا ما تؤدي إلى وقوع كوارث ذاتية.

ينزعج أصحاب شعار "أميركا أولاً" -مثل ترمب وهيلي- عندما تعارض دول أخرى السياسة الخارجية الأميركية؛ ولكن هذه الدول الأخرى عادة ما تعطي نصيحة جيدة وصريحة للولايات المتحدة. فمعارضة مجلس الأمن للحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق عام 2003 مثلا، لم يُقصد منها إضعاف أميركا، بل حمايتها وحماية العراق -بل وحماية العالم- من غضب أميركا وعدم اكتراثها للوقائع.

"باه! هُمبُغ!".. قال سكروج. لكن رسالة تشارلز ديكنز كانت -على وجه التحديد- أن الخادع هو الضحية الأول لغطرسته وبؤسه وقسوته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.