كيف طوّر التصدي للحصار أهم مفاهيم الاستقرار؟

Qatar's Emir Tamim bin Hamad Al Thani (L) US President Donald Trump (2L), US Secretary of State Rex Tillerson (3L), US Secretary of the Treasury Steven Mnuchin (3R), National Security Advisor H. R. McMaster (2R), Senior Advisor Jared Kushner (R) and others wait for a meeting at the Palace Hotel on September 19, 2017 in New York City, on the sidelines of the United Nations General Assembly. / AFP PHOTO / Brendan Smialowski (Photo credit should read BRENDAN SMIALO

على غير ما توقعه المراقبون للسياسات الإقليمية والدولية في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط؛ جاء نجاح قطر المحسوب في التصدي للحصار -الذي فُرض عليها بخبث وغدر- ليؤسس لتطويرات جوهرية في مفاهيم إستراتيجية عصرية لم تكن قد صيغت من قبل بهذا الوضوح، وخاصة أن مثل هذه التجربة لم تكن قد مورست قبلا بهذا التضييق المطوق والزمن الممتد.

يتمثل أول هذه المفاهيم في التعويل على فكرة حساب الخسائر كبديل أمثل عن الانفعالات الحادة من أجل تجنب هذه الخسائر؛ ويعود أصل هذه الفكرة إلى حسابات الموازنة ومشروعاتها، حين يجد المديرون التنفيذيون والماليون أن من واجبهم أن يحيطوا مجلس الإدارة والجمعية العمومية بتكلفة الخسائر المتوقعة، نتيجة للاضطرار إلى الالتزام بسياسات معينة، أو نتيجة لفك الارتباط، أو تغير الظروف.

أو كصدى لحدوث إجراءات تنظيمية أو ضرائبية غير متوقعة فرضتها الجهات الحكومية أو الدولية.. إلخ، وعندئذ تحسب الإدارات المالية التكلفة المتوقعة لهذه الخسائر أو الأعباء الجديدة أو المستجدة بأقصى ما يمكنها من التدقيق والاستيعاب والتحوط.

بعد أن استقر للقطريين حساب التكلفة الأولية المتوقعة بدؤوا سريعا في اتخاذ سلاسل متعددة من الإجراءات الكفيلة بتقليل تكلفة الآثار السياسية للحصار؛ وهكذا تحول الحصار في مستواه الإستراتيجي من فعل سياسي وإستراتيجي إلى مجرد إجراء متجاوز ومفاجئ ذي خسائر محددة، مهما كانت كبيرة أو غير متوقعة

ثم تقترح هذه الإدارات على مجلس الإدارة -في مشروع الموازنة المقدم للاعتماد- أن يوافق على رصد مخصص مالي محدد لتلافي صدى هذه الخسارة، وتقليل آثارها على معدلات الإنجاز والتقدم والكفاءة والنجاح .

تلجأ المؤسسات المالية لهذا الأسلوب لتتجنب ما ليس بوسعها أن تفعله، من قبيل مخالفة القانون أو إعطاء المبرر لسحب تراخيص التصنيع أو التصدير أو التشغيل أو حتى الاستيراد. وعلى سبيل المثال؛ فإن بعض المصانع في جميع أنحاء العالم وجدت نفسها مضطرة إلى الإغلاق أو التوقف فترات طويلة، حتى تتمكن من أن تستوفي إجراءات الجودة المعروفة بالآيزو.

ومن ثم فإنها رصدت من الموازنة ومن حساب الأرباح ومصاريف التشغيل مخصصات تكفل إعادة تقييم صورة الربح والخسارة، بطريقة متفاعلة مع الظروف وليست معاندة لها بلا عائد .

ومن حسن حظ قطر أن قيادتها المتمرسة على أعلى مستويات الإدارة المالية والاستثمارية في كل مستوى رفيع؛ استقبلت المشكلات المترتبة على الحصار في هذا الإطار وبهذا الفهم، فحسبت الزيادة في تكلفة الاستيراد من المورد الأبعد، والزيادة في سعر الخامات الموردة من المورد الذي لم يسبق له التعاقد ولا التوريد.

كما حسبت زيادة تكلفة النقل عبر المسارات الأكثر طولا، وحسبت حجم الاستثمار المفقود نتيجة الانقطاع عن أسواق دول الحصار، بما في ذلك ما كان متوقعا مثلا من انكماش في سوق خدمات الخطوط الجوية القطرية، التي كانت بمثابة الاختيار المفضل للسوق السعودي.

وبعد أن استقر للقطريين حساب التكلفة الأولية المتوقعة بدؤوا سريعا في اتخاذ سلاسل متعددة من الإجراءات الكفيلة بتقليل تكلفة الآثار السياسية للحصار؛ وهكذا تحول الحصار في مستواه الإستراتيجي من فعل سياسي وإستراتيجي إلى مجرد إجراء متجاوز ومفاجئ ذي خسائر محددة (مهما كانت كبيرة أو غير متوقعة).

لكن هذه الخسائر يمكن -بالجهد الدؤوب في اختيار البدائل الذكية- أن تصبح محدودة، وربما أضحت معدومة مع مزيد من ذكاء المقاربة، وذلك مع الانتباه الذكي إلى العناية باستخلاص سر المنحة من باطن المحنة، وهو المعلم الأهم الذي يجعل التجربة تثمر -في المدى الطويل- دافعا قويا ومتجددا لاستدعاء كل ما هو مطلوب من عوامل الاستقلال والقوة.

ومن الإنصاف للقطريين أن نشير -في المقابل- إلى أن إحدى الدول المحاصِرة كانت قد بدأت تشكو من فداحة الثمن المترتب على التزامها بالحصار منذ الأسبوع الأول، ولم تطور هذه الدولة من الآليات ما يكفل لها الاستتار عن أثر هذا الفشل الملازم للكيد السياسي، لكنها لا تزال تصدر لقطاعات واسعة من الرأي العام في داخلها مبدأ تحمل الخسائر والأعباء على أنه ثمن إستراتيجي لا بد منه لـ"تأديب" قطر.

ثاني هذه المفاهيم أن استجابات الحلفاء الكبار لم تعد قابلة بأية حال لما تعودت عليه الحياة الإنسانية -طيلة تاريخها الممتد- من الخضوع التام للحسابات الإستراتيجية المسبقة، بقدر ما بدأت -بحكم تشابك الاقتصاديات وتعقدات التجارة والاستثمار العالمييْن- تُعلي من شأن الخضوع لصدى الفرص المتاحة في أذهان هؤلاء الحلفاء.

كانت ثقة السياسة القطرية بنفسها تتضاعف مع كل عبور تحققه، ومع كل خطوة تنجح عبرها في اجتيازها للحواجز الاصطناعية المتعاقبة، والتي وجدتها قد وُضعت أمام مسيرتها وخططها وطموحاتها المشروعة بطريقة خبيثة ومتراكمة. ومن الإنصاف للقطريين أن نقول إنهم لم يتبعوا أسلوبا واحدا في المعركة

ونحن هنا نتكلم بعيدا عن ازدواجية المبادئ والمصالح التي لم يقل أحد بأنه يمكن بناء مواقف دولية عليها "فقط"، ولا بعيدا عنها "تماما" في عالم السياسة والإستراتيجية المعاصريْن.

كأني أريد أن أقول -ببساطة شديدة- إن التحكم في حركيات الفروسية لم يعد مرتبطا بلجام أومفتاح تشغيل واحد، وإنما أصبح متأثرا تماما بمجموعة من العوامل الكابحة والدافعة، وبمنظومة من العلاقات الداخلية والخفية بين هذه الكوابح والدوافع.

ومع أن قطر فوجئت حقيقة بموقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي لم يكن أحد عاقل يتوقعه أبدا؛ فإنها سرعان ما تجاوزت الوقوف في منطقة الشعور بالاندهاش من فداحة التواطؤ، كما تجاوزت تقليب وجهات النظر في مدى ما يمكن أن يترتب على إمعان التأمل في قسوة هذا الموقف غير المبرر.

تجاوزت قطر -في لمح البصر- هاتين المنطقتين المنطقيتين إلى ميدان (ثالث مرتفع ووعر) للإنجاز الإستراتيجي كان يبدو غير ممكن العمل فيه، وهو ميدان العمل السريع والجاد على تحجيم أثر تواطؤ الرئيس الأميركي داخل الإدارة الأميركية نفسها.

ومن مفارقات القدر أن ترمب بذهنيته المحدودة قدم للحق وللحقيقة أكبر خدمة في سبيل الانتصار على توجهاته هو نفسها، حين خرج منتشيا بأنه هو صاحب التوجه لهذا الافتراء الصادر من الأشقاء على شقيقتهم، وأنهم يفعلون هذا من أجل إرضائه هو بينما هو لم يكن قد حاق به أي ظلم.

وكانت ثقة السياسة القطرية بنفسها تتضاعف مع كل عبور تحققه، ومع كل خطوة تنجح عبرها في اجتيازها للحواجز الاصطناعية المتعاقبة، والتي وجدتها قد وُضعت أمام مسيرتها وخططها وطموحاتها المشروعة بطريقة خبيثة ومتراكمة.

ومن الإنصاف للقطريين أن نقول إنهم لم يتبعوا أسلوبا واحدا في المعركة؛ فقد قفزوا بعض هذه الحواجز، وأزاحوا بعضها الآخر، وجعلوا من بعضها الثالث حواجز في وجه مَنْ موّلوا بناءها.

وباختصار شديد ومُوحٍ؛ فإن الإسراع بتوقيع بروتوكول مكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة الأميركية كان نموذجا للإجراء من النوع الثالث، وهو نموذج لم يكن من الممكن لدول الحصار أن تجاري قطر فيه بأي حال من الأحوال.

وقد حدث شيء مشابه أو أشياء متشابهة على المستوى الأوروبي. ومع أن تفصيلات التفاوضات والاتفاقات لم تزل غالبيتها في طي الكتمان؛ فإن المواقف التي استخلصتها قطر من الدول الأوروبية الثلاث الكبرى (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) فاقت ما استخلصه محاصروها، رغم كل ضغوطهم وإجراءاتهم ومغرياتهم.

أما في ميادين الرأي العام ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، والمجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، والنقل الجوي وحريات التجارة والتبادل؛ فقد حققت قطر نجاحات ساحقة بفضل ما أشرنا إليه في الحديث عن مفهوم حسابات الفرص والأعباء.

يمكننا القول إن المفهوم الإستراتيجي الجديد والأهم -والذي دعمته قدرة قطر على التصدي لحصارها- يتمثل في القول بأن الاستقطاب وحده لم يعد كافيا لخلق المعركة ولا الصراع. وهذه هي طبيعة العصر التي ثبت أن قطر -فيما نظن ونعتقد- أقرب إلى فهمها من المحاصِرين مجتمعين

كما أثبتت قطر بسياستها أنها نموذج غير زاعق للمجتمع المفتوح العقل والسريع التعاقد والارتباط، والذي يؤمن بالندية لا بالاستغلال، وبالتعاون المتجدد لا بالتوظيف المؤقت، ويحترم التعهدات والارتباطات وحقوق الإنسان بأكبر قدر ممكن .

أما على المستوى الأفريقي؛ فقد تكرّس النجاح المعنوي الأهم الذى بدا مضخما في الشعورالعربي الشعبي، إلى الحد الذي جعل عامة السعوديين يتساءلون عن حجم وطبيعة التقصير في علاقتهم الماضية بهذه الدول والشعوب، رغم أنهم ظلوا يسمعون من إعلامهم أنهم مهوى الأفئدة وجديرون بالإمامة والزعامة؛ فإذا الأمر -في حقيقته- لا يزيد على تلبية لدعوة حضور قمة ترمب فحسب.

ثالث هذه المفاهيم وأكثرها أهمية سنتحدث عنه في عُجالة -عن قصد وتخطيط- رغم أولويته؛ وذلك لأننا ببنائنا لمعمار هذ المقال استهدفنا تفكيك صعوبة تفهمه واستيعابه، من خلال حديثنا التفصيلي عن المفهومين الأولين على نحو ما فعلناه.

ويتمثل هذا المفهوم في قولنا بأن أسلوب الاستقطاب لم يعد كافيا في زمننا المعاصر لخلق المعركة أو الصراع. وبعبارة علمية أدق؛ فإن الاستقطاب الأيوني لم يعد كافيا لخلق أو إحداث أي نوع من أنواع التدفق الكهربي المؤثر، وذلك على نحو ما كانت أمور الفيزيقا تسير به من قبل.

أما الآن؛ فإن الفيزيقا لم تتغير أو تتبدل، لكن كمية الطاقة المطلوبة للانتصار في أي نزاع إستراتيجي معاصر أصبحت أضعافا مضاعفة لما يكمن توليده من خلال الاستقطاب، أو حتى الاستقطاب المدعوم بأقصى درجات الحث. ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن التوظيف الإعلامي صورة من صور الحث الداعم للاستقطاب.

وهكذا يمكننا القول إن المفهوم الإستراتيجي الجديد والأهم -والذي دعمته قدرة قطر على التصدي لحصارها- يتمثل في القول بأن الاستقطاب وحده لم يعد كافيا لخلق المعركة ولا الصراع. وهذه هي طبيعة العصر التي ثبت أن قطر -فيما نظن ونعتقد- أقرب إلى فهمها من المحاصِرين مجتمعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.