لغز باكستان

صورة مظاهرات أرشيفية خرجت قبل ثلاث أسابيع في فيصل أباد

لقد قيل إن هارولد براون -وهو وزير الدفاع الأميركي إبّان فترة حكم الرئيس جيمي كارتر– وصف سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بهذه العبارات: "عندما نبني فإنهم يبنون، وحين نتوقف عن البناء فإنهم يبنون".

إن وضع العلاقات الحالية مع باكستان -حسب المنظور الأميركي- يشبه ذلك القول إلى حد كبير؛ فعندما ندعم الباكستانيين فإنهم يقومون بأشياء لا نحبها، وعندما نعاقبهم فإنهم يقومون بأشياء لا نحبها.

إن الماضي -حسب المنظور الباكستاني- يتألف في معظمه من قصص الخيانات المتعددة، حيث تقوم الولايات المتحدة بالاقتراب من باكستان فترة ما، ثم تقطع المساعدات عنها عندما يحين الوقت المناسب بالنسبة للقادة الأميركان.

فمثلا، قامت أميركا بتسليح المجاهدين الذين قاتلوا -في الثمانينيات- السوفيات بأفغانستانالمجاورة لباكستان، ولكنها تخلت عن المنطقة بعد وقت قصير من الخروج العسكري السوفياتي سنة 1989. ولكن هذا الطرح الباكستاني يتعمد إغفال نقطة أن تطوير باكستان للأسلحة النووية -والذي شكل انتهاكا للقانون الأميركي- هو الذي استلزم سحب المساعدات.

إن الماضي -حسب المنظور الباكستاني- يتألف في معظمه من قصص الخيانات الأميركية المتعددة، حيث تقوم الولايات المتحدة بالاقتراب من باكستان فترة ما، ثم تقطع المساعدات عنها عندما يحين الوقت المناسب بالنسبة للقادة الأميركان. واليوم هناك رئيس أميركي يشعر بالإحباط من باكستان هو دونالد ترمب 


تم استئناف معظم المساعدات الأميركية لباكستان في السنوات اللاحقة، ولكن انعدام الثقة المتبادل بقي
كما هو، وهذا يعود جزئيا إلى أن الأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني (عبد القدير خان) عمل على مساعدة البرامج النووية لليبيا وكوريا الشمالية وإيران وتشجيعها، ومن المحتمل أنه فعل ذلك بمعرفة الحكومة الباكستانية.

لقد تحسنت العلاقات بين البلدين بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث وجهت إدارة الرئيس جورج بوش الابن إنذارا نهائيا للحكومة الباكستانية، وكان مقتضاه أن عليها الاختيار بين علاقتها مع أميركا وعلاقتها مع طالبان التي فتحت الأراضي الأفغانية للقاعدة.

وعدت باكستان بأنها ستكون شريكة في الحرب على الإرهاب، وتمت مكافأتها سنة 2004 عندما اعتبرتها واشنطن "حليفا رئيسيا من خارج حلف الناتو"، وهو ما أهّل باكستان للحصول على بعض أكثر المعدات والتقنيات العسكرية تطورا.

واليوم هناك رئيس أميركي آخر يشعر بالإحباط من باكستان، ولكن عوضا عن إبلاغ الرسالة من خلف الأبواب المغلقة في واشنطن أو إسلام آباد؛ اختار دونالد ترمب أن يقول وبشكل علني:

"إن الولايات المتحدة قدمت بغباء لباكستان أكثر من 33 مليار دولار أميركي، على شكل مساعدات خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة، ولم يقدموا هم لنا شيئا بالمقابل سوى الكذب والخداع، وكأنهم يعتقدون أن قادتنا مجموعة من الأغبياء. لقد قدموا الملاذ الآمن للإرهابيين الذين نقوم بمطاردتهم في أفغانستان بدون مساعدة تذكر، وهذا أمر يجب أن يتوقف".

لو سألوني -علما بأنه لم يتم سؤالي- لكنت أوصيت بنقل مثل هذه الرسالة عبر القنوات الدبلوماسية، لأن النقد العلني والمشحون سيصعّب على باكستان تغيير مسار سياستها (على افتراض أن ذلك هو الهدف الأميركي)، خشيةً من أن ينظر إليها كدولة عميلة. كما كنت سأعارض قطع العلاقات الأمنية، وأدعم ربط الدعم الأميركي بأفعال باكستانية محددة.

إن الخطأ الكبير -الذي ارتكبته أميركا بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول- هو التعامل مع باكستان وكأنها دولة حليفة، لأنه مع الدول الحليفة من الممكن افتراض أن هناك درجة كبيرة من تداخل السياسات، ولكن مع باكستان لا يوجد مثل هذا الافتراض.

تمتلك باكستان واحدة من أسرع الترسانات النووية نمواً، وهي موطن لبعض أكثر الإرهابيين خطورة على مستوى العالم (بما في ذلك ولبعض الوقت أسامة بن لادن). وكما ذكر ترمب؛ فهي توفر الملاذ لطالبان التي تفعل ما بوسعها لزعزعة الاستقرار في أفغانستان.

إن السياسة الباكستانية لا تهدد 15 عاما من الجهود الأميركية في أفغانستان فحسب، بل وأيضا حياة آلاف الجنود الأميركيين الذين ما زالوا متمركزين هناك.

يجب ألا تقوم أميركا باستبعاد باكستان؛ فالأوضاع السيئة يمكن أن تزداد سوءا، واليوم باكستان دولة ضعيفة لكنها غدا يمكن أن تصبح دولة فاشلة، وهذا قد يشكل كابوساً إقليميا وعالميا نظرا لوجود الأسلحة النووية والإرهابيين. وهكذا يجب أن يستمر الدعم الاقتصادي والإنساني في التدفق على باكستان، ولكن بمراقبة لصيقة لإنفاقها

لكن حتى علاقة محسوبة وتبادلية بشكل أكبر لن تؤدي إلى جعل أميركا أقرب لباكستان، التي هي دولة ديمقراطية بالاسم فقط نظرا للهيمنة السياسية للأجهزة العسكرية والاستخباراتية فيها؛ فباكستان تريد أن تلعب طالبان دورا مهيمنا بأفغانستان، وهذا شيء لا تريده أميركا لأسباب عديدة.

وبالإضافة إلى ذلك؛ قامت أميركا في السنوات الأخيرة بتعزيز علاقاتها مع المنافس الرئيسي لباكستان (الهند)، علما بأن الكثير من الزخم الاقتصادي والإستراتيجي اليوم يعزز تلك العلاقة.

لقد أصبحت الصين -وبشكل متزايد- الحليف الطبيعي لباكستان، وهي تستثمر فعلا وبكثافة في البنية التحتية الباكستانية، كما أصبحت مصدرا رئيسيا لها في مجال المعدات العسكرية. وتشعر الصين كذلك بالقلق من الهند التي ستتفوق عليها قريبا في حجم السكان، كما أضحت منافسا اقتصاديا وإستراتيجياً لها، علما بأن هناك نزاعات حدودية بينهما.

لكن يجب ألا تقوم أميركا باستبعاد باكستان؛ فالأوضاع السيئة يمكن أن تزداد سوءا، واليوم باكستان دولة ضعيفة لكنها غدا يمكن أن تصبح دولة فاشلة، وهذا قد يشكل كابوساً إقليميا وعالميا نظرا لوجود الأسلحة النووية والإرهابيين.

وهكذا يجب أن يستمر الدعم الاقتصادي والإنساني في التدفق على باكستان، ولكن بمراقبة لصيقة لكيفية إنفاقها تلك الأموال؛ فربما يكون بعض التعاون المحدود في مواجهة الإرهاب بأفغانستان ممكنا.

وحتى نقلل من فرصة نشوب حرب بين الهند وباكستان؛ يجب على أميركا أن تستمر في العمل مع الهنود والباكستانيين لتقوية علاقاتهم البينية، والتي لا تزال أقل تطورا بكثير من العلاقات الأميركية السوفياتية في ذروة الحرب الباردة.

ربما يكون من المنطقي بالنسبة لباكستان أن تصبح جزءا اعتياديا من الأجندة الأميركية الصينية؛ فأميركا والصين تناقشان سيناريوهات مختلفة في شبه الجزيرة الكورية، تتعلق بقواتهما والأسلحة النووية وانعدام الاستقرار المحلي.

إن إجراء محادثات تتعلق بكيفية تجنب حدوث أزمة تشمل باكستان، وكيفية إدارة مثل تلك الأزمة -إذا فشلت الوقاية منها- هي أيضا مسألة ملحّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.