المشهد الليبي.. صراع حفظ التوازن

هل ينجز غسان سلامة التسوية الليبية؟

يبدو المشهد السياسي الليبي في حالة حركة متسارعة، ولكن هذه الحركة كانت على المستوى الرأسي، أي أن مؤشراته يمكن رصدها عبر حركة الأشخاص والرموز الظاهرة في المشهد، بصرف النظر عن حجم وفاعلية كل منها.

فمنذ عدة أشهر؛ بدأت تصدر عن هؤلاء أفعال وردود أفعال اتسمت بالاختلاف عما كان يصدر عنهم في السابق، سواء أكان ذلك في شكل مواقف أو في مفردات الخطاب الذي يصدر عن كل منهم في مواجهة الآخر.

لم يكن هذا التغير -على ما يبدو- ناتجا عن قناعة كل من هذه الأطراف بأنه ارتكب أخطاء ويريد أن يتراجع عنها بإعطاء فرصة أكبر للتفاهم مع خصمه للتوصل إلى صيغة ينتصر فيها الوطن الذي يعد انتصاره نصرا للجميع، بل كان -حسب كل ما هو ظاهر- نتيجة ضغوط قوى من خارج المشهد الداخلي الليبي.

كل الأطراف الليبية -على ما يبدو- تستمد قوتها وثباتها في مواقفها مما تتلقاه من دعم ومؤازرة قادمة من خارج المشهد الليبي أكثر مما تستمده من داخله، سواء بسبب ضآلة حجم الحاضنة لبعضها أو لضعف قوة بعضها الآخر، بالنظر إلى حجم الدور الذي يضطلع به داخل حلبة الصراع

لا شك أنه لا يمكن تجنب التأثيرات والضغوط المتدفقة من البيئة الدولية في عالم صار أشبه بقرية واحدة، فالوضع الليبي ليس صندوقا مغلقا يتصارع داخله عدد من الخصوم والتيارات، كل حسب قدرته وإمكانياته الذاتية.

فزمن الفضاءات المغلقة والقارات المكتفية بنفسها انتهى منذ أن أخذت العلاقات الدولية بين الأمم طابع التنافس والصراع على النفوذ والسلطان وحيازة الموارد النادرة، وبالتالي ليس هناك أي صراع ينشأ -في مثل هذه البيئة- يستطيع أن يحافظ على طبيعته كصراع داخلي محض يتوقف حله أو حسمه على رغبات وقدرات أطرافه المتصارعة فقط.

ومع ذلك؛ فإن حجم وقوة تأثير اللاعبين الدوليين على أي صراع داخلي يتوقفان على مدى رغبة وحاجة اللاعبين المحليين إلى الدعم والمساندة الخارجية.

في الحالة الليبية وبصرف النظر عن صحة مواقف البعض من عدمها؛ فإن كل الأطراف -على ما يبدو- تستمد قوتها وثباتها في مواقفها مما تتلقاه من دعم ومؤازرة قادمة من خارج المشهد الليبي أكثر مما تستمده من داخله، سواء بسبب ضآلة حجم الحاضنة لبعضها أو لضعف قوة بعضها الآخر، بالنظر إلى حجم الدور الذي يضطلع به داخل حلبة الصراع.

وكيف ما كانت الأسباب؛ فإن النتيجة هي الحضور القوي والفاعل -في الحالة الليبية- للقوى الدولية بمختلف مسمياتها، سواء تمثل ذلك في الدول الكبرى أو الدول الإقليمية، أو كان متمثلا في مجموع كل هؤلاء تحت مسمى المجتمع الدولي برعاية منظمة الأمم المتحدة.

ولهذا فإن هامش الحركة المتاحة أمام كل الأطراف ضيق، وحرية كل منهم في اتخاذ القرار محدودة، وإن كان هناك تفاوت نسبي بينهم في ذلك حسب قوة كلٍّ وقدرته الممكنة على الفعل داخل رقعة الصراع.

لكن هذا التفاوت في القوة بين الأطراف كان إحدى عقبات التفاوض، فبدلا من أن يرجح هذا التفاوت كفة الأقوى نسبيا فتصبح مطالبه هي التي تؤخذ أكثر في الاعتبار، أصبح هذا التفاوت هو عقدة التفاوض واللقاءات بين أطراف الصراع، وذلك لسببين:

أولهما انعدام الثقة بين هؤلاء، وهذه إحدى النتائج التي تواكب أي صراع ويمكن أن تختفي مع تبدل الظروف واندماج الأطراف في بنيات مؤسسية واجتماعية جديدة، تؤدي تدريجيا إلى اختفاء معظم أسباب الصراع.

لكن في الحالة الليبية أدى انعدام الثقة إلى زيادة حدة الشعور بالفارق النسبي في القوة لدى الأطراف الأقل قوة، فنتج عن ذلك ما يشبه عقدةَ نقصٍ زادت التصلب في المطالب والمبالغة في أسباب الصراع، وليس من شأن هذا الشعور أن يساعد في خلق فرص تفاهم بين الأطراف.

أما السبب الثاني فهو حرص القوى الكبرى على تعطيل ميزة التفاوت هذه في لعب أي دور لترجيح مطالب أي طرف، وذلك نظرا لعدة اعتبارات منها:

1- إن هذا الفارق في القوة هو نسبي وليس حاسما بالنسبة لأي طرف، الأمر الذي يجعله فقط سببا في تفجير صراع مسلح منفلت ومجهول النتائج.

2- قد يأتي هذا الحسم -في حال حصوله- بأطراف لا تنال رضا كل هذه القوى.

3- لكل طرف في الصراع حلفاؤه الدوليون، وهذا قد يجر إلى مواجهات بين هذه القوى على غرار ما يجرى في سوريا.

في الحالة الليبية أدى انعدام الثقة إلى زيادة حدة الشعور بالفارق النسبي في القوة لدى الأطراف الأقل قوة، فنتج عن ذلك ما يشبه عقدةَ نقصٍ زادت التصلب في المطالب والمبالغة في أسباب الصراع، وليس من شأن هذا الشعور أن يساعد في خلق فرص تفاهم بين الأطراف

ولهذا فإن كلمة السر التي تُجمع عليها هذه القوى لحل لغز الحالة الليبية هي أن لا حل عسكريا للمشكلة، وهذا جرى تثبيته بجعل كل أطراف الصراع تقبل بهذه المسلمة من حيث المبدأ في كل لقاءاتها وبياناتها.

وذلك بدءاً من اتفاق الصخيرات ولقاء عقيلة صالح مع نوري بوسهمين، وما تبعه من لقاء بين عبد الرحمن السويحلي وعقيلة صالح في روما، ثم لقاء أبو ظبي بين فايز السراج وخليفة حفتر.

وكذلك لقاء الأخيريْن في باريس حيث اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار، في الوقت الذي لا يوجد فيه رسميا ولا عمليا أي إطلاق للنار بين الطرفين، ولم يكن المقصود به أيضا الحرب على الإرهاب، بل الحرص على عدم قيام أي طرف بتحرك عسكري مباشر تجاه الآخر.

لقد بدأ تحريك هذا المشهد بلقاء روما، ثم ارتفعت وتيرة الحركة مع عقد لقاء أبو ظبي، ثم دخلت مرحلة أخرى تسارعت فيها حركة الأحداث بلقاء باريس؛ فتعددت معها المبادرات والمقترحات حتى خلقت حالة من التزاحم ينذر بنوع من الاحتكاك بين بعض القوى الدولية.

غير أن التحريك كان هذه المرة على مستوى أفقي، أي بدفع اللاعبين الذين يقودون المشهد إلى اللقاء والتفاوض لتعديل مواقفهم السابقة، حتى يمكن الوصول إلى صيغة مشتركة قابلة للتنفيذ لدى هؤلاء اللاعبين.

ولكن يبدو أن القوى الدولية لم تَرَ في هذا النوع من التحريك الأفقي علاجا ناجعا لأزمة انعدام الثقة، ولا لعُقدة الفارق النسبي في القوة بين الأطراف. ولكي يتم اختراق حقيقي في جدار الأزمة ينبغي القيام بخطوات أخرى منها:

أولا: عدم الاكتفاء بتحريك المشهد على مستوى الرؤوس، بل يجب أيضا تحريكه أفقيا على مستوى القواعد التي ينطلق منها هؤلاء الرؤوس، حتى يحسوا بأن الأرضية التي يقفون عليها ليست ثابتة وأن هناك تململا فيها، وقد يفقدون بسببه التوازن في أي لحظة، أو يصبح ثمن المحافظة عليه باهظا، وتمثل هذا في جملة مؤشرات مثل:

1- ازدياد الاختلافات بين من تبقى من أعضاء المجلس الرئاسي والمعارضة الصريحة لقرارات رئيس المجلس.

2- قبول موظفي العمل كممثلين لحكومة الوفاق في المنطقة الشرقية التابعة للحكومة المؤقتة والجيش، إلى جانب ذهاب وفود اجتماعية ورؤساء بلديات لمقابلة أعضاء المجلس الرئاسي وحكومته.

3- ظهور خلافات بين أعضاء المجلس الأعلى وتوجيه انتقادات لرئيسه عبد الرحمن السويحلي.

4- ظهور انشقاقات داخل ما يسمى الكتل في البرلمان، وتغير مواقفها من المجلس الرئاسي وحكومة الاتفاق، مع توجيه انتقادات شديدة لرئيس البرلمان والمطالبة بتغييره.

5- انتقادات من قبل الإخوان المسلمين وحزب العدالة والبناء للمواقف السياسية التي يتخذها الصادق الغرياني.

الخطة التي قدمها الممثل الأممي غسان سلامة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تضمنت أحد بنودها تشكيل مؤتمر وطني يضم إلى جانب مجلس النواب والمجلس الأعلى فئات اجتماعية مختلفة، تشارك في اتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بتشكيل الحكومة ومراجعة النقاط الخلافية في الدستور

ولعل الخطة التي قدمها الممثل الأممي غسان سلامة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تتويجا لهذا التحريك الأفقي، حيث تضمن أحد بنودها تشكيل مؤتمر وطني يضم إلى جانب مجلس النواب والمجلس الأعلى فئات اجتماعية مختلفة، تشارك في اتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بتشكيل الحكومة ومراجعة النقاط الخلافية في الدستور.

ثانيا: إدخال لاعبين جدد، وهذا يعني ظهور شخصيات جديدة في المشهد السياسي يقدمون أنفسهم كلاعبين، ويطرحون بدائل عن المشهد السياسي القائم وهم ليسوا أعضاء في المجالس والمؤسسات التي تتحدث باسم الدولة، وليست لديهم تشكيلات مسلحة ولا مليشيات من أمثال عبد الباسط اقطط، وأسماء أخرى يُلوح بها مثل بشير صالح ومحمد الحسن الرضي السنوسي.

وبصرف النظر عن حجم وقدرات وحاضنة أي من هذه الأسماء؛ فإن ظهورها يزيد زحمة المشهد ويطرح بدائل وخصوما جددا لم يكونوا ظاهرين في المشهد الذي سئمه الناس، وأخذوا يتطلعون إلى أي بديل عنه بصرف النظر عن الأقاويل والتهم التي توجه إلى هذه الأسماء.

إن ما يمكن ملاحظته عبر أفعال وتصرفات الفاعلين في المشهد الليبي -منذ مؤتمر برازفيل إلى خريطة الطريق التي قدمها غسان سلامة للمنظمة الدولية- هو أن هؤلاء اللاعبين شعروا جميعهم بأن مرحلة أخرى من الحركة والسرعة قد بدأت، وأنها تجري على الأرض التي تحت أقدامهم.

وبالتالي فإن الأولوية بالنسبة لهم هي حفظ التوازن قبل السير إلى الأمام، وفي هذه الحالة ينبغي القبول بتخفيف الأوزان التي لا تناسب سرعة وطبيعة الحركة الجديدة، وتغيير طريقة السير إذا كان لا مفر من السير إلى الأمام.

لا شك أنه ما لم تكن القوى الكبرى قد حزمت أمرها وتفاهمت أولا على مصالحها، ومن ثم قررت أن بداية هذه المرحلة هي البداية الحقيقية والجادة لحل الأزمة الليبية، وما لم تستجب أطراف الصراع لنداء الوطن؛ فإن هذه المرحلة من التحريك الأفقي ستدفع بالأزمة الليبية إلى حالة من الصراع تكون أطرافه أكثر تشرذما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.