البغي على الروح الإيمانية تهديد للإنسانية

FILE PHOTO - Young Muslims protest against U.S. Republican presidential candidate Donald Trump before being escorted out during a campaign rally in the Kansas Republican Caucus at the Century II Convention and Entertainment Center in Wichita, Kansas March 5, 2016. REUTERS/Dave Kaup/File Photo

نشرت منظمة "rain.org" الأميركية الموثوقة أنه: في كل 98 ثانية يتعرض شخص أميركي لاعتداء جنسي، وبالمتوسط يتعرض 321500 شخص للاعتداء الجنسي أو الاغتصاب سنويا في الولايات المتحدة الأميركية.

أعمار الضحايا هي: 15% منهم بين سن 12 و17 عاما، 54% بين 18 و34، وهناك امرأة بين كل ست نساء بالولايات المتحدة تعرضت في حياتها لحادثة اغتصاب أو محاولة اغتصاب، والنساء بين 16 و19 عاما أكثرُ عرضة للاغتصاب من غيرهن بأكثر من أربع مرّات، والنساء في المرحلة الجامعية أكثر عرضة له ثلاث مرات من البقية.

وأضافت المنظمة أن 90% من حالات الاغتصاب المرتكبة بين البالغين ضحاياها نساء (لاحظ هنا أن إقرار الشذوذ الجنسي ونشره لم يوقف هذه الاعتداءات)، و33% من النساء المتعرضات للاغتصاب فكرن في الانتحار و13% حاولنه، وتتضاعف احتمالية تعاطيهن للمخدرات بعد ذلك بأكثر من 3 إلى 10 مرات بحسب النوع والظرف.

والأميركيون الأصليون من الهنود الحمر هم أكثر عرق تعرض للاغتصاب فوق سن 12 عاما. بمعنى أن الفئة المسحوقة والمضطهدة في التاريخ الأميركي لا تزال اليوم محرومة من خلق فرص حماية اجتماعية لها، وهي الأكثر عرضة لهذا العنف.

الأرقام صادمة بشأن العنف ضد المرأة في الغرب؛ ونحن هنا المنظور الفلسفي والأخلاقي لقضية الأسرة والدين والعالم الجديد، فالمقصود هنا مناقشة مقولة إن إسقاط أي قيم للدين الصحيح -وهنا دائما يُنتخب الإسلام دون غيره للهجوم- ركيزةٌ للخلاص من العنف والاضطهاد ضد المرأة

وتذكر منظمة "Now.org" الأميركية أيضاً أنه في 2005 (كشريحة تفصيل للاعتداءات الجنسية) قُتلت 1181 امرأة على يد الطرف الآخر في علاقة حميمية (زوج أو خارج الشرعية الأخلاقية كصديق)، وأن من بين كل ثلاث نساء قتلن في الولايات المتحدة قُتلت واحدة خلال هذه العلاقة، وسنويا تتعرض 4.8 ملايين امرأة للاعتداء الجنسي بالولايات المتحدة الأميركية.

الأرقام صادمة لكن ليس مقصد المقال هو الصدمة، بل المنظور الفلسفي والأخلاقي لقضية الأسرة والدين والعالم الجديد، فالمقصود هنا مناقشة مقولة إن إسقاط أي قيم للدين الصحيح -وهنا دائما يُنتخب الإسلام دون غيره للهجوم- ركيزةٌ للخلاص من العنف والاضطهاد ضد المرأة، هذا كمدخل؛ لكن الأمر الأشمل هو التساؤل عن: ما هي الحياة الفاضلة للإنسانية التي يرجوها الوعي الفطري المعتدل لكل البشرية؟

سيُستدرك ابتداءً عند قراءة أول هذا المقال بسؤال عاصف: ماذا عن دول الشرق وماذا عن تسليع الإنسان في عالم الاستبداد العربي والأعجمي في بلدان الشرق؟ وهل هذا يعني أن تلك البلدان جِنان وأن الخلل يكمن في التقدم الذي حققته الدولة المدنية الدستورية في الغرب؟

ونُثبت هنا الرد بأن ذلك لا يعني عدم وجود أزمة وانتهاكات فظيعة ضد المرأة، التي كَرَّس عليها الاستبداد دينه المصنوع أو علمانيته الاستئصالية، وروّجه المرتزقة لمصالحهم المشتركة؛ ثم قد ينقضه لصالح صفقاته الغربية دون أي معيار اجتماعي راشد، وليس هو في شيء من عدالة الإسلام الذي تُفهم نصوصه وسياقاته لقضية التكامل في بيوت الحب، وليس مذهب الصراع بين الذكر والأنثى في العالم البشري الذي تعتمده النسوية المتطرفة، فيما تخالف هذا التطرف حركات حقوق نسائية تكافح لأجل المرأة وحقوقها، لكنها تعتمد الأُلفة لا الحرب بين أركان الأسرة.

ومع ذلك؛ فإنه يصح أن نستخرج إحصائيات الشرق التي تتضمن حوادث كارثية ضد المرأة، ولكن بالجملة هناك تأثير إيجابي للقيم الروحية على المجتمع، تمنع من سقوطه الأخير في مرحلة الحرب على الوجود الإنساني وأخلاقياته وليس فقط لعالم المسلمين. وسنعود إلى هذه النقطة في ختام المقالة لمزيد من الشرح.

في البيئة الغربية اليومَ هناك نقيضان: جموع من الشباب المسلم يَصلون إلى أرضهم الجديدة فيعلنون الإلحاد أو التمرد الأخلاقي الكامل، بناءً على حالات حصار شرس تعرضوا لها -فكراً أو سلوكاً- في بلدان الشرق، وفي حالات أخرى لم تكن تلك الحالات ذات إذاية كبيرة تصل إلى هذا الحد.

غير أن الشحن الثقافي المتنافر، والاحتقان المتوتر في المزاج الاجتماعي الشخصي للشاب، إضافة لإحباطاته العديدة في حقوق مواطنته؛ ساعدت المشروع الغربي الذي يستهدف الوطن العربي بمنظومته السلوكية، وحَفّزهم لقطع البناء الاجتماعي لأسرهم وإعلان العداء للأسرة كأسرة وكمجتمع شرقي مسلم، وبالتالي وقع الشاب أو الشابة في تأثير ضغط المسارين، وأعلن تمرده وكراهيته للإسلام والشرق.

ويزداد اعتماد الولايات المتحدة الأميركية خاصة -في ظل التطورات الواسعة في حروبها وأزمات الشرق- على توظيف هذه الفكرة، دون مراعاة لجوانب الميزان الأخلاقي لاستقرار المجتمعات، أو فرص الشاب أو الشابة التي قد تُخلق لهم بالتفاهم مع أُسرهم، أو حمايتهم من عنفهم كقانون أو تضامن اجتماعي تسعى له شخصيات أو مؤسسات تؤمن بهذا الرديف، الذي يُخلق ذاتياً لصالح الفرد والأسرة والمجتمع، ويضمن استئناف الحياة الإيجابية للشابة أو الشاب الذي يجمع بين قناعاته الشخصية ومواءمته التي تدرك فهم جوانب الخطيئة في الجانبين.

ثم تتيقن برسالة الأخلاق الإسلامية المستقلة عن وعاظ الاستبداد، وإن كانت بعثرة المستبد لفكر الإنسان، مستثمرةً دعم المؤسسة الغربية والأميركية المتواصل، يعزّزها فقدان قدرات المجتمع المدني الذاتية المحمي حقوقيا، ويُصعّب على النشطاء هذه المعالجات، سواءً كانوا في صف الوعي الإسلامي الرشيد أو التطوع لحماية المجتمع.

تعززت مؤخراً قراءة تيار الإنصاف الغربي لمعركة القيم والروح التي يتمسك بها المسلمون، وهناك محاولات كنسية متعددة تسعى لاستثمار هذه المقاومة لحماية بيئتها الذاتية، حيث الأسرة مهددة وحيث العلاقة الطبيعية الفطرية بين الذكر والأنثى (المرأة الرجل) يُسعى لهدمها، وهذا يعني أن تُدفع الأسرة الطبيعية إلى الزوال

هنا نعود للنقيض الآخر، وهو مشهد استمرار تقاطر المسلمين والمسلمات على المراكز الإسلامية في الغرب، وتزايد قراءات متعددة لمسلمين جدد، أو نشطاء فكر اجتماعي أو عدالة إنسانية، تنصف الإسلام عبر قيمه الحقيقية وليس عبر الدين المصنوع لدول الاستبداد ووعاظها.

بعض تلك المسلمات غير محجبات، وبعض الشباب يضعون السلاسل في صدرهم، ولدى الجميع طبائع لا تتفق بالضرورة مع مفاهيم المحافظين، لكنهم يصرّون على العودة والتردد إلى بيت الإيمان الروحي، مركزا كان أو مسجدا أو قراءة قرآن، والعودة إلى مداورة العقل لتعزيز إيمانهم في ظل نظم تكفل التمرد.

لكن العقل يتجه من جديد إلى الثقة بالروح الإيمانية، رغم استهداف هذه الروح تحديداً اليوم الذي بات هدفاً معلناً لبعض المؤسسات الغربية، فيتساءل المسلم المعاصر أمامهم: لماذا عليّ أن أتخلّى عن روحي الإيمانية؟

ولماذا على العالم الشمالي أن يُحارب هذه الروح، وهل من إحصائيات شفّافة تؤيد هذا المعسكر العالمي المنحاز أم الإحصائيات ضده؟ ولماذا لم يكتف العالم الغربي بالهيمنة السياسية والعسكرية وضمان تدفق الصفقات وفرص العمل لجيوبه؟ ولماذا يستمر في نقض أي فرصة لديمقراطية الشرق الذي يتمسك بهويته الإيمانية؟ لا يزال الحبل على الجرار إذن.

هذا المعنى بات موثّقاً في ضمير المقاومة الفكرية ضد إسقاط الإنسانية المؤمنة التي يشعر بها المسلمون، فالحراب التي لا تنخفض عنهم في طول الشرق وعرضه قد حوصروا بها، غير أنهم لن يتنازلوا عن معركة الروح وسيادة الأخلاق.

ومؤخراً تعززت قراءة تيار الإنصاف الغربي لمعركة القيم والروح التي يتمسك بها المسلمون، وهناك محاولات كنسية متعددة تسعى لاستثمار هذه المقاومة لحماية بيئتها الذاتية، حيث الأسرة مهددة وحيث العلاقة الطبيعية الفطرية بين الذكر والأنثى (المرأة الرجل) يُسعى لهدمها، وهذا يعني أن تُدفع الأسرة الطبيعية إلى الزوال، والإحصائيات الرسمية -التي تعلن انخفاض المواليد في الديمغرافية الغربية الأصلية- المسلمون ليسوا مسؤولين عنها.

إنها من أسباب تمكن هذه الثقافة ضد الأسرة وضد مساكن الحب بين الزوجين، واستبدال علاقات شاذة بالطفولة المقدسة، أو استدعاء الحيوانات الأليفة لمهمات إنسانية عاطفية، وهذا لا يُمكن تحقيقه علمياً؛ فالحيوان الأليف مهما استحسنته ليس بديلاً للطفل، ولا لبوابة الحب والرحمة التي تتنزل على كل أسرة -مهما كان دينها- بسبب الطفولة.

إن الروح الإيمانية اليوم هي جدار المقاومة الصلب الذي يحافظ على الفكرة الإنسانية، وهي تفتح الباب لدعوات التحالف مع المسيحية واليهودية، تحت شعائر الديانات الإبراهيمية التي تتفق في قواعد الفكرة الإيمانية وخلاصات الفلسفة الاجتماعية الرشيدة، والتي تُبصر الضرر على الإنسانية وتهديد بناءها، إنها اليوم القوة الوحيدة للمسلمين.

دلالاتهم قوية وقناعتهم بها أعظم، إنهم يستشعرون أن هذه الروح لا تتناقض مع سمو العقل ولا استنتاجات تدبره، ولا ترفض الهيكل المدني المنصف لكل مواطني الدول، لكنها أيضاً لا تخضع لفكرة تهديد الإنسانية، وإسقاط فضائل العلاقات الأسرية وطهرانيتها.

إن هذه الروح تملك خليطاً عجيباً ينساب من النفس ليسرّي عنها أعظم المصائب، ويدفعها لتحطيم أكبر اكتئاب، ويُغذّي نظراتها العقلية حين ترشد رؤيتها، وتشعر بأن هناك رابطا روحيا لا يُمكن أن يُفسّر قوة الشعور والتمكن النفسي فيه إلا بجسره مع الملأ الأعلى، لا توجد أبداً أي قدرة على إسقاط هذه المشاعر ولا قطع رابطة الروح، وهي في هدفها السامي عجينة توائم بين الزوجين، وتُربّيهما على الحب ولا تُشرّع بينهما البغي.

هي لا تسقط حق المرأة في المقاومة وخلع الرجل، لكنها لا تحولها إلى معركة تصفية صفرية مع الرجل، وإنما مهمة بناء بما يسمح به التسامح لأجلهما جميعا، ولذلك يجب أن يسود الود إن كان سيصنع مستقبلاً أفضل.

الأخلاق الروحية فهي نوازع ودوافع الفرد في إرضاء روحه المتدينة بالإحسان وتطبيق القانون، ثم في مراقبة روحه اللوامة فيما يعمل، فيقوم به وإن لم يدفع له القانون، وهي روح تعززها القيم الإسلامية؛ وهنا نسأل: كيف نفهم نجاح المقاومة الروحية الإسلامية لصالح الإنسانية؟

وما كان مغتفراً في عقيدة مسكن الحب بينهم يُفتح لهم به باب جنّة تضمن لهم حياة كريمة، لا يقدمها ولا يضمنها التوحش ضد المرأة ولا التوحش باسم النسوية، إنه التكامل الروحي الذي يسنده العقل، وتتفق معه كل الاحصائيات حين يطبقها من يهتدي بالرشد الإسلامي لا صناعة الدين الاستبدادي.

بقيت قضية مهمة طرحناها في أول المقال: ما الذي يجعل هذه الروح صامدة بين المسلمين، يتفق عليها المحافظون والتنويريون؟ ولماذا هي دلالة تقدم وتفوق بشرية، هل هي كذلك؟

هناك مساران تنتظم فيهما الأخلاق، الأخلاق الإدارية والأخلاق الروحية؛ فالأخلاق الإدارية هي نظم السلوك للتعامل بين الفرد ومجتمعه ودولته، التحايا.. الشُكر.. النظام.. تطبيق القانون، القواعد البروتوكولية.

وليس بالضرورة أن يكون المجتمع مطبقاً لها بحسب إيمانه الروحي، ولا حتى قناعة بما يُسمّى أخلاق الضمير، وإن وجدت عند البعض؛ وإنما هناك حقوق دافعة وقانون رادع من الطبيعي أن يُنظم بها البشر، وهذه نجحت في الدولة المدنية الغربية، لكن في مجتمعها الذاتي لا عبر الحدود.

أما الأخلاق الروحية فهي نوازع ودوافع الفرد في إرضاء روحه المتدينة بالإحسان وتطبيق القانون، ثم في مراقبة روحه اللوامة فيما يعمل، فيقوم به وإن لم يدفع له القانون، وهي روح تعززها القيم الإسلامية؛ وهنا نسأل: كيف نفهم نجاح المقاومة الروحية الإسلامية لصالح الإنسانية؟

إنها تبرز لنا بوضوح في أن الشرق والمسلمين في الأرض حوصروا من المستبد والغرب الرسمي معاً، دون أن يعتمدوا دساتير الأخلاق الإدارية، وحوصروا أيضاً دون بعث قيم الروح بخطاب العدالة الاجتماعية، ومع ذلك بقي حبلهم يَشد العالم إلى النجاة الإنسانية؛ هنا فقط نفهم المعادلة الحضارية لإنقاذ البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.