عندما يتحول الربيع العربي إلى مجرد حراك

blogs - الربيع العربي

عندما انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس، ثم امتدت عدواه لتشمل مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، وإلى حد ما المغرب والأردن؛ كان المطلب الديمقراطي هو العنصر الجامع والمشترك الذي رابطت من أجله الجماهير في الميادين، وهتفت في ظله وتحت لافتته لإسقاط الاستبداد وقطع دابر الفساد.

كانت الآمال -كل الآمال- معقودة على القطع مع عقود صادرت خلالها الأنظمة القائمة كل مسالك السلطة والثروة، حتى باتت الديمقراطية -في الأدبيات الرائجة على الأقل- من المحال في معظم الدول العربية على المدييْن المتوسط والبعيد.

بيد أن المخرجات كانت -في النتيجة النهائية العامة- دون الآفاق المراهن عليها؛ فتحولت مساقات الربيع في هذا البلد العربي أو ذاك إلى ارتدادات عنيفة في المسار، أو حرب أهلية ساحقة ماحقة، أو اقتتال طائفي وعرقي غير مسبوق، أو إعادة لقواعد اللعبة السياسية إلى نقطة الصفر، بعدما تم هضم الصدمة، وتُؤُكِّد من محدودية خطر الانتفاضات على النظام كما على المنظومة سواء بسواء.

مخرجات الربيع العربي كانت -في النتيجة النهائية العامة- دون الآفاق المراهن عليها؛ فتحولت مساقات الربيع في هذا البلد العربي أو ذاك إلى ارتدادات عنيفة في المسار، أو حرب أهلية ساحقة ماحقة، أو اقتتال طائفي وعرقي غير مسبوق، أو إعادة لقواعد اللعبة السياسية إلى نقطة الصفر، بعدما تم هضم الصدمة، وتُؤُكِّد من محدودية خطر الانتفاضات على النظام

وإذا كانت أغلبية الآراء قد نحت -ولا تزال تنحو- جهة أن الربيع العربي قد فشل في إدراك مبتغياته الأصلية؛ فإن الجدل لا يزال قائما ومحتدما حول السر في فشل حركات جماهيرية كانت كل الوقائع ومجريات الأحداث تعمل لصالحها وترجح كفة مطالبها، لا سيما وقد تسنى للتجربتين/النموذجين (تونس ومصر) أن تزيحا رأس السلطة، وتقيما حكما انتقاليا مؤقتا أوكل إليه تدبير الشأن القائم في انتظار ترتيب القادم من مستجدات.

ونزعم أن تهاوي تجارب الربيع العربي المتتالية إنما أتى وكأنه ينهل من مسلسل كانت إخفاقاته محددة ومرتبة ومعروفة سلفا، لكنها تركت على سجيتها لحسابات نجهلها إلى حد الساعة، وقد تطالعنا بها الوثائق التاريخية يوما لتبين بجلاء خلفيات ذات الحسابات وعناصر التواطؤ والإخفاق من بين ظهرانيها.

بيد أن ما يتوفر لدينا -بالبناء على تجليات ما تموّج خلال هذه السنوات الثماني من عمر الربيع العربي- إنما هو ضرورة إعادة طرح ومناقشة العناصر التي تضافرت لتفرز لنا ما يمكن أن نسميه "نكسة الربيع العربي".

وأول عنصر في النقاش يجب أن ينصب في نظرنا على طبيعة الظاهرة نفسها، ومكامن القصور الذاتي الذي ميزها منذ اليوم الأول في تونس ومصر، وفي الدول التي سارت على نفس الطريق ونسجت على نفس المنوال.

لقد ثبت بالقطع أن الأحداث كانت انتفاضات جماهيرية بدون قيادة، وبدون برنامج واضح، وبدون امتدادات شعبية منظمة ومهيكلة. أما الأحزاب الموجودة على الأرض، فقد كانت إما متواطئة مع السلطة أو بدون قاعدة جماهيرية يُعتدّ بها.

وحتى الأحزاب -التي أنشئت على عجَل عندما اعتُمد خيار التعددية والانتخابات- لم يكن لها أتباع ولا مناضلون، ولا كان لقادتها تماس أو رمزية على الأرض، بحكم المنافي التي أبعدت معظمهم عن البلد وجعلتهم بعيدين عما يعتمل فيه طيلة سنوات المنافي.

من الثابت أن الحركات الإسلامية -في تونس ومصر على وجه التحديد- استطاعت نيل رضا جزء مهم من الشارع، فوصلت نتيجةً لذلك إلى البرلمان والرئاسة، ومن الثابت أيضا أنها استطاعت تجنيد قاعدتها "النائمة" لتأطير فوضى الميادين. إلا أن ذلك لم يتأتّ لها إلا من باب ملء فراغ كانت هي مؤهلة -دون غيرها- لملئه بانتفاء البديل الناجع، فكانت مؤهلة لملء الفراغ لكنها لم تكن مهيأة لاستلام الحكم.

إلا أن هذه الحركات لم تسعفها الظروف للاستمرار في السلطة طويلا، إما لتقصير ذاتي منها متأتّ من غياب التجربة والتمرس، أو لإكراهات موضوعية لم تستطع الصمود في وجهها أو التكيف معا، فكانت الانتكاسة التي عاشتها مصر، والتراجع التكتيكي المدروس خشية النكوص كما في حالة تونس.

أما ثاني عنصر في النقاش فيكمن في قدرة النظُّم القائمة على "الصمود والمقاومة"، وقابليتها لتجاوز صدمة المفاجأة بالتدريج. وثمة أمران في هذه الجزئية غالبا ما يتم التغاضي عنهما في التحليل: الأول هو نجاح النظم ذات الشرعية الدينية (المغرب والأردن وبعض دول الخليج) في تدبير المرحلة، بتنازلات تكتيكية مرحلية مهمة، حتى وإن كانت شكلية في ظاهرها.

تحول الحماس للربيع العربي إلى عدم مبالاة، ولعل التجلي الأكبر لهذا السلوك تمثل في انقسام هذا الرأي العام بين من يناصر النظام القديم وقد بدأ يسترجع الأنفاس، ومن بقي "مخلصا لمطالب الثوار" حتى وقد بدت رياح الخريف تلوح. ولم ينحصر الأمر عند هذا التعارض البائن؛ فقد اتسع ليشمل تعارضا آخر أقوى وأشد بين "الإسلاميين المحافظين" و"الليبراليين المتحررين"

 
والثاني يتعلق بالنظم التي لجأت -بدون تردد- إلى القوات المسلحة وقوى الأمن والمخابرات (الجزائر ومصر وسوريا تحديدا) لسحق حركات احتجاجية ستذهب بسببها -إن هي استمرت واتسع نطاقها- في نظرهم مصالح ومراكز وامتيازات.

ثالث عنصر في النقاش متعلق بطبيعة الرأي العام في العالم العربي عموما، وفي "دول الربيع العربي" على وجه الخصوص. والثابت في هذه النقطة أن لُحمة هذا الرأي لم تصمد كثيرا طيلة فترة الربيع العربي، ولم تستمر بما يكفي، لا سيما بعدما تأكد تراجع بريق الربيع وبدأت بوادر فشله تلوح جليا في الأفق.

لقد تحول الحماس إلى عدم مبالاة والوهج إلى شبه نفور، ولعل التجلي الأكبر لهذا السلوك تمثل في انقسام هذا الرأي العام بين من يناصر النظام القديم وقد بدأ يسترجع الأنفاس، ومن بقي "مخلصا لمطالب الثوار" حتى وقد بدت رياح الخريف تلوح.

ولم ينحصر الأمر عند هذا التعارض البائن؛ فقد اتسع ليشمل تعارضا آخر أقوى وأشد بين "الإسلاميين المحافظين" و"الليبراليين المتحررين"، دع عنك من يلف حول هؤلاء أو أولئك من تيارات وحركات.

صحيح أن هذا التعارض كان قائما قبل فترة الربيع العربي، إلا أنه تعمق أكثر خلاله وبعده (في مصر وتونس بالتحديد) حتى تحول إلى مطية لتأجيج التنافر والاحتراب و"الاقتتال السياسي"، وبلغ ذلك أقوى صور له بالإلغاء التام للغريم كما في مصر، أو الدفع به إلى ركن الزاوية كما في تونس.

إذا لم يكن الأمر تذبذبا حقيقيا في طبيعة وتوجه هذا الرأي العام؛ فكيف نفسر انتخاب محمد مرسي بـ52% من الأصوات، وانتخاب السيسي -سنتين بعد ذلك- بأكثر من 90%؟

هل من الممكن أو المعقول أن ينتقل المرء من النقيض إلى النقيض في ظرف قصير ودون أن تتغير الظروف والسياقات التي تستدعي ذلك؟ إنه عنصر في النقاش لم يتم التركيز عليه كثيرا، وكأنه حقا معطى عادي لا يستحق التوقف والتحليل.

ما الذي خلفّه لنا الربيع العربي لنبني عليه ميكانيزمات التحليل والفهم؟
– لقد خلّف لنا تقاطبا حادا في الحياة السياسية بين تيار إسلامي متجذر نسبيا في المجتمع لكنه مستبعَد، وتيار "علماني" يدعمه الجيش ويتحكم في دواليب الدولة بعهدة شعبية ما وبدونها حتى في بعض الحالات.

لم يعد ثمة -والحالة هذه- من سبيل لتداول السلطة، ولا من قيمة سياسية لأحزاب المعارضة، لا بل قل إنه لم يعد ثمة أفق سياسي بإمكان الفرقاء الموجودين على الأرض أن يتدافعوا لإدراكه أو يحتكموا إليه.

– وخلّف لنا إعادة تمركز للدولة شديد حول نفسها وحول مصالحها، وركوبها ناصية القوة الخشنة لمواجهة أي احتجاج أو مظاهرة، فيما تم اللجوء لخدمات المؤسسة القضائية لمطاردة الخصوم أو تصفية الحساب مع هذه الجهة المناهضة أو تلك.

لقد اختُزل الربيع في حراك مهادن، واختُزلت الديمقراطية في انتخابات شكلية صورية، واختُزلت حرية التعبير في عدم الاقتراب من الخطوط الحمر (أو المقدسات كما يقول البعض)، واختُزلت الإستراتيجيات التنموية في الاعتبارات الأمنية، واختُزل الاختلاف في ضرورة الإجماع والتمترس خلف السلطة

– وخلّف لنا وضعيات اقتصادية واجتماعية أكثر تأزما من ذي قبل، تمثلت تجلياتها الكبرى في حالات الانسداد الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي، وتهاوي أشكال التضامن في الزمان والمكان بين الناس وبين المجالات الجغرافية المختلفة.

وبالتالي، وبعد ما يقارب عقدا زمنيا؛ لم يخلّف لنا الربيع العربي -في أبهى تجلياته- إلا حراكات يتيمة هنا وهناك، اكتفت في معظمها بتنظيم احتجاجات باهتة ولسان حال مطالبها فئوي صرف، ولا يخرج كثيرا عن سقف المطالب الاجتماعية والاقتصادية في حدها الأدنى، وعن بعض المطالب المتعلقة بالهوية التي تدفع بها هذه الأقلية أو تلك.

لم يعد الوازع السياسي -في ظل الحراك- هو الأهم، بل الأهم منه هو المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من فرص شغل وتطبيب وتمدرس وتزويد بالبنى التحتية وبالماء والكهرباء. لقد باتت الجماهير تستجدي الحقوق ولا تضغط لإدراكها، تطالب بحقها دون أن تشير في شعاراتها إلى هذا الفاسد أو ذاك.. إلى هذا "الحرامي" أو ذاك.

لقد اختُزل الربيع في حراك مهادن، واختُزلت الديمقراطية في انتخابات شكلية صورية، واختُزل القضاء في مجرد المطالبة بمحاكمة عادلة غير موجهة، واختُزلت حرية التعبير في عدم الاقتراب من الخطوط الحمر (أو المقدسات كما يقول البعض)، واختُزلت الإستراتيجيات التنموية في الاعتبارات الأمنية، واختُزل الاختلاف في ضرورة الإجماع والتمترس خلف السلطة… وهكذا.

لقد عادت بلدان الربيع العربي إلى الصفر، حيث بات مطلب الإصلاح السياسي مستبعدا أو لنقل محكوما بتوافقات حزبية هشة وهجينة، وبات مطلب التداول على السلطة مطلبا غير ذي وقع منتظَر، وباتت المقاربات الأمنية هي الخيط الناظم لسلوك الدولة ومصالحها المختلفة.

لقد استطاعت الدولة العربية الاستبدادية الحاكمة منذ عقود أن تسترجع كل هيبتها وجبروتها وتجدد بعمق جلدها، لقد تعرضت لامتحان خرجت منه منتصرة وبقدرة على الفعل غير مسبوقة.

لم تعد السلطات المضادة ذات وزن يعتد به، ولم يعد للتنظيمات المدنية أو الثقافية اعتبار يذكر، لقد باتت حراكات تشتغل بدون مضمون أو أفق سياسي محدد. نحن اليوم، بإزاء وضعية غريبة وشاذة يكاد الكل فيها يكون مع الكل ضد الكل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.