ترمب وموسم الهروب إلى أفغانستان

U.S. President Donald Trump gestures as he departs after announcing his strategy for the war in Afghanistan during an address to the nation from Fort Myer, Virginia, U.S., August 21, 2017. REUTERS/Joshua Roberts

معادلة الوضع بأفغانستان
ترمب والسعي لانتصار
فرص الإخفاق والنجاح 

يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب رجل المفاجآت والصدمات بامتياز، كما أنه رجل الصفقات بامتياز آخر؛ وهو ما قد يرجع إلى طبيعة عمله كرجل أعمال تطورت أحلامه من التجارة إلى السياسة، حتى صار على رأس أقوى دولة في العالم.

ويبدو أن تقلبات الأسواق التجارية قد علّمت الرجل منذ زمن أن يبادر قبل أن تفاجئه الخسائر، كما علمته أن يقلّب في كل ما لديه من دفاتر حتى يعرف من أين يصل إلى هدفه، وكيف يمكنه أن يعوّض خسائره ويوقف الانهيار.

وفي ضوء هذا التشخيص؛ نحاول أن نفهم قرار ترمب الأخير بزيادة عدد أفراد القوات الأميركية في أفغانستان، بعد أن كان قد تعهد بالجلاء النهائي عن بلاد يحل فيها الجيش الأميركي ضيفا ثقيلا منذ غزوها عام 2001، فيما وُصف -بصورة غير دقيقة- بأنه أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة؛ لأن انتهاء الحرب لا يكون دائما بالاستسلام التام للمهزوم.

معادلة الوضع بأفغانستان
عادة ما تخلد أفغانستان إلى شيء من السكون مع زحف الشتاء الذي يكسو مناطق كثيرة فيها بالجليد أو يضربها بالصقيع، ومن هنا اعتادت حركة طالبان الأفغانية -في نهاية كل شتاء- أن تسبق فصل الربيع بإعلانها شن هجمات جديدة مزمعة مع تفتح الأزهار وذوبان الجليد. ولم تخالف الحركة عادتها هذا العام، إلا أنها لم تقم بأعمال عسكرية كبيرة أو نوعية طوال الربيع والصيف.

وهذا يعني أن الساحة الأفغانية لا جديد فيها أمنيا يدفع إلى تغيير الإستراتيجية الأميركية، فالحكومة تسيطر على المراكز الرئيسية للدولة؛ خاصة العاصمة كابل والولايات الغنية بالمعادن مثل هلمند وقندز ومزار شريف، وحركة طالبان تسيطر على كثير من القرى وبعض المديريات، وهناك مناطق أخرى تسيّر نفسها تسييرا شبه ذاتي؛ لنأيها عن المركز والحواضر الكبرى، وعدم تمتعها بميزة عسكرية أو اقتصادية خاصة.

الساحة الأفغانية لا جديد فيها أمنيا يدفع إلى تغيير الإستراتيجية الأميركية، فالحكومة تسيطر على المراكز الرئيسية للدولة؛ خاصة العاصمة كابل والولايات الغنية بالمعادن مثل هلمند وقندز ومزار شريف، وحركة طالبان تسيطر على كثير من القرى وبعض المديريات، وهناك مناطق أخرى تسيّر نفسها تسييرا شبه ذاتي؛ لنأيها عن المركز والحواضر الكبرى

ومن جهة أخرى؛ فإن طالبان صارت -بسبب الضغط الطويل عليها- جسدا هلاميا تصعب السيطرة عليه أو هزيمته بشكل ساحق، حتى في المناطق التي تسيطر عليها الحركة فعلا، فهم ينسحبون عند الهجوم نهارا، ويعيدون السيطرة على نفس المواقع ليلا، كما يحلو لهم أن يرددوا هم وأنصارهم.

ولكن الحرب الطويلة على حركة طالبان قد أنهكتها أيضًا، وتفككت بعض أوصالها بسبب الأحداث والتطورات؛ خاصة عقب وفاة زعيمها الملا محمد عمر واغتيال خليفته أختر منصور، بحيث لم يعد في مقدورها حسم معركتها مع الدولة القائمة التي تلقى معونة وسندا دوليا لن يفرط في استمرارها بسهولة؛ لذا فإن الحرب سجال بين طالبان والدولة الأفغانية.

ونظرا للصراع الخفي والضار بين الجارتين باكستان وأفغانستان؛ فإن الأولى تبقى حريصة على بقاء طالبان التي أسهمت إسلام آباد في تأسيسها عام 1994 ضمانا لمصالحها، وسعيا إلى تحقيق الاستقرار الذي كان متوقعا ولكن فقدته المنطقة بعد انتصار "المجاهدين" على الروس وحلفائهم نهاية الثمانينيات.

وهذا الحرص الباكستاني على بقاء طالبان له خطورته؛ لأن الحركة رقم مهم لباكستان في ظل السياسات التي تنتهجها الجارتان إحداهما تجاه الأخرى، وفي ظل التقارب الهندي الأفغاني الكبير، وهذا في ذاته عامل مساعد على ثبات طالبان في مواجهة العواصف التي تسعى إلى اقتلاعها من الساحة الأفغانية.

وبدرجة أقل أهمية يبدو وجود طالبان مرغوبا فيه لروسيا وإيران، ولا تخفى علاقات الأخيرة بقادة طالبان وعائلاتهم منذ الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، وأما روسيا فهي متهمة أميركيا بتقديم السلاح لطالبان لمقاتلة الحكومة والتحالف الغربي. وإذن؛ فقد صارت طالبان بالنسبة لبعض أطراف الإقليم جماعة وظيفية يمكن أن تؤثر في بعض المعادلات التي تهم هذه الأطراف، ولذا فهم حريصون على بقائها.

ويضاف إلى هذا عامل آخر مهم بالنسبة لوجود طالبان واستمرارها، وهو وجود تأييد واسع لها في مناطق كبيرة من أفغانستان، ولا يمثل هذا حاضنة شعبية فقط لحماية أعضاء الحركة الذين لا يختبئون في الجبال والكهوف كما يتصور كثير من الناس، ولكنه أيضا يمنحها تجنيد مزيد من العناصر والكوادر.

كل هذه حقائق إن كانت خافية على الرئيس الأميركي فإنها لا تخفى على فريقه للأمن القومي، الذي ادعى ترمب أنه شاوره قبل أن يتخذ القرار بزيادة قواته في أفغانستان؛ فهل فعلا يحاول ترمب بهذه الزيادة المزمعة أن يحمي الحكومة المدعومة دوليا في كابل، أم أنه موسم الهروب إلى أفغانستان؟

أم أنه الحرص على البقاء في منطقة تعج بالأصدقاء (الهند وتايوان وأفغانستان) والمنافسين (الصين وروسيا وإيران)، ومشجب مكافحة الإرهاب جاهز -بعد هذا- لتعليق كل شيء عليه؟! أم أنها عين الرأسمالي الكبير على ثروات أفغانستان ومعادنها الهائلة التي يحول دون التوسع في الاستفادة منها اضطراب الأمن، وضعف الخبرة البشرية والبنية التحتية، وتضعضع الاقتصاد الأفغاني؟!

ترمب والسعي لانتصار
ومهما تكن الإجابة بهذه الاحتمالات كلها أو بعضها، فلا يخفى أن توجه الإدارة الأميركية إلى أفغانستان وسعيها إلى تحقيق إنجاز نوعي فيها، سيمثل -إن تحقق- انتصارا مهما لهذه الإدارة؛ خاصة أن الحملة على أفغانستان لم تحقق من أهدافها الكبرى طوال ست عشرة سنة إلا إنهاء حكم طالبان.

وما عدا ذلك فإن الحركة ما زالت نشطة في أنحاء أفغانستان، وتنافس الحكومة الضعيفة الموالية لواشنطن بقوة، وثمة كثير من شخصياتها الطليقة في أفغانستان ومنطقة الحدود مع باكستان ممن تتهمهم واشنطنبالإرهاب. وأهم من ذلك أن الأميركيين لم يحصدوا ثمرة اقتصادية لغزو أفغانستان الغنية طبيعيا، بل تكبدوا كثيرا من الخسائر المادية والبشرية طوال هذه السنين.

تقوم إستراتيجية ترمب -كما أعلن- على زيادة أعداد القوات الأميركية في أفغانستان، وإتاحة الدعم اللوجيستي الكبير لها، وإطلاق أيديها في عمليات تتجاوز تدريب القوات الأفغانية ومشاركة هذه الأخيرة في عمليات مكافحة الإرهاب، واعتبار الهند شريكا إستراتيجياً في أفغانستان، وتحذير باكستان من إيواء الإرهابيين

ومع أن الحرب في أفغانستان تختلف عن حرب تحرير الكويت -التي يصرح ترمب بأن بلاده لم تقبض ثمن المشاركة فيها- في أن الأولى كانت حربا أميركية ولم تكن حرب استعانة بالأميركيين؛ فإن الشعور بالأزمة الداخلية المطبقة سيدفع ترمب لعمل أي شيء في سبيل تحقيق مكاسب لافتة.

وهنا تأتي الإستراتيجية الأميركية الجديدة في أفغانستان؛ تلك التي لم يعلن ترمب منها في الحقيقة إلا شقها الأمني، مع أن الساحة الأفغانية ليس فيها جديد يستدعي التطور من هذه الجهة بالذات، كما سبق القول.

وتقوم هذه الإستراتيجية -كما أعلن- على زيادة أعداد القوات الأميركية في أفغانستان، وإتاحة الدعم اللوجيستي الكبير لها، وإطلاق أيديها في عمليات تتجاوز تدريب القوات الأفغانية ومشاركة هذه الأخيرة في عمليات مكافحة الإرهاب، واعتبار الهند شريكا إستراتيجياً في أفغانستان، وتحذير باكستان من إيواء الإرهابيين.

ويبدو أن ترمب خشي أن يتهم بالاندفاع إلى حل أمني أحمق، فأكد -في خطابه الذي ألقاه أمام تجمع من العسكريين بإحدى القواعد- أن إستراتيجيته ستكون "مقاربة إقليمية شاملة قائمة على الظروف، وتهدف إلى حل سياسي هناك"، وإذا كانت الحرب ضرورية فهي لإقناع طالبان بأنها لا تستطيع الانتصار في ساحة المعركة. وهذا يعني أنه يريد أن يسوق طالبان إلى سلام إجباري دون أن يعنيه أن يقدم أي مقابل لهذا السلام.

فرص الإخفاق والنجاح
من الطبيعي أن يرحب الرئيس الأفغاني أشرف غني بالإستراتيجية الأميركية الجديدة؛ إذ إن حكومته تبدو هشة جدا رغم تبني المجتمع الدولي لها، وأي اختبار لها بجلاء القوات الأجنبية عن التراب الأفغاني سيعرض وجودها لخطر كبير، فحتى قوات الجيش والشرطة الأفغانية التي تدربها القوات الدولية لم تصل إلى مستوى من التأهيل ولا الكثافة العددية يجعلها قادرة على حماية الدولة من السقوط.

ليس هذا فحسب، بل إن المراس الطويل لحركة طالبان في ظل الاحتلال قد علّمها اللجوء إلى وسائل متنوعة لاختراق خصومها، ومن ذلك تخلص شباب الحركة من لحاهم ومظهرهم الديني والتحاقهم بالجيش، فإما رجعوا بسلاحهم إلى حضن الحركة وفي جعبتهم خبرات عسكرية مهمة، وإما قاموا بعمليات فردية في قلب الجيش الأفغاني وقوات الاحتلال الدولية.

لا معنى للحل السياسي في أفغانستان ما دامت الولايات المتحدة تشحن الساحة الأفغانية بمزيد من الجنود؛ أي أن الحديث عن الحل السياسي الذي أشار إليه ترمب لم يُطرَح في أجواء ملائمة تعطي الأمل بإمكانية نجاحه؛ مثل إشراك طالبان في حكم البلاد، وتقديم جدول زمني لجلاء القوات الأجنبية عن قلب البلاد على الأقل

وقد ردت طالبان على الإستراتيجية الأميركية الجديدة -كما كان متوقعا- برفضها، متوعدة الأميركيين بأن أرض أفغانستان ستكون قبرا لهم، وأن الحرب قائمة ما دام هناك جندي أميركي واحد على أرض أفغانستان.

وقد لا يكون هذا هو الجواب الأخير لطالبان على المساومة الأميركية، لكن لا معنى للحل السياسي ما دامت الولايات المتحدة تشحن الساحة الأفغانية بمزيد من الجنود؛ أي أن الحديث عن الحل السياسي الذي أشار إليه ترمب لم يُطرَح في أجواء ملائمة تعطي الأمل بإمكانية نجاحه؛ مثل إشراك طالبان في حكم البلاد، وتقديم جدول زمني لجلاء القوات الأجنبية عن قلب البلاد على الأقل.

هذا الطرح المنقوص للحل السياسي يعطي شعورا بأن الإدارة الأميركية واثقة منذ البداية من أن طالبان لن توافق عليه، وأن الأمور ستسوقها في النهاية إلى حرب هدفها ترسيخ أقدام الحكومة القائمة، ثم تأمين البلاد من جماعات المعارضة المسلحة، والاهتمام بالبنية التحتية.

وثمة عقبات كثيرة في طريق هذه الخطة؛ أولاها أن واشنطن خسرت باكستان من البداية باتهامها إياها بإيواء الإرهابيين، وأنها حصلت على كثير من المساعدات الأميركية دون أن تخدم السلام وتحارب الإرهاب، مع أن إسلام آباد -التي عانت كثيرا من موجات العنف والإرهاب- رقم لا يمكن إهماله في ترتيب البيت الأفغاني.

ولن تخفف من غضب إسلام آباد تصريحاتُ وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الأخيرة بأن الإستراتيجية الأميركية الجديدة متكاملة، "وتحتاج انخراطاً دبلوماسياً من باكستان وأفغانستان والهند لإنضاج الظروف لبسط الاستقرار في المنطقة"؛ لأن الترتيب الذي تريده إدارة ترمب لأوضاع أفغانستان ليس في صالح باكستان التي لن تقبل العمل إلى جانب خصمها اللدود الهند، كما أنها لن تقبل العمل في سبيل تثبيت حكم أشرف غني الذي توترت في عهده علاقات كابل بإسلام آباد إلى حد بعيد.

وبحساب الأرقام، فإن مئة ألف جندي أميركي حطوا فوق أرض أفغانستان عام 2001، وحوالي سبعمئة مليار دولار من نفقات الحرب، وست عشرة سنة من عمر الزمان، واستخداما شرسا للأسلحة الحديثة؛ لم تكف كلها للقضاء على طالبان وإتمام السيطرة على أفغانستان، بل نجحت فقط في تدمير البلد الجريح، وصناعة حكومة هشة فيه لا تستطيع أن تحمي نفسها! فهل يملك ترمب إمكانات ووقتا أكثر من هذا لكي تنجح إستراتيجيته الجديدة في أفغانستان؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.