لماذا يصر البارزاني على الاستفتاء؟

ARBIL, IRAQ - MAY 18: Iraqi Kurdistan Regional Government President Masoud Barzani holds a meeting with political party leaders in Arbil,Iraq on May 18, 2015.

دوافع تنظيم الاستفتاء الكردي
معززات الإصرار على الاستفتاء
سيناريوهات اليوم التالي 

رغم رفض الحكومة العراقية ومعظم دول الجوار الجغرافي والعالم لتنظيم استفتاء إقليم كردستان العراق المقرر في يوم 25 سبتمبر/أيلول المقبل؛ فإن لسان حال رئيس الإقليم مسعود البارزاني بقي يقول إنه "لا رجعة عن الاستفتاء".

وقد أثارت "لا" البارزاني الثابتة هذه الكثيرَ من الأسئلة عن دوافع الإقليم من المضي في إجراء الاستفتاء وقدرته على تحمل التداعيات المحتملة، خاصة بعد إعلان كل من طهران وأنقرة (الحليفة الأساسية للبارزاني) رفضهما للاستفتاء، بل والتلويح بإجراءات مشتركة ضد الإقليم إذا ما قرر الانفصال أو إعلان الاستقلال عن العراق.               

دوافع تنظيم الاستفتاء الكردي
لقد كونت التطورات الدرامية -التي شهدها العراق وسوريا خلال السنوات الماضية- قناعة عامة لدى كرد العراق بأنهم باتوا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق حلمهم القديم/الجديد بإقامة دولة مستقلة لهم، وعليه يمكن فهم إصرار الأحزاب الكردستانية في العراق على تنظيم هذا الاستفتاء، وهو ما يطرح السؤال الجوهري: هل أصبحت الظروف مهيأة فعلا لإعلان استقلال الإقليم الكردي؟

كونت التطورات الدرامية -التي شهدها العراق وسوريا خلال السنوات الماضية- قناعة عامة لدى كرد العراق بأنهم باتوا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق حلمهم القديم/الجديد بإقامة دولة مستقلة لهم، وعليه يمكن فهم إصرار الأحزاب الكردستانية في العراق على تنظيم هذا الاستفتاء

في توقيت الدعوة إلى الاستفتاء لا بد من الوقوف عند جملة من المعطيات والأسباب، لعل أهمها:

1- أن إقليم كردستان العراق نجح عمليا في بسط سيطرته على ما كان يعده مناطق متنازعا عليها مع بغداد ولا سيما كركوك الغنية بالنفط والغاز، وأن مثل هذه السيطرة رسمت الحدود الجغرافية للإقليم وأمّنت له موارد مالية، حيث يحتل نفط كركوك قيمة كبيرة في طبيعة الصراع على المدينة.

2- وصول إقليم كردستان العراق إلى قناعة بأن العلاقة مع بغداد لم تعد مجدية كثيرا، خاصة في ظل تراكم الخلافات وغياب الثقة، وقناعة حكومة الإقليم بأن حكومة بغداد تستغل أغلبيتها الشيعية في البرلمان لاتخاذ قرارات تتعلق بمصير الدولة وسياساتها العليا دون مراعاة الأطراف الأخرى، كما حصل في قضية تشكيل الحشد الشعبي وجعله مؤسسة رسمية تابعة للجيش للعراقي.

3- استمرار بغداد في عدم دفع ميزانية الإقليم (17 % من ميزانية العراق) الذي يعاني من أزمة اقتصادية كبيرة، وصلت إلى درجة أنه بات عاجزا عن تسديد رواتب الموظفين والبشمركة في الإقليم.

4- إحساس الكرد في العراق وسوريا وتركيا بأنهم باتوا يشكّلون قوة حليفة للولايات المتحدة والغرب عموما من بوابة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسعيهم إلى الربط بين الحاجة الأمنية الغربية لهم والتطلع إلى جلب اعتراف دولي بهم.                                                                    

5- ثمة قناعة في أوساط كردية بأن البعد الداخلي المتمثل في أزمة رئاسة الإقليم بعد انتهاء ولاية البارزاني وتعطيل البرلمان والاستعداد للانتخابات المقبلة، بات يشكل عاملا أساسيا في توجه قيادة الإقليم إلى إجراء الاستفتاء لكونه قد يرتب المعادلة الداخلية من جديد، انطلاقا من أنه يعزز الوعي القومي للناخب الكردي وكذلك علاقته بسياسة قيادة الإقليم، بعد أن تراجعت مصداقيتها في الشارع على وقع الأزمتين الاقتصادية والسياسية.

6- في الوعي القومي الكردي تبقى قضية حق تقرير المصير قائمة في صلب التوجه الكردي، ما دام أن هذا الحق شكل مدخلا لإقامة العديد من الدول التي نالت لاحقا اعتراف المجتمع الدولي، وأصبحت أعضاء في الأمم المتحدة.                

وتأسيسا على ما سبق؛ فإن لسان حال البارزاني يقول إن الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو انتهت، وعليه يمكن القول إن الهاجس الأساسي الذي يشغل البارزاني وكرد العراق عموما في هذه المرحلة هو: متى يكون إعلان الدولة الكردية المستقلة؟

معززات الإصرار على الاستفتاء
يدرك الكرد أن ثمة معادلة تاريخية/جغرافية ليست في صالحهم، وتتلخص في اتفاق الدول التي يوجد فيها الكرد على منع إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، لقناعة هذه الدول بأن إقامة دولة كردية في أي جزء من أجزاء كردستان ستؤثر على القضية الكردية في الأجزاء الأخرى على شكل رفع سقف للمطالب والحقوق القومية، فكثيرا ما اتفقت هذه الدول على محاربة الحركات الكردية التي رفعت هذه المطالب.

ورغم حضور هذه المعادلة بقوة هذه الأيام؛ فإن البارزاني يصر على المضي في الاستفتاء، وهو ما يوحي بأن ثمة جديدا في هذه المعادلة أو أن هناك شيئا ما تحت الطاولة، خلافا للمواقف السياسية المعلنة والرافضة للاستفتاء، أو أن البارزاني قرر خوض هذه المعركة مهما كانت النتائج.

يدرك الكرد أن ثمة معادلة تاريخية/جغرافية ليست في صالحهم، وهي تتلخص في اتفاق الدول التي يوجد فيها الكرد على منع إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، لقناعة هذه الدول بأن إقامة دولة كردية في أي جزء من أجزاء كردستان ستؤثر على القضية الكردية في الأجزاء الأخرى على شكل رفع سقف للمطالب والحقوق القومية

وفي الحقيقة، لا يمكن فهم هذا الإصرار إلا في سياق جملة من العوامل، لعل أهمها:

1- اعتقاد الكرد أن وضعهم لم يعد كما كان في السابق مجرد ورقة إقليمية، بل تحولوا إلى لاعب إقليمي بامتلاكهم المزيد من عناصر القوة والخبرة والسلاح، وتراكم التجربة في الحكم وإدارة مناطقهم.

2- القناعة الكردية الضمنية بأن موقف الإدارة الأميركية الرافض للاستفتاء ليس نهائيا، وأن حجج واشنطن بخصوص تأثير الاستفتاء على الحرب ضد تنظيم الدولة إنما هي لتبرير موقفها المرحلي، وأن الموقف الحقيقي للإدارة الأميركية لن يظهر إلا عقب الاستفتاء.

خاصة أن واشنطن حريصة على عدم استفزاز أنقرة وبغداد وطهران في هذه القضية الحساسة، ويستشهد كرد العراق هنا بتجربة العلاقة الأميركية مع كرد سوريا، إذ رغم التحالف التاريخي بين الولايات والمتحدة وتركيا، فإن الإدارة الأميركية ماضية في دعم كرد سوريا رغم رفض تركيا وتوتر العلاقات بين البلدين بسبب ذلك.

3- ثمة قناعة كردية بأن إسرائيل -التي هي الدولة الوحيدة التي تجاهر بدعم الاستفتاء الكردي- ستحاول بكل ما تمتلكه من أوراق في الغرب (بشقيه الأميركي والأوروبي) لدفع دوله إلى التعاطي إيجابيا مع إعلان الدولة الكردية ولو على مراحل، وذلك لأسباب تتعلق بإستراتيجية إسرائيل تجاه المنطقة وحرصها على البقاء قريبة جغرافياً من إيران وتركيا والعراق.

4- مقابل الرفض التركي والإيراني للاستفتاء؛ ينظر الكرد إلى صمت بعض دول المنطقة -ولا سيما السعودية والإمارات والأردن– على أنه يشير إلى مواقف إيجابية قد تتحول في لحظة ما نحو دعم إقامة دولة كردية، ولا سيما في ظل الاصطفافات والصراعات الإقليمية الجارية في المنطقة.

سيناريوهات اليوم التالي
مع تأكيد أنه ليست هناك -حتى الآن- رؤية محددة أو واضحة لمرحلة ما بعد الاستفتاء؛ إلا أن ثمة سيناريوهات وخيارات تطرح لليوم الذي سيلي تنظيم الاستفتاء الكردي، ولعل من أهمها:

أولا: خيار إعادة ترتيب العلاقة مع بغداد: إذ ثمة من يرى أن الاستفتاء لا يعني بالضرورة إعلان استقلال كردستان، إذ سبق أن تم إجراء استفتاء مماثل عام 2005 ولم يتم إعلان الاستقلال.

وعليه فإن أربيل -وخاصة في ظل الرفض الإقليمي والدولي للاستفتاء- قد تستثمر نتائجه للحصول على وضع أفضل للعلاقة مع بغداد، خاصة مع الحديث الكردي عن عدم التزام الحكومة العراقية بتنفيذ العديد من مواد الدستور، ولا سيما المادة 140 التي نصت على إقامة استفتاء في كركوك لتحديد مصيرها.

ثانيا: التوجه إلى جعل نتيجة الاستفتاء مرجعية للمطالبة بالاستقلال:وربما التفكير في تجربة جنوب السودان، بما لهذه التجربة من معطيات تاريخية لجهة العلاقة بين أربيل وبغداد؛ ففي العقود الماضية عقد كرد العراق والحكومات المتتالية في بغداد سلسلة اتفاقيات مهمة، كانت أبرزها اتفاقية مارس/آذار 1970 التي نصت للمرة الأولى على إقامة حكم ذاتي للكرد.

بغض النظر عن أي هذه الخيارات الذي سيقفز إلى صدارة المشهد الكردي في لحظة ما بعد الاستفتاء؛ فإن الاستفتاء نفسه سينقل القضية الكردية -في عموم المنطقة- إلى مرحلة جديدة، مرحلة يعتقد الكرد أنها ستكون صعبة في البداية بحكم العامل الجغرافي

ومن قبلها كانت المادة الثالثة من دستور العراق المؤقت عام 1958 -الذي وُضع في عهد عبد الكريم قاسم- والتي نصت على شراكة الكرد والعرب في العراق، ومن ثم استفادة الكرد من إقامة منطقة حظر جوي فوق شمال العراق عقب العراق الأولى عام 1991.

والتي منها انطلقت أولى خطوات الكرد لبناء مؤسساتهم المستقلة عن بغداد، وصولا إلى الدستور الجديد الذي صدر عام 2005 وأقر بعراق فدرالي، وهو دستور وضع الإقليم في موقع أكثر من فدرالية وأقل بقليل من دولة، ولعل كل ما سبق يدفع بالكرد إلى الحرص على عدم إراقة الدماء حتى ولو تطلب الأمر إرجاء إعلان الاستقلال.

ثالثا: خيار التوجه إلى الأمم المتحدة: على غرار التجربة الفلسطينية لنيل اعتراف أممي بالدولة الكردية، ورغم التعاطف الدولي مع حقوق الكرد في عموم المنطقة فإنهم يدركون صعوبة مثل هذا الخيار، نظرا لقناعتهم بكثرة الدول التي ستقف في وجه مطلبهم بإقامة دولة مستقلة.

فالكثير من الدول العربية والإسلامية تخشى -في العمق- من موجة حركات لها مطالب بحكومات محلية تتعدد أشكالها، وقد تكون مدخلا لتقسيم هذه الدول، وعليه فإنها تتحفظ على مسألة الاستقلال الكردي، دون أن يعني ما سبق رفضها للحقوق الكردية في إطار وحدة الدول التي يوجد فيها الكرد.

رابعا: الإعلان من طرف واحد عن الاستقلال: لا سيما إذا وصلت المفاوضات مع بغداد إلى طريق مسدود. ورغم سهولة هذا الخيار لكونه لن يحتاج سوى إلى بيان رقم واحد لإعلان استقلال الدولة الكردية؛ فإنه يبدو الأكثر كلفة بسبب التداعيات والمخاوف التي ستترتب عليه، جراء رفض دول الجوار الجغرافي -ولا سيما تركيا وإيران- لإقامة مثل هذه الدولة.

وفي الواقع، وبغض النظر عن أي هذه الخيارات الذي سيقفز إلى صدارة المشهد الكردي في لحظة ما بعد الاستفتاء؛ فإن الاستفتاء نفسه سينقل القضية الكردية -في عموم المنطقة- إلى مرحلة جديدة، يعتقد الكرد أنها ستكون صعبة في البداية بحكم العامل الجغرافي، خاصة إذا لجأت إيران وتركيا إلى اتخاذ خطوات مشتركة منها إغلاق الحدود البرية مع الإقليم، وكذلك إذ بقي الموقف الأميركي الرافض للاستفتاء على حاله.

إلا أنه رغم كل ما سبق؛ فإن بريق الاستقلال بات أقوى من أي قضية أخرى لدى الكرد، فهو حلم عمره قرن من الثورات والانكسارات معا، ولعل ما قد يزيد القيادة الكردية إصرارا على المضي في الاستفتاء أنها قد تجد فيه جسرا لانتقال الزعامة منها إلى الأبناء، ولو عبر انتخابات من بوابة الاستفتاء نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.