الصراع على القدس

مدونات - القدس

من المعروف أن الهجمة الأخيرة على المسجد الأقصى هي حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من سياسات التهويد، التي تعتمدها حكومات دولة الأبارتايد الإسرائيلي في فلسطين المحتلة منذ عقود.

ولا تعتمد هذه السياسات فقط على القبضة العسكرية والدعم المادي للاستيطان، وإنما ترتكز أيضا على تزييف الوعي وترويج أن على العرب الالتزام بـ"الموضوعية" و"الواقعية". وهذا الأمر الأخير يعني عمليا التنازل عن الحقوق، وتحويل الصراع إلى نزاع على أراضٍ.

وحسب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، فقد خصصت حكومة الاحتلال 15 مليون دولار لتعزيز الرواية اليهودية حول مدينة القدس في إطار مخططاتها لتهويد القدس، وردا على قرارات منظمة اليونسكو الأخيرة الداعية لوقف انتهاكات الاحتلال بالمدينة المقدسة والأقصى المبارك، وتأكيدها على عروبة القدس ومكانتها لدى الشعوب العربية والإسلامية.

يحدث هذا بينما الحكومات العربية غارقة في مشكلاتها الداخلية وخلافاتها البينية، وفي ظل سكوت أو تواطؤ الكثير من النخب والمثقفين العرب. لقد أثمرت عمليات التسميم السياسي والاختراق المخابراتي، وظهر -بجانب جيش دولة الاحتلال المدعوم من الغرب- جيش آخر من المثقفين الذين يعملون في خدمة الرواية الصهيونيةللصراع.

الصهيونية -كمشروع سياسي- قامت على مغالطات دينية وتاريخية، مثل القول "إن اليهود هم شعب الله المختار"، و"الوعد الإلهي بمنح الأرض المقدسة لهذا الشعب"، و"إن داود هو أول من بنى القدس واتخذها عاصمة لملكه"، وغير ذلك


التاريخ والدين
لدى الكثير من الغربيين مشكلة كبيرة في التعامل مع التاريخ ومع الدين؛ فهم يستدعون التاريخ بشكل انتقائي متى كان ذلك في مصلحتهم. ومن الأساطير الشائعة هنا القول إن "لليهود حقا تاريخيا في فلسطين"، و"إن العبرانيين هم أول من سكن فلسطين"، و"إن فلسطين كانت أرضا صحراء"، وغير ذلك.

كما يُستدعى التاريخ لإثبات أن العنف أصيل لدى العرب والمسلمين، وأن ما يدور في المنطقة هو صراع له جذور تاريخية كالصراع بين السنة والشيعة، من وجهة نظرهم. بالطبع، توجد في تاريخنا -كما في تاريخ بقية الشعوب- فترات عنف وقتال، لكن المشكلة هي في الانتقائية.

وبنفس المنطق يُستدعى الدين لتبرير سياسات ومواقف معينة، فمعظم الاعتداءات العسكرية التي قامت وتقوم بها دولة الاحتلال تتضمن أدوارا للحاخامات في دعم العدوان وتبريره ومباركته، وهناك مئات الفتاوى الدينية التي تبرر قتل العرب والتنكيل بهم.

هذا بجانب أن الصهيونية -كمشروع سياسي- قامت على مغالطات دينية وتاريخية، مثل القول "إن اليهود هم شعب الله المختار"، و"الوعد الإلهي بمنح الأرض المقدسة لهذا الشعب"، و"إن داود هو أول من بنى القدس واتخذها عاصمة لملكه"، وغير ذلك.

وفي زيارته الأخيرة لتل أبيب ردد الرئيس الأميركي دونالد ترمب أسطورة من أساطير الصهيونية، وهي أن "إسرائيل" تعبير عما أسماه "إرث الوجود اليهودي الديني" في فلسطين منذ آلاف السنين. وفي هذه الإشارة استدعاء للدين والتاريخ من أوسع أبوابهما، ولا سيما أنها جاءت في سياق الحديث عن الدعم الأميركي لدولة الاحتلال.

للغربيين فقط الحق في الرجوع إلى التاريخ، أما نحن فلا يحق لنا ذلك!! فمقابل الاستخدام المكثف للتاريخ من قبل الصهيونية، يجب ألا يُستدعى التاريخُ عندما يتحدث العرب عن القدس وفلسطين، لأن في هذا بُعدا عن الموضوعية وخلطا للأوراق، من وجهة نظرهم.

بل ولا يحق لنا ذكر التاريخ القريب في القرن العشرين، مثل الملايين الذين قتلوا وشردوا وتم استغلال ثرواتهم خلال الاستعمار، فضلا عن بقاء الملايين اليوم تحت الوصاية والهيمنة الغربية بمسميات مختلفة. وقليلةٌ هي المقالات أو التصريحات الغربية التي تشير لهذه المسألة، ومنها ما نُشر منذ أسابيع قليلة بقلم أحد السياسيين التشيكيين في صحيفة "الغارديان" البريطانية (يوم 15 يونيو/حزيران 2017).

للغربيين فقط الحق في الرجوع إلى التاريخ، أما نحن فلا يحق لنا ذلك!! فمقابل الاستخدام المكثف للتاريخ من قبل الصهيونية، يجب ألا يُستدعى التاريخُ عندما يتحدث العرب عن القدس وفلسطين، لأن في هذا بُعدا عن الموضوعية وخلطا للأوراق، من وجهة نظرهم

إذ اعتبر الكاتب أن أحد أسباب ما يدور الآن في العالم العربي والإسلامي وتصاعد التطرف العنيف، هو أعداد القتلى والضحايا الذين سقطوا جرّاء ما ارتكبته الدول الأوروبية والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة -في دول الجنوب والدول العربية والإسلامية- من مجازر وانتهاكات.

وبذات المنطق؛ ممنوع على العرب والمسلمين الدفاع عن مقدساتهم الدينية في القدس، أو ذكر إرثهم الديني والتاريخي في المدينة. وعندما نتحدث عن هذا تكون الحجة التي يرفعها الغربيون في وجوهنا هي ضرورة التحلي بالموضوعية والتركيز فقط على الواقع.

وهذا الواقع في نظرهم مسألة نزاع على أرض بين طرفين يمكن حله بالتفاوض، وبتطوير الفرص الاقتصادية للشعب القابع تحت الاحتلال، أي بالتجاهل التام لأسباب الصراع السياسية وللأبعاد الإنسانية والحقوقية والجيوبوليتيكية للصراع.

سيظل الدين والتاريخ من العوامل الأساسية في صراعنا مع المشروع الصهيوني، الذي هو مشروع احتلالي عنصري قائم على أساس الدين. والموضوعية ذاتها -التي يرفعها كثيرون- هي التي تحتم علينا العودة إلى الدين والتاريخ، تماما كما تحتم علينا فهم الواقع الحالي وموازين القوة الإقليمية والدولية، وانتهاز الفرص وحساب المكاسب والخسائر.

التنازل والتسويات
فتحت الاتصالات السرية -التي نجحت المنظمة الصهيونية ودولة الاحتلال في إقامتها مع النخب الحاكمة العربية منذ 1948 والتي استمرت حتى اليوم- بابا واسعا لاختراق السياسة والمجتمعات العربية. ثم أدت عمليات التسوية المنفردة (العلنية والسرية) إلى تعزيز هذا الاختراق.

كما ساهم نمط الحكم الشمولي وتخلف أنظمة التعليم والبحث، وما ترتب على هذا من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، في تزييف الوعي وتراجع القضية الفلسطينية كقضية أمن قومي عربي تمس العرب جميعا من المحيط إلى الخليج.

وفي هذا الإطار تستخدم شعارات "الموضوعية" و"الواقعية" أيضا في الترويج لمشاريع التسوية والتطبيع وكأنها حلول سياسية لا بديل لها.

هنا يُطلب من العرب التحلي "بالموضوعية" و"الواقعية"، والتخلي عن استدعاء "الدين" و"التاريخ"، أي عدم التحدث عن التمييز القائم داخل دولة الاحتلال على أساس الدين، أو عن الضحايا الذين سقطوا في الحروب والاعتداءات السابقة، أو عن المطالبة بالتعويض عن المجازر والانتهاكات التي يتعرضون لها منذ عقود، أو عن الانتهاكات الإسرائيلية للمنظومة القانونية الدولية.

إن جوهر المشكلة -الذي يجب أن يدور حوله الصراع- هو طبيعة الدولة الإسرائيلية ذاتها، التي تقوم على صفتيْ "العنصرية على أساس الدين"، و"التوسع على حساب الدول المجاورة". أما الاحتلال والاستيطان فيأتيان تبعا لهذه الطبيعة

يحدث هذا بينما أخذت دولة الاحتلال تعويضات سخية من الألمان، كما أن هناك أخبارا عن اتصالات سرية لأخذ تعويضات من العرب أنفسهم عما تعتبره هذه الدولة أملاكا للأقليات اليهودية العربية، التي كانت تعيش في الدول العربية.

والحقيقة هي أن الموضوعية والواقعية تقتضيان أن تُطرح القضايا الحقيقية التي يحتمها جوهر الصراع. فالمسألة في القدس الآن ليست مسألة بوابات التفتيش، ولا الظروف الاقتصادية لأهل فلسطين، ولا في تحقيق الأمن للطرفين، مع الإقرار بأهمية هذه الأمور.

إن جوهر المشكلة هناك -الذي يجب أن يدور حوله الصراع- هو طبيعة الدولة الإسرائيلية ذاتها، التي تقوم على صفتيْ "العنصرية على أساس الدين"، و"التوسع على حساب الدول المجاورة، إنْ بالشكل العسكري المباشر أو بالاختراق والتخريب". أما الاحتلال والاستيطان والحصار وكل الإجراءات القمعية والتعسفية الأخرى؛ فتأتي من هذه الطبيعة التي لا مثيل لها في عالمنا المعاصر.

ولهذا فمواجهة هذا المشروع العنصري التوسعي تقتضي أن يعود العرب إلى جوهر الصراع، ويرفعوا المطالب الحقيقية التي تحتمها مقتضيات الموضوعية والواقعية، كإلغاء كل القوانين والإجراءات التي ترسخ التمييز والعنصرية والتوسعية، ودفع تعويضات عن كل الانتهاكات التي ارتُكِبت منذ عقود، والتخلي عن الطبيعة الاحتلالية.

هذا هو الحل الموضوعي لمن أراد أن يتخذ من المسار التفاوضي نهجا لإدارة الصراع. وهو حل واقعي، وتم تطبيق حلول مشابهة له في جنوب أفريقيا، حيث تخلت الأقلية البيضاء عن مشروعها العنصري، وقبلت العيش مع الأغلبية السوداء في ظل دولة المواطنة والقانون.

يظل ميزان القوة هو الحاكم على الأرض، فالحكومات العربية لن تكون قادرة على فرض رؤاها والدفاع عن مصالح شعوبها الحقيقة ما دام نمط السلطة الإقصائي والشمولي قائما، وما دامت الشعوب وحرياتها خارج المعادلة السياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.