ميلاد جديد للشراكة عبر الهادئ

(FILE) A file handout picture provided by the New Zealand Ministry of Foreign Affairs and Trade (MFAT) on 04 February 2016 shows delegates posing for a group photo after the signing of the Trans Pacific Partnership (TPP) trade agreement in Auckland, New Zealand. US President-elect Donald Trump on 21 November 2016 announced that his administration intends to withdraw from the TPP agreement once he takes office in January 2017. The Trans-Pacific Partnership involves a doz

عندما أعلن دونالد ترمب -في واحد من أوائل تصرفاته كرئيس- أن الولايات المتحدة لن تشارك في الشراكة عبر المحيط الهادئ؛ تصور كثيرون أن اتفاق التجارة الإقليمي بين الدول صاحبة النصيب الأضخم في التجارة العالمية قد مات، لكن ربما جاءت هذه التصورات سابقة لأوانها.

وُضع التصور الأساسي للشراكة عبر المحيط الهادئ كمنطقة اقتصادية تقوم على قواعد وقوانين، تمتد فوق إقليم المحيط الهادئ وتتكون من 12 دولة (هي: أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزلندا، وبيرو، وسنغافورة، والولايات المتحدة، وفيتنام)، تمثل في مجموعها 40% من اقتصاد العالم تقريبا.

وأجريت المفاوضات -التي استمرت خمس سنوات- بعناية واجتهاد بالغَين. ففي حالة اليابان مثلا، عمل المفاوضون وعلى رأسهم أكيرا أماري -الذي كان يشغل حينها منصب وزير الدولة للسياسة الاقتصادية والمالية- ليل نهار لطمأنة المعارضين في كل قطاعات الاقتصاد المحلي (ومنهم مزارعو الأرز مثلا)، ولضمان نتائج مشجعة أيضا.

بالتأكيد أحدث إعلان ترمب في يناير/كانون الثاني الماضي -الذي جاء بينما كان الاتفاق جاهزا للتصديق- رجة أصابت الجهود المبذولة لإنجاز الشراكة في الصميم. لكن سرعان ما شرع كثير من اللاعبين من أصحاب المصلحة -الحريصين على منع انهيار الشراكة عبر المحيط الهادئ- في مناقشة سبل المضي قدما بدون الولايات المتحدة.

أحدث إعلان ترمب في يناير/كانون الثاني الماضي انسحاب بلاده من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ -الذي جاء بينما كان الاتفاق جاهزا للتصديق- رجة أصابت الجهود المبذولة لإنجاز الشراكة في الصميم. لكن سرعان ما شرع كثير من اللاعبين من أصحاب المصلحة -الحريصين على منع انهيار الشراكة- في مناقشة سبل المضي قدما بدون الولايات المتحدة

وبحلول مايو/أيار، كان رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي يعلن استعداد اليابان لتولي زمام المبادرة لإنجاح الاتفاق، وإن أكد في الوقت ذاته أنه لا يزال يأمل عودة أميركا للشراكة.

وسرعان ما أعلنت اليابان ثم نيوزلندا سعيهما للتوصل إلى اتفاق مع الدول الموقعة الأخرى بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، لدفع الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى الأمام. وسيكون لهذه الخطوة -حال نجاحها- مردود عظيم على الدول الموقعة على الشراكة عبر المحيط الهادئ، بل ربما تكتشف الولايات المتحدة حينها أنها أهدرت فرصة هائلة.

وبصفة عامة، هناك نهجان متباينان لتحقيق تجارة أكثر حرية؛ الأول: النموذج العالمي مجسدا في منظمة التجارة العالمية. وتتمثل الميزة الرئيسة لهذا النهج في نطاقه الضخم؛ إذ أنه يضمن ترابط جزء ضخم من الاقتصاد العالمي، نظرا لالتزام معظم الاقتصادات المكونة لهذه المنظمة بمنظومة قوانين مشتركة، وخضوع أعضائها لآلية لحل المنازعات تمكّن من إنفاذ وتطبيق هذه القوانين.

لكن ربما شكلت مسألة النطاق ذاتها وجه الضعف الرئيسي لمنظمة التجارة العالمية أيضا، نظرا لصعوبة إقناع عدد كبير من الدول بالموافقة على مجموعة واحدة من القوانين. والحق أن عملية التفاوض تكون غالبا مضنية ومستنزِفة للوقت، بل وأكثر مشقة من تلك المفضية إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ.

وكانت هذه النقطة سببا رئيسيا لفقدان مفاوضات منظمة التجارة العالمية الزخم الذي كان مطلوبا خلال جولة المحادثات التجارية بالدوحة، التي انطلقت عام 2001 وتوقفت دون التوصل إلى اتفاق.

أما النهج الثاني لتحقيق تجارة أكثر حرية -الذي يتمثل في الاتفاقيات الثنائية- فيتميز بأنه يقلل من حدة مشكلة النطاق. فنظرا لاشتمال مثل هذه الاتفاقيات على دولتين (أو دول قليلة)، تكون المفاوضات أكثر وضوحا ومباشرة وأقل استهلاكا للوقت.

فنجد مثلا أن اليابان والاتحاد الأوروبي قد عاودا مؤخرا مضاعفة جهودهما -التي بدأت عام 2009- للتوصل إلى اتفاق تجاري ثنائي، وهي غاية قد تبدو قريبة في الأفق، رغم استمرار الخلاف بشأن عدد صغير من النقاط الرئيسية.

بيد أن لمثل هذا النهج جوانبه السلبية هو الآخر، إذ إنه لا يقتصر على تقديم منافع ومكاسب لعدد قليل من الدول فحسب، بل إن أي اتفاق مضمون الربح لأطرافه المشاركة فيه قد يتسبب في الإضرار بمصالح الدول غير المشاركة أيضا.

ولو نظرنا إلى اتفاق اليابان والاتحاد الأوروبي مثلا لوجدنا أن الولايات المتحدة قد تكون إحدى الدول المتضررة، إذا وضعنا في الاعتبار أن هناك منافسات كثيرة داخل اليابان بين شركات أميركية وأخرى أوروبية في نفس القطاعات.

أما الشراكة عبر المحيط الهادئ بأعضائها الاثني عشر (أحد عشر الآن)، فتقع في منطقة ما بين هذين النهجين، والهدف منها هو تحصيل أفضل ما في العالمَين.

إذ يمكن لنهج الشراكة بين الدول صاحبة النصيب الأضخم في التجارة العالمية -الذي تقوم عليه الشراكة عبر المحيط الهادئ- تحقيق مكاسب اقتصادية أكبر من تلك التي تحققها الاتفاقيات الثنائية، لأن مثل هذا النهج يحفز التجارة والتدفقات الاستثمارية -بأساليب تشمل مواءمة القواعد التنظيمية والمعايير- عبر مساحة أكبر من الاقتصاد العالمي.

لكن هذه الشراكة ليست ضخمة للغاية على العكس من منظمة التجارة العالمية، ولا تشمل أطرافا شديدة التنوع والاختلاف يصعب معها كثيرا التوصل إلى اتفاق.

وربما كان لنهج الشراكة بين الدول صاحبة النصيب الأضخم في التجارة العالمية ميزة أخرى تتوافر أيضا في منظمة التجارة العالمية، وهي أن مشاركة عدد أكبر من الأطراف يقلل سلطة وهيمنة أي دولة كبرى، مما يحد من قدرتها على إرغام مشاركيها في المفاوضات على الدخول في اتفاق غير متوازن.

موقف الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ يعد فريدا وعجيبا، لأن لها مصلحة وطنية قوية فيها، والآن لن تحصل عليها. وعندما تبدأ الشراكة عبر المحيط الهادئ في النجاح والازدهار بعد استثناء الولايات المتحدة منها؛ ستتمنى الشركات الأميركية حينها لو لم يحرمها ترمب من الاستمتاع بساعة الشاي في مضمار الغولف

وقد تكون هذه النقطة تحديدا هي السبب وراء رفض ترمب للشراكة عبر المحيط الهادئ، في ظل ما عُرف عنه من ولع بـ"عقد الصفقات"، إضافة إلى وعوده باتباع سياسة تجارية تقوم على مبدأ "أميركا أولاً". لذا فإن الاتفاقيات الثنائية -من وجهة نظره- تخول الولايات المتحدة كقوة سياسية واقتصادية مهيمنة وضعا أقوى عند التفاوض والمساومة.

لكن النقطة التي يعجز ترمب عن إدراكها هي أن الولايات المتحدة قد تنجح في تخويف وإرهاب دولة صغيرة على مائدة التفاوض، لكن هذه الأخيرة قد تعترض وتنسحب أيضا.

والأهم من ذلك هو أن المنافع والمكاسب التي قد تجنيها الولايات المتحدة من أي اتفاق ثنائي لن تفوق بالضرورة المكاسب المحتملة من تلك الاتفاقيات الأكبر نطاقا، حتى ولو استطاعت أميركا استخدام ثقلها لوضع بنود أكثر انحيازا لمصالحها في أي سياق للتفاوض الثنائي.

وينطبق هذا بالتأكيد على الشراكة عبر المحيط الهادئ، التي احتوت على بنود كانت تصب في مصلحة الاقتصاد الأميركي بدرجة كبيرة. وأذكر هنا -على وجه الخصوص- أن الاتفاقية كانت ستعطي الشركات الأميركية حق الدخول إلى أسواق كانت مغلقة أمامها لفترة طويلة.

كما كانت البنود المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية والمحاسبة وحل النزاعات ستنحاز كثيرا لمصلحة وول ستريت والمحامين الأميركيين، لدرجة فجرت الانتقادات بسبب الظلم الواقع على الأطراف الأخرى. لكن تمت الموافقة على تلك البنود بناء على توقعات بأنها كانت ستجبر الصين على الالتزام بتلك المعايير في النهاية.

وفي هذا السياق، أذكر أن أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا جاجديش باجواتي قال لي ذات مرة "إن الشراكة عبر المحيط الهادئ تشبه إلى حد ما السماح لأشخاص بلعب الغولف في نادٍ معين، مقابل الذهاب إلى كنيسة بعينها في عطلة نهاية الأسبوع".

فالموقعون على الاتفاق انجذبوا إليه بسبب لعب الغولف الذي يتمثل هنا في التجارة الموسعة وتدفقات الاستثمار، لكنهم لم يستطيعوا تحاشي الاضطرار لقبول القواعد التي كانت تصب في مصلحة الولايات المتحدة، أملا في أن يساعد هذا القربان في تقييد سلوك الصين.

إن موقف الولايات المتحدة -في هذا السياق- يعد فريدا وعجيبا، لأن لها مصلحة وطنية قوية في كل من ملعب الغولف والكنيسة. والآن لن تحصل على أي منهما. وعندما تبدأ الشراكة عبر المحيط الهادئ في النجاح والازدهار بعد استثناء الولايات المتحدة منها؛ ستتمنى الشركات الأميركية حينها لو لم يحرمها ترمب من الاستمتاع بساعة الشاي في مضمار الغولف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.