الخروج البريطاني أو الانهيار؟

A Union Jack flag flutters next to European Union flags ahead a visits of the British Prime Minister David Cameron at the European Commission in Brussels, Belgium, 29 January 2016. Cameron arived in Brussels for unscheduled talks on a Brexit referendum.

حتى بعد أن تخلت عن إمبراطوريتها، ترددت المملكة المتحدة عقودا من الزمن قبل أن تنضم إلى أوروبا. ولكنها فعلت في نهاية المطاف، وخلال نصف القرن الماضي أصبحت من أنصار توسيع الاتحاد الأوروبي وأكبر مؤيدي سياسات الاتحاد الأوروبي الرئيسية مثل السوق الموحدة.

ولكن قريبا يمر عام كامل منذ قررت المملكة المتحدة -بأغلبية ضئيلة- أن تلقي بكل هذا وراء ظهرها. خلال الشهور المنصرمة، قيل لنا مرارا وتكرارا إن "خروج بريطانيا يعني خروج بريطانيا"، وهي العبارة التي تجعل المرء عاجزا عن فهم معنى الخروج البريطاني حقا.

ولكن الآن بعد أن استحضرت المملكة المتحدة المادة 50 من معاهدة لشبونة، بدأ الضباب ينقشع. وقد أوضحت المملكة المتحدة بعض أهدافها من ترك الكتلة، وبوسعنا أن نبدأ في تكوين فكرة عن كيفية تنفيذ العملية على مدار السنوات القليلة المقبلة.

بادئ ذي بدء، نحن نعلم أن الطلاق لن يكون سهلا. وبدلا من محاكاة ترتيب على غرار ذلك الذي تبنته النرويج أو تركيا، حيث تحتفظ المملكة المتحدة ببعض القدرة على الوصول إلى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي؛ اختارت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي"الخروج الصعب".

حتى الآن، زود المجلس الأوروبي كبير مفاوضيه ميشال بارنييه بتفويض لا يتجاوز مرحلة الطلاق في هذه العملية. وهو لا يعتزم توسيع هذا التفويض بحيث يشمل المحادثات حول الشراكة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في المستقبل، إلى أن تقترب المرحلة الأولى من الانتهاء

وأعلنت بوضوح أن السيطرة على الهجرة والخروج من ولاية محكمة العدل الأوروبية هما هدفاها الرئيسيان. ومع فوز حزبها المحافظ بالانتخابات العامة المنظمة يوم 8 يونيو/حزيران الجاري، يكاد يكون من المؤكد أن المملكة المتحدة ستبقى على مسارها هذا.

في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، ستكون حكومة تيريزا ماي راغبة في مناقشة شراكة جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي جنبا إلى جنب مع شروط الطلاق.

ولكن حتى الآن، زود المجلس الأوروبي كبير مفاوضيه ميشال بارنييه بتفويض لا يتجاوز مرحلة الطلاق في هذه العملية. وهو لا يعتزم توسيع هذا التفويض بحيث يشمل المحادثات حول الشراكة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في المستقبل، إلى أن تقترب المرحلة الأولى من الانتهاء.

علاوة على ذلك، تطالب وزارات مالية الدول السبع والعشرين الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بأن تقوم بريطانيا بتسوية التزاماتها المالية المستحقة للكتلة، خشية أن تتحمل فاتورتها في وقت لاحق. ولن يخلو الأمر من مساومات حول ما تدين به لندن؛ ولكن من حيث المبدأ، لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من تغيير الكثير بشأن هذه المسألة.

وعلى هذا، يكاد المرء يجزم بأن المملكة المتحدة ستترك الاتحاد الأوروبي رسميا بحلول نهاية مارس/آذار 2019، وأنها لن تتوصل إلى اتفاق نهائي بشأن شراكة جديدة قريبا.

وما لم يتم التوصل إلى اتفاق منفصل بشأن شكل ما من أشكال الترتيب الانتقالي، فربما تكون المملكة المتحدة في طريقها إلى خروج بالغ القسوة: تعريفات جديدة، وعلاقات مؤسسية مقطوعة، وتوترات دبلوماسية.

من ناحية أخرى وفي ظل مثل هذا الترتيب؛ يُصبِح بوسع المملكة المتحدة أن ترحل مع تسوية طلاق معقولة تشمل مبادئ توجيهية لشراكة جديدة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ويمكن مناقشتها في جولة أخرى من المفاوضات. وعلى افتراض حسن النية على الجانبين، فربما تنتهي هذه المفاوضات بحلول عام 2022.

من المرجح أن أي شراكة جديدة ناشئة بين الطرفين ستكون شبيهة بالترتيب بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي: شيء من قبيل اتفاقية تجارة حرة عميقة وشاملة، إلى جانب اتفاقيات إضافية تغطي قطاعات معقدة مثل النقل والزراعة.

ولكن في حين كانت اتفاقية التجارة الحرة العميقة والشاملة نعمة للاقتصاد الأوكراني، فإن أي اتفاق مماثل مع المملكة المتحدة يمثل خطوة كبيرة إلى الخلف، خاصة أنه سيتطلب نظاما حدوديا جديدا ومن شأنه أن يعطل سلاسل القيمة المتكاملة التي يعتمد عليها العديد من الشركات البريطانية.

وستضطر المملكة المتحدة أيضا إلى إنشاء عدد من الهيئات الجديدة لإدارة القضايا التنظيمية التي يشرف عليها الاتحاد الأوروبي حاليا، مثل السلامة النووية، واختبار المستحضرات الصيدلانية، والطيران، والمعايير الغذائية.

لا يجوز لنا أن نغفل عن حقيقة مفادها أننا في الاتحاد الأوروبي في احتياج إلى بعضنا بعضا. ففي غضون عشرين عاما من الآن، سنمثل ما لا يزيد على 4% من سكان العالم. ويتعين على الاتحاد الأوروبي -وفي القلب منه المحور الفرنسي الألماني المتجدد- أن يتعامل مع التحديات الأخرى العديدة التي تواجهه

ولأن واحدة من أهم أولويات المملكة المتحدة هي الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي (لا توجد علاقة أخرى على نفس القدر من الأهمية)؛ فإن أي هيئات أو وكالات جديدة تنشئها لا بد من أن تدعم المعايير التي سيطالب بها الاتحاد الأوروبي.

وإلى جانب ذلك، سيكون لزاما على المملكة المتحدة أن تتبع ترتيبات فردية مع كل الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي هي طرف في أي من الاتفاقيات التجارية الثماني والأربعين بين الاتحاد الأوروبي والعالَم الخارجي.

ذات يوم دارت أحاديث كثيرة حول اتفاقية تجارة حرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ولكن الحماس تراجع، والآن يستمع المرء إلى أحاديث عن انضمام المملكة المتحدة إلى شكل ما من الاتفاقيات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في وقت لاحق.

من بين الأولويات الأخرى على أجندة المفاوضات هناك ما يقارب خمسة ملايين من مواطني الاتحاد الأوروبي الذي وجدوا أنفسهم فجأة على الجانب الخطأ من التقسيم الجديد، والذين سيحتاجون إلى معالجة حقوقهم الفورية وآفاقهم المستقبلية. ويقيم أغلب هؤلاء في المملكة المتحدة، كما يساهم أغلبهم في اقتصاد المملكة المتحدة. ومثالا، يوظف بنك باركليز وحده نحو 3000 مواطن من دول الاتحاد الأوروبي.

بيد أن الشيطان يكمن في التفاصيل؛ إذ تُصِر حكومة تيريزا ماي على رغبتها بالتحكم في الهجرة، ولكن لا أحد يريد حقا أن يرى حواجز جديدة تتعلق بالتأشيرة في أوروبا.

وفي كل الأحوال، ستضطر شركات عديدة إلى البدء في إجراء تعديلات، وخاصة في صناعات السيارات والفضاء، والتي تتسم بالتكامل بشكل كبير عبر الحدود.

الواقع أن شركة لويدز أوف لندن تقوم بالفعل بالتأسيس لعملياتها داخل الاتحاد الأوروبي؛ كما أعلن بنك غولدمان ساكس نقل بعض الوظائف بعيدا عن لندن.

وأنا آمل مخلصا أن يتجنب الجميع الخروج الوحشي في ربيع 2019، وأن تتحقق "الشراكة العميقة الخاصة" التي تتحدث عنها المملكة المتحدة بحلول ربيع 2021. ولكن بعد المحادثات الحادة في الأسابيع الأخيرة، لا يستطيع المرء أن يجزم يقينا بأي نتيجة.

أما عن بقية دول الاتحاد الأوروبي، فلا يجوز لنا أن نغفل عن حقيقة مفادها أننا في احتياج إلى بعضنا بعضا. ففي غضون عشرين عاما من الآن، سنمثل ما لا يزيد على 4% من سكان العالم. ويتعين على الاتحاد الأوروبي -وفي القلب منه المحور الفرنسي الألماني المتجدد- أن يتعامل مع التحديات الأخرى العديدة التي تواجهه، وأن يرسم خريطة واضحة لمستقبله.

ويَصدُق نفس القول على المملكة المتحدة، التي يتعين عليها أن تقرر ما إن كانت لا تزال تريد أن تكون جزءا من أوروبا وإن كانت خارج الاتحاد الأوروبي؛ أم أن الخروج البريطاني يعني الانهيار والتفكك في حقيقة الأمر؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.