تساؤلات فكرية في أزمة الديمقراطية اللاتينية

Demonstrators build barricades during a rally against Venezuela's President Nicolas Maduro in Caracas, Venezuela April 24, 2017. REUTERS/Carlos Garcia Rawlins

ينقسم الشارع الفنزويلي اليوم بصورة حادة بين مؤيدي الرئيس نيكولاس مادورو -الذي خلف الزعيم المؤسس للديمقراطية الاشتراكية الجديدة في فنزويلا هوغو شافيز– والمعارضة المتأثرة بالديمقراطية الليبرالية الغربية، وتيارات يسارية أخرى. ويصطف الجانبان فيما يشبه بداية حرب أهلية، فقد فيها بالفعل عدد من الشباب أروحهم في المظاهرات الاحتجاجية المتوترة.

وفي البرازيل استمر التوتر بعد عزل الرئيسة اليسارية المنتخبة ديلما روسيف بتهمة تدور حولها الشكوك، وهي التلاعب بإخفاء الحسابات العامة للدولة. وهي مناضلة في صفوف حركة اليسار الجديد بأميركا اللاتينية التي قادها -بنجاح وتوازن مدني- الرئيس السابق لولا داسيلفا، وبمشروعه عبرت البرازيل أزمة إفلاسوانقسام سياسي حادّ.

نجح لولا داسيلفا في إقرار مشروعات اقتصادية كبرى عززت الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وسلك مع الغرب والهيمنة الأميركية برنامج الطريق الثالث، الذي يُجنب البرازيل كلفة مصادمة واشنطن وحلفائها، لكن دون أن يتنازل لولا عن قيم الاستقلال الوطني واليسار القومي اللاتيني

نجح لولا في إقرار مشروعات اقتصادية كبرى عززت الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وسلك مع الغرب والهيمنة الأميركية برنامج الطريق الثالث، الذي يُجنب البرازيل كلفة مصادمة واشنطن وحلفائها، لكن دون أن يتنازل لولا عن قيم الاستقلال الوطني واليسار القومي اللاتيني.

ولكن عودة الفوضى -التي بدأت تزامنا مع تنظيم المونديال السابق- والصعوبات الاقتصادية تُطيح اليوم بهذه التجربة، كما أنها تُهدد استقرار فنزويلا لتتحول إلى دولة فاشلة، وتنتقل توترات وتصدعات التجربة إلى بقية أميركا اللاتينية.

وهي الدول التي حكم فيها هذا العهد اليساري الجديد، المنتمي أو المتأثر بقيم الثورة البولفارية للتحرير، وحركة البحث عن حرية أميركا اللاتينية، من داخلها وأمام الحديقة الخلفية التي حاصرتهم فيها واشنطن لعقود، ثم اخترقوها لأول مرة بكفاح سياسي في عقد اجتماعي يُنظم الحياة السياسية، والتنافس وفق عقد دستوري بين التيارات، لكنه اليوم يتصدع بصورة كبيرة.

 فهل فشلت هذه التجربة الإنسانية؟

الجواب عن هذا السؤال لن يُستكمل في هذا المقال، وإنما القصد البحث عن الزوايا الفكرية المهمة لفهم أزمات الكفاح الإنساني للحريات والدولة المدنية المستقلة، التي تحقق الرفاه والحق السياسي والعدالة الاجتماعية، ضمن الهوية الفكرية القومية الشاملة للشعوب.

وكيف تستفيد التجارب الإنسانية في عالم الجنوب من بعضها البعض، وكيف نستفيد في الشرق المسلم من رسائل الأزمة اللاتينية، قبل الحكم على مستقبلها القادم الذي لم تنته فصوله بعدُ.

وسنسجل هنا عناصر رئيسية كمقدمة لفهم أزمة هذه التجربة:

1- دول أميركا اللاتينية وقعت تحت حصار حقيقي ظالم من قبل الولايات المتحدة الأميركية، بحكم أنها حديقة خلفية لمصالح البيت الأبيض الذي تدخل في إراداتها قهريا منذ عقود، وعاشت كفاحا دمويا كبيرا قبل التحول الأخير، وقضية الحديقة الخلفية للغرب عموما، أو واشنطن خصوصا، متكررة في الشرق، نفذتها قديما عبر حكومات موالية، أو ضغوط وحروب موسمية، حتى تضمن عدم خروج هذه الحدائق من مصالحها.

وما يجري اليوم من إعادة تقويم للتوازن الإستراتيجي للأميركيين في العالم يأتي ضمن هذا السياق، وبالتالي كيف تتحرر إرادة الشعوب من مستبديها، وكيف تعبر بين حروب تفرض عليها، أو تُستثمر على حسابها بعد تغيير بوصلتها، وكيف يؤمّن الطريق الثالث للشعوب، قضية مهمة أفرزتها تجربة أميركا اللاتينية.

2- هذه المعارضات -التي تنطلق في شوارع عواصم أميركا اللاتينية- ليست معارضات عميلة للأميركيين وإن وُجد فيها منظمات موجَّهة، لكن ما حرّك الشارع المعارض وعززه هو القمع والتضييق على الحريات والاستفراد بالسلطات بحسب مراقبين، واستخدام الاشتراكية الديمقراطية تترّساً أمام مطالب الحريات الأخرى.

الوجودية الغربية لم تضمن أبداً حق التوازن الإنساني بين شعوب الأرض وحرياتهم، رغم قوتها في فكر المشرّع الغربي، فلا عدالة تعيشها البشرية اليوم، ولا إنصاف من الغرب، لا مع الشرق ولا مع أميركا اللاتينية ولا مع الجنوب، ولا مع أفريقيا

وكما في نموذج الرئيس الفنزويلي مادورا؛ فإن تحشيد الشارع -بعد فوزه خلفا لشافيز- لم يوصله إلى احتواء الأزمة بل صعّدها عليه، وهو درس ينتقل من الشرق إلى الجنوب، فالفوز الديمقراطي الأول ليس ضمانة للحكم الدائم، والتحشيد الشعبي لا يكفي لضمان صيانة الفوز الديمقراطي، فقد يُقلب الأمر من جديد، وتفقد الديمقراطية الوليدة فرصتها.

3-  السؤال هنا بين الشرق والجنوب هو: كيف يتحول الفوز الديمقراطي إلى تنظيم اجتماعي واستقرار سياسي وبرنامج حوار مكثف، وشراكة سياسية تنتقل بعدها الإرادة الديمقراطية إلى مستوى القوة الذاتية بين شعبها وتحقق نهوضا قومياً؟

ويُرسّخ التعامل بين الحكم والمعارضة عبر التعاقد الدستوري وآلياته في التنافس، وكيف تضبط بعدها مسارات الاحتجاجات الشاملة التي تواجه مؤسسات الدولة التنموية ذات المصالح الحيوية للشعوب، ولا تكون رهينة للصراع السياسي، فهناك فرق بين تدمير أو حصار المؤسسة التنموية والمظاهرة الاحتجاجية المدنية.

بعد هذه العناصر نحتاج أن نتساءل عن سبب استقرار الدولة المدنية في الغرب مقابل التجارب الكفاحية للجنوب، ونلاحظ الآتي:

1- الدولة المدنية في الغرب خرجت من صراعات عسكرية وحروب دموية، لكن باستقلال قوتها أو وقوعها ضمن دائرة تحالفات سياسية وعسكرية ضمنت لها عدم تغول أنظمة هيمنة أكبر منها، ثم تحولت التجربة إلى مدافعة مدنية سياسية عميقة التزمت إلى اليوم بهذا التوازن السياسي. مع ملاحظة الفارق الكبير بين الديمقراطية الأميركية والديمقراطية الأوروبية، من حيث تدخل الرأسمالية المتوحشة في صوت الفرد والضغط على مصالحه.

2-  الوجودية الليبرالية والوجودية الاشتراكية -بكل مسالكها في الدين والأسرة والفكر والمجتمع- موجودة لدى الفريقين المتصارعين في أميركا اللاتينية، ويؤمَن بها ربما أكثر من الإيمان بالدين المسيحي نفسه على سبيل المثال، وإن بقي خطاب الروح المسيحي حاضرا في المجتمع، ومع ذلك لم يضمن هذا التوافق على الفكر الوجودي المنكِر للدين حالة استقرار ولا توافقاً ديمقراطياً.

كما أن الوجودية الغربية لم تضمن أبداً حق التوازن الإنساني بين شعوب الأرض وحرياتهم، رغم قوتها في فكر المشرّع الغربي، فلا عدالة تعيشها البشرية اليوم، ولا إنصاف من الغرب، لا مع الشرق ولا مع أميركا اللاتينية ولا مع الجنوب، ولا مع أفريقيا.

ولم يمنع حضور الوجودية الغربية وتطرفها في قضايا ضد الأسرة والجنس البشري، ولا تحريضها للحريات الشخصية ضد حرية المجتمعات الأخرى من خلال إهانة قميها وعدم احترام اختلافها، وكون هذا الاحترام توافقا اجتماعيا إنسانيا، وهو توافق لا يمنع النقد العلمي والحواري، وإنما يمنع التشهير والتحريض على الدين المختلف أو المهاجر للغرب.

انقسمت الكنيسة بين أميركا اللاتينية -في تيار جديد يرى حق الكفاح الديمقراطي والدولة الحرة- ومشروع التبشير الكنسي الغربي، الذي يعتمد مصالح دوله ونفوذ الكنيسة على القرار السياسي أو الاجتماعي، وهذا لا يعني دمغ كل تلك المؤسسات الكنسية في الغرب بذلك

لم يمنع كل ذلك من وجود تطرف تبشيري مسيحي يدعم الحرب والتدخلات المختلفة، وتحول له تبرعات ضخمة تستخدم لتعزيز هذا الدعم باسم خطاب السيد المسيح للعالم، وبعض هذه التبرعات ساندت حروبا ولم توقفها بعد اشتعالها داخل من دعمتهم، كحالة جنوب السودان.

وانقسمت الكنيسة بين أميركا اللاتينية -في تيار جديد يرى حق الكفاح الديمقراطي والدولة الحرة- ومشروع التبشير الكنسي الغربي، الذي يعتمد مصالح دوله ونفوذ الكنيسة على القرار السياسي أو الاجتماعي، وهذا لا يعني دمغ كل تلك المؤسسات الكنسية في الغرب بذلك، فهناك جهود إنسانية وتواصلية مع الشعوب رائعة.

لكننا هنا نستعرض أسئلة العقل الإنساني الذي يكثّف حوله الاتهامات، عبر توجيه معركة الحرية مع الإسلام الذي اختُطف مصطلحه، وصُنعت نسخ منه لدعم الاستبداد المحلي أو الدولي، أو صَنع منه الغلو دينا مختلفا، يفتن الناس ما بين حقوقهم وحرياتهم وحياتهم الشخصية، وقُدم نموذجا يتحد العالم عليه باسم الخلاص والحرية، في حين أن من شارك في صنع هذه النسخ -مع مسؤولية جهل المسلمين المؤكدة- هو هذه الفلسفة الاستعمارية للغرب وحروبها الموجهة.

ويتواتر التنظير الفلسفي إلى اليوم في فضاء الدولة المدنية والحريات عبر فلاسفة كبار، من فريدريك نيتشه إلى الإيطالي أنطونيو نيغري الذي تغيرت معالم فكره من منظمة "الألوية الحمر"، وحتى كتابه "العنصر المشترك بين البشر"، في منعطفات كبيرة. ولا تزال نماذج الديمقراطية تنمّط باستمرار كديمقراطية ليبرالية واشتراكية وشيوعية ووجودية، دون ضمانة لتحقيقها لدولة مدنية حقوقية لشعب جديد.

وهنا نجد أن القاعدة الفلسفية لتحقيق مفاهيم دولة العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية والرفاه ليست منوطة بالوجودية الإلحادية ولا بهدم القيم والأسرة، بل إن استدعاء الروح والقيم في ضمير المواطنة هو دافع إيجابي رشيد لاستقرار الإنسان والدولة.

وهنا تكمن أهمية البعث الروحي -الذي يستقل به الدين الإسلامي الحق- عن هذا الركام من التحريف والخطاب المضلل لخدمة الاستبداد الديني والسياسي، ولذلك قدمنا سابقاً مفاهيم تأسيس ما تتوق إليه الروح والمواطنة العادلة في نموذج الدولة المدنية وعدالتها الاجتماعية.

ولم يكن استدعاء نموذج عمر بن عبد العزيز لتكريس ذات الأدوات، وإنما يختلف الزمن وروح عصره، ولكنها تجربة تاريخية موثقة، ومعها نصٌ يحمل كنزاً من التجديد في فهم مقاصد التشريع تطابقت معه التجربة، وأن هذه الرحلة البشرية لا يُمكن لها أن تُلغي حق فلسفة العقل الإسلامي في عرض فكرتها للدولة الفاضلة للشرق ولشعوب العالم.

في حين لم تستقر الفلسفة الوجودية -سواءً الاشتراكية أو الليبرالية- على نموذج يُستنسخ، بل صارت نماذج تتصارع، وهذا لا يُلغي أبداً المشتركات الإنسانية التي وصلت إليها التجربة الإنسانية الغربية في التفكير؛ فإن سياق الإيمان الروحي المطمئن حين يستسقى من أصل معينه الصافي وعمق تأمله الفكري، سيدرك الفارق الدقيق لمعنى السعادة الروحية والسكينة في الدولة العادلة الرشيدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.