استفتاء كردستان العراق.. أكراد سوريا بين الانفصال والمواطنة

فصائل كردية تتفق في ريف الحسكة على السعي من أجل إقامة نظام فدرالي في شمال سوريا

أكراد سوريا ونماذج الجوار
رسالة كردستان والمغزى الثنائي 

فتح قرار الحكومة العراقية منح الأكراد الحكم الذاتي في عام 1970 -بعد تمرد مسلح على الدولة دام قرابة ثلاثة عقود- شهية أكراد تركيا لحمل السلاح ضد الدولة عام 1984، والتقدم بمطالب تتراوح بين الحكم الذاتي والانفصال.

وقد شمل الحكم الذاتي للأكراد في العراق حزمة حقوق تضمنت ميزانية مالية ذاتية، ونصا دستورياً على أن القومية الكردية تشكل -إلى جانب القومية العربية- القوميتين الرئيسيتين للشعب العراقي، وجعل اللغة الكردية لغة التعليم في المناطق الكردية، ولغة يدرسها التلاميذ في مدارس الدولة في المناطق العربية.

كما تضمنت هذه الحقوق بثا إذاعياً والسماح بصحافة ناطقة باللغة الكردية، والحق في الإبقاء على المليشيا الكردية (البيشمركه) وظهورها في شوارع العاصمة بزيها المميز، وتشكيل أحزاب كردية (رغم أنها صورية كحال الأحزاب الأخرى). وفي المقابل؛ احتفظت الدولة بمراقبة الحدود الدولية وإدارة قطاع النفط.

بدا العرض سخياً وجديراً بالاعتبار بالنسبة للأكراد لكن أفشله غياب الثقة بين الطرفين، وما زال يعتبر سخياً إذا ما قيس بما حصل عليه أكراد تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، واعتبر باعثاً للاستبشار عند الأكراد في أجواء الثقة التي أوجدها العهد السياسي الجديد في تركيا.

لم يكن قرار الحكم الذاتي للأكراد في العراق محط ارتياح بالنسبة للحكومة التركية، فحذرت نظيرتها العراقية من التوغل في طريق منح الحقوق السياسية للأكراد، في وقت كان فيه الطرف الآخر من الحدود (تركيا) يمنع الكردي من التحدث أو القراءة أو الغناء بلغته، وعلى جاهزية لاستقبال "عدوى" الانفصال.

أكراد سوريا ونماذج الجوار
يشكل استفتاء أكراد العراق بشأن الاستقلال حافزاً لأكراد سوريا على التمرد أكبر مما شكله الحكم الذاتي لأكراد تركيا، الذين كانت معركتهم ضد دولة مستقرة وجيش قوي، وقرار معركتهم -التي بدأت في 1984- سبق ذلك الوقت الذي كان فترة استقرار سياسي وأمني في الدول الرئيسية الثلاث (تركيا والعراق وإيران).

يتحرك أكراد سوريا في حالة اللادولة وخارج سيادة وأمن الدولة، وفي منطقة تبحث شعوبها عن هوية سياسية جديدة، وهي بمجملها عوامل مثالية لمشروع انفصال ينتظر شرارة الاشتعال. وما يذكي هذا المنحى هو مرور المنطقة بمرحلة تقاسمات مصالح دولية لا تقل عمقاً عن تلك التي تلت الحرب العالمية الأولى

وفي المقابل؛ يتحرك أكراد سوريا في حالة اللادولة وخارج سيادة وأمن الدولة، وفي منطقة تبحث شعوبها عن هوية سياسية جديدة، وهي بمجملها عوامل مثالية لمشروع انفصال ينتظر شرارة الاشتعال. وما يذكي هذا المنحى هو مرور المنطقة بمرحلة تقاسمات مصالح دولية لا تقل عمقاً عن تلك التي تلت الحرب العالمية الأولى، لكنها توظف الأقليات بدل الدبابة والمدفع.

وقول وزير الخارجية الأميركي لنظيره التركي إن بلاده تزود الأكراد بالسلاح خشية استمالة الروس لهم في حال امتناعها؛ دليل على أن مكونات المنطقة آلية تجاذب وتفاوض بين الكبار ليس إلا، وأن الخريطة السياسية على الأرض يمكن أن تتبدل وبشكل مفاجئ، وقد كانت الموصل بعد الحرب العالمية الأولى من حصة فرنسا لبضعة أسابيع ثم أصبحت من حصة بريطانيا.

سيفتح استفتاء أكراد العراق -الذي لن يحصل إلا بضوء أخضر أميركي- شهية أكراد سوريا لانفصال لا مناص منه. وهناك إجماع على أن الأحزاب القومية الكردية سارعت -على مر العهود السياسية- إلى الانخراط في خلافات الكبار لمصالحها السياسية، ورفعت العلم الكردي على أرض معركة عسكرية يشترك علمها معها في الشكل "العسكري" ويختلف في الغاية "الفكرية".

والإجماع الآخر هو أن تركيا تضرب قواعد حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا لأسباب تعتبرها خطاً أحمر في أمنها القومي، وهي عدم السماح بقيام كيان سياسي كردي خارج حدودها يكون مخلباً دولياً وقاعدة لتغذية العمليات الانفصالية داخل أراضيها، وهو مبدأ عام من الناحية النظرية على الأقل.

رسالة كردستان والمغزى الثنائي
تتجاذب المجتمع الكردي قناعتان: الأولى منشؤها المحيط الذي تغيب عنه الدولة المركزية، والثانية في المحيط الذي لا تزال فيه دولة مركزية ويتأثر بأدائها السياسي.

تقوم القناعة الأولى على فكرة الاستقلال، والثانية على أن المواطنة في دولة الحكومة المركزية أكثر ضمانة لمستقبل الأكراد من مغامرة إنشاء كيان سياسي جديد، ستقع قواه السياسية بالضرورة تحت تأثير القوى الخارجية، وتزج بمجتمعه في صراعات ليس لها نهاية، وربما في حروب أهلية.

وقد دل تصاعد الصوت الكردي الداعم للدولة المركزية في تركيا بصيغتها الرئاسية -في الاستفتاء الرئاسي الأخير- على جنوح نسبة متصاعدة من الشارع الكردي إلى المواطنة.

لن يكون الكرد إلا كرداً، ولن يكون العرب إلا عرباً، وليس من حل كردي لمشكلة كردية، ولا حل عربي لمشكلة عربية، وإنما هناك حلول حضارية تتم ضمن الحضارة الواحدة لمشكلة واحدة، كالحلول التي يوجدها الحاسوب ويقرؤها الناس بلغاتهم المختلفة

رجل الشارع الكردي أقل وثوقاً اليوم -أمام ما يراه حوله من تبعات انهيار الدول والحكومات المركزية، وتلاعب القوى الخارجية بشظاياها السياسية- بحكمة إنشاء دولة جديدة.

وهو أقل اطمئناناً من أنها ستنجح -إلى جانب تلبية العواطف القومية- في تلبية مصالحه الحيوية، ومستقبل أبنائه الذين لم يمنعهم وجود إقليم كردي شبه مستقل من الهجرة إلى الخارج، أو يحمل المهاجرين منهم على العودة إليه.

الكيان السياسي في كردستان العراق ثنائي الدلالة؛ فهو -إلى جانب كونه تحقيقا لهدف قومي قديم- يعاني من هشاشة نظامه الاقتصادي والسياسي، وبقائه -بعد ربع قرن على نشوئه- منشطراً على امتداد صدع المصالح الإقليمية. وهي كلها قنابل موقوتة تتحكم القوى الخارجية في ساعتها الزمنية، ولا تبعث على الاطمئنان في المدى المتوسط والبعيد وربما القريب أيضاً.

ورسالة استفتاء أكراد العراق إلى أكراد سوريا ثنائية المغزى؛ مغزىً بعيد النظر معلق بضرورات عصر التكتلات ويتلقاه المجتمع المدني الكردي، ومغزى معلق بالنزاع المسلح والتنافس الأميركي الروسي وتتلقاه الفصائل المقاتلة الكردية.

لن يكون الكرد إلا كرداً، ولن يكون العرب إلا عرباً، وليس من حل كردي لمشكلة كردية، ولا حل عربي لمشكلة عربية، وإنما هناك حلول حضارية تتم ضمن الحضارة الواحدة لمشكلة واحدة، كالحلول التي يوجدها الحاسوب ويقرؤها الناس بلغاتهم المختلفة.

وهناك النموذج الذي آبت إليه تركيا بعد تسلم حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002، وتصويب المسار السياسي والاجتماعي الذي وجدت تركيا نفسه عليه بعد الحرب العالمية الأولى، والذي يتيح لمكونات الشعب -بصرف النظر عن القومية- فرصة بلوغ أرفع مراكز الدولة وأكثرها حساسية، بشرط احترامها لنظام الحكومة المركزية.

وهذا النموذج ليس تركياً وإنما هو نموذج مجتمعات المنطقة قبل اضطرابها، ويمتص مسوغات المشاريع القومية الانفصالية بالمنطقة في عصر التكتلات، وقد كان لمثله نتائج مماثلة في العراق وسوريا في مطلع فترة نشوء الدولة المعاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.