شعبوي فرنسا المعادي للشعبوية

PARIS, FRANCE - APRIL 23: Founder and Leader of the political movement 'En Marche !' Emmanuel Macron speaks after winning the lead percentage of votes in the first round of the French Presidential Elections at Parc des Expositions Porte de Versailles on April 23, 2017 in Paris, France. Macron and National Front Party Leader Marine Le Pen, who received second largest vote, will compete in the next round of the French Presidential Elections on May 7 to decide the next

لا يزال الديمقراطيون بكافة أطيافهم يحتفلون بفوز الوسطي المدافع عن أوروبا إيمانويل ماكرون على مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، ليصبح بذلك رئيس فرنسا القادم. وبينما يعد فوز ماكرون نبأً سارا، فإنه لا ينبئ بهزيمة الشعوبية في أوروبا. بل على النقيض من ذلك، يمثل ماكرون نوعا من "الشعوبية المستنيرة" التي تأتي بمشكلاتها الخاصة بها.

كان ترشح ماكرون -وكذا لوبان- بمثابة توبيخ للأحزاب السياسية الرئيسية في فرنسا، فقد أقنع الناخبين بوعده بتطبيق النمط الإسكندنافي الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية ودولة الرعاية المرنة. ولكن آن الأوان أن نعترف بأن إسكندنافيا تجربة فريدة، وأن البرامج الناجحة هناك قد لا تكون قابلة للتكرار في أي مكان آخر.

ومع ذلك، قد لا تعتبر شعبوية ماكرون شيئا سيئا في مجمله على المدى القصير؛ فلربما في فرنسا وأماكن أخرى حاليا، لا يستطيع أن يهزم الشعبوي إلا شعبوي مثله. وإذا كان الأمر كذلك، فإن شعبوية ماكرون المستنيرة بالتأكيد أفضل من الشعبويةالقومية التي تؤيدها لوبان.

كان ترشح ماكرون -وكذا لوبان- بمثابة توبيخ للأحزاب السياسية الرئيسية في فرنسا، فقد أقنع الناخبين بوعده بتطبيق النمط الإسكندنافي الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية ودولة الرعاية المرنة. ولكن آن الأوان أن نعترف بأن إسكندنافيا تجربة فريدة، وأن البرامج الناجحة هناك قد لا تكون قابلة للتكرار في أي مكان آخر

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل تستطيع الشعبوية المستنيرة أن تلعب دورا في إبعاد الأنظمة السياسية عن الشعوبية تماما وباتجاه حلول حقيقية للمشكلات التي تواجه بلدانها؟

يتمثل الترياق الوحيد الحقيقي للشعبوية -والذي هو السبيل الوحيد الحقيقي لحل المشكلات التي يواجهها عامة الناس- في مزيد من العولمة السياسية. وعلى أي حال، فإن العولمة الاقتصادية بدون العولمة السياسية هي التي توّلد القومية.

يعد الشعبويون بإيقاف العولمة الاقتصادية؛ بيد أنهم -في الواقع- لا يستطيعون سوى إيقاف (أو عكس) العولمة السياسية. ومن ثم، فإن من شأن وصول الشعبويين إلى السلطة أن يخلق دينامية ذاتية التعزيز، وتتزايد فيها أهمية القومية.

ومع ذلك وكما يبرهن ماكرون؛ لا تحتاج كل الشعبويات إلى أن تكون قومية. فمن الناحية التاريخية، لا تزال الشعبوية اليسارية أكثر شيوعا من الشعبوية اليمينية، وهي القوة التي تعكس -في الغرب حاليا وفي عيون العديد من المواطنين- تصور أن اليسار أصبح نخبويا.

ومن ثم، قد يسوق البعض حجة مفادها أن الشعبوية يمكن استردادها من القوميين، واستخدامها للدفع قُدُماً بعملية التكامل الأوروبي والعولمة السياسية.

ولكن رغم الحماس الواسع النطاق بشأن فوز ماكرون؛ فإن معظمنا يظل يؤمنون -في اللاوعي- بحتمية القدر فيما يتعلق بالعولمة السياسية، فمن ذا الذي يؤمن اليوم بالديمقراطية العالمية أو حتى بالولايات المتحدة الأوروبية؟

وقديما -قبل الموجة الحالية من الشعبوية القومية- رفض الأوروبيون دستورا أوروبيا محدودا. ومقارنة بهذا الطموح السابق؛ تعتبر أكثر مقترحات ماكرون جرأة -من أجل التكامل في منطقة اليورو– لا تعدو في الواقع كونها تعديلا بسيطا.

وقد أوضحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -بعد تهنئتها ماكرون- أنها لن تنظر في أي تغييرات في السياسة الضريبية، وهو الموقف الذي من شأنه أن يعرقل إنشاء وزارة مالية خاصة بمنطقة اليورو.

تعزز الخبرة السابقة بالشعبوية المستنيرة هذا المنظور القاتم نوعا ما. فقد كان مؤسس الشعبوية المستنيرة هو دونالد تاسك (رئيس الوزراء البولندي الأسبق ويشغل الآن منصب رئيس المجلس الأوروبي) الذي ترك -مثل ماكرون- حزبا رئيسيا ليؤسس حركته الشعبية الخاصة به، حزب المنبر المدني.

ومثل حزب ماكرون "إلى الأمام"؛ شددت حركة تاسك على أهمية الشباب والتفاؤل والوعد باستغلال مواهب الناس وطاقاتهم. وبوصفه رئيس وزراء، كان تاسك يردّ على الأسئلة المتعلقة برؤيته السياسية فيقول مازحا إن أي شخص رأى رؤى يجب أن يذهب إلى الطبيب.

لقد اختار تاسك أناسا من اليسار واليمين ليشكل حكومته (وهو النهج الذي انعكس في ادعاء ماكرون بأن نموذج سياساته يتجاوز الانقسام بين اليسار واليمين). وحشد مجموعة متنوعة من الآراء والأفراد. بيد أن تاسك -مثل ماكرون- واجه تحديا هائلا من الشعبوية القومية، التي تمثلت ببولندا في حزب القانون والعدالة برئاسة الراحل ليخ كاتشينسكيوتوأمه باروسلاف، وهو الزعيم الفعلي الحالي لبولندا.

التقسيم المناسب إلى يسار ويمين هو الذي قد يضمن بقاء الديمقراطية الليبرالية، حيث يمنح ذلك الناخبين خيارات متعددة آمنة. بيد أن عناصر تلك التركيبة ممكنة فقط في إطار مجتمع سياسي يتمتع بسيادة اقتصادية، وهذا لن يكون ممكنا حتى يكون لدينا عولمة سياسية. وكل شيء يعود إلى نقطة البداية

وحتى بعد وصول تاسك إلى الحكم؛ فإن الإخوة كاتشينسكي هم من كان يحدد جدول أعمال النقاش السياسي، ويحددون نبرته. وحيث إن تاسك قد أُجبِر على البقاء في موقف دفاعي، فقد تشكلت السياسة البولندية من حزب القانون والعدالة والمعادين له.

وقد يجد ماكرون نفسه -في موقف مماثل- وقد أحاطت به مخاطر ثلاثة رئيسية. أولا، أن تستمر لوبان -التي طالبت في خطاب الاعتراف بالهزيمة الوطنيين بالالتزام تجاه "المعركة الحاسمة التي تنتظرهم"- في تحديد نبرة النقاش السياسي. وفي هذه الحالة، قد يُجبر ماكرون على انتهاج سياسة العزل والتطويق، التي تضم أولئك الذين تتفق وجهات نظرهم على قضية واحدة فقط: معارضة لوبان.

ثانيا، الضغط لإيقاف لوبان قد يُجبر ماكرون على التخلي عن الإصلاحات الجريئة، بدلا من المخاطرة بفقدان عدد أكبر من الناخبين أكثر مما يستطيع تحمل خسارته، وفتح الطريق أمام لوبان والجبهة الوطنية ليعززوا موقفهم.

ففي بولندا، أٌجريت الإصلاحات رغم أنف السياسة وبدلا من تنفيذ جدول أعمال طموح، لم ترق سياسة تاسك إلا إلى "الاحتفاظ بالماء الدافئ في الصنبور". وقد ينتهي المطاف بماكرون إلى نفس الوضع.

ثالثا، قد يساعد ماكرون دون قصد في إيصال الجبهة الوطنية إلى السلطة. وقد يصبح التقسيم السياسي الحالي بين الصواب والخطأ -بدلا من التقسيم بين اليمين واليسار- نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها، وحتى أفضل السياسيين من المحتم أن يقوم بارتكاب خطأ معين في وقت ما، ولو ببساطةٍ إثارة سأم جمهور الناخبين.

إذا ظلت لوبان المعارض الرئيسي لماكرون، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت قبل أن تصل إلى السلطة مثلما فعل ليخ كاتشينسكي، وستدمر وطنها. ومن ثم يكون ماكرون الحصن ضد لوبان والضامن لنجاحها في الوقت ذاته.

فقط التقسيم المناسب إلى يسار ويمين هو الذي قد يضمن بقاء الديمقراطية الليبرالية، حيث يمنح ذلك الناخبين خيارات متعددة آمنة. بيد أن عناصر تلك التركيبة ممكنة فقط في إطار مجتمع سياسي يتمتع بسيادة اقتصادية، وهذا لن يكون ممكنا حتى يكون لدينا عولمة سياسية. وكل شيء يعود إلى نقطة البداية.

ولندرك ما إن كنا نرى المد أو الجزر العالي للشعبوية في أوروبا، فإن نتائج الانتخابات الفردية لا تعني سوى القليل. يجب أن يظل التركيز على العوامل الهيكلية -والأهم من ذلك: العولمة الاقتصادية في غياب العولمة السياسية- فهي ما يعكس زيادة الشعوبية. وفي هذا الصدد، لم يتغير شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.