علاقة الأقباط بالسلطة.. تصدعات ومخاوف

A handout picture made available by the Egyptian Presidency showing Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi giving his condolonces to Pope Tawadros II of Alexandria, head of the Egyptian Coptic Orthodox Church, during the funeral service for the victims of the suicide bombing that killed 24 coptic christian, in front of the tomb of the unknown soldier, Cairo, Egypt, 12 December 2016. Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi announced that 22-year-old suicide bomber named

تصدع الدعم المسيحي للسيسي
العودة إلى الغيتو الكنسي 

على عكس ما كانت عليه العلاقة الحميمة بين الأقباط ونظام المشير عبد الفتاح السيسي عقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013؛ تبدو هذه العلاقة في الوقت الحالي معرضة لهزات متصاعدة بتزايد جرائم العنف الطائفي ضد الأقباط وممتلكاتهم وكنائسهم، وعدم استطاعة السلطات الحاكمة توفير الحماية التي وعدتهم بها مقابل دعمهم لها.

وقد تنوعت مظاهر الغضب القبطي المتصاعدة ضد النظام فشملت الهجوم المباشر على رأس النظام (السيسي) والهتاف برحيله، كما حدث في زيارته للكنيسة يوم 7 يناير/كانون الثاني 2016 للمشاركة مع الأقباط في احتفال عيد الميلاد، وتكرر ذلك في المظاهرات الغاضبة عقب تفجيرات كنائس البطرسية (11 ديسمبر/كانون الأول 2016).

حين شارك رأس الكنيسة المصرية البابا تواضروس في مشهد انقلاب 2013 لم يكن يستهدف مجرد اللقطة، بل بدا من ناحية مُمْتَنًّا للتخلص من حكم وُصف بـ"الإسلامي"، ومن ناحية أخرى باحثا عن أمان له ولطائفته توهّم أن قائد الانقلاب الجنرال السيسي قادر على تحقيقه

وكذلك مهاجمة رموز النظام مثل رئيس الوزراء ووزير الداخلية من قبل المسيحيين الغاضبين أمام الكنيسة، والاعتداء المباشر على إعلاميي النظام مثل أحمد موسى ولميس الحديدي وريهام سعيد، وهو ما تكرر بطرق أخرى إثر وقوع حادثيْ كنيستيْ طنطا والإسكندرية (9 أبريل/نيسان 2017 الماضي)، حيث تم الاعتداء المبرح على مساعد وزير الداخلية مدير أمن الغربية.

ومن مظاهر ذلك الغضب القبطي الامتناعُ عن المشاركة في استقبال السيسي مؤخرا في واشنطن، بل وتنظيم مظاهرات قبطية معارضة له، وظهور العديد من الأصوات الرافضة لاستمرار حكمه بين شباب الأقباط على صفحات التواصل الاجتماعي.

حين شارك رأس الكنيسة المصرية البابا تواضروس في مشهد انقلاب 2013 لم يكن يستهدف مجرد اللقطة، بل بدا من ناحية مُمْتَنًّا للتخلص من حكم وُصف بـ"الإسلامي"، ومن ناحية أخرى باحثا عن أمان له ولطائفته توهّم أن قائد الانقلاب الجنرال السيسي قادر على تحقيقه.

لكن الواقع بعد ذلك أثبت أن هذا الأمان لم يتحقق، بل إن نسبة الاعتداءات -التي تعرض لها الأقباط وبيوتهم وكنائسهم- تضاعفت في عهد السيسي فقاربت جملة ما وقع في 30 سنة سابقة، كما تضاعف عدد قتلى المسيحيين في أحداث عنف طائفي ليوازي جملة من قُتل منهم خلال نصف قرن تقريبا.

ويكفي لتأكيد ذلك أن نعرف أن عدد قتلى يوم واحد في كنيستيْ طنطا والإسكندرية بلغ 46 قتيلا وحوالي 150 جريحا، بينما بلغ عدد قتلى حادث كنيسة البطرسية 26 قتيلا و53 مصابا، وتم ذبح 21 مسيحيا مصريا في ليبيا (يوم 17 فبراير/شباط 2015).

وقتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ستة مسيحيين في سيناء خلال أسبوع واحد في فبراير/شباط الماضي، وقام بتهجير منازل عشرات الأسر المسيحية، ناهيك عن العديد من حالات التهجير والاعتداءات الأخرى في قرى الصعيد المصري.

تصدع الدعم المسيحي للسيسي
هذا الغضب المسيحي المتنامي من حكم السيسي مؤشر خطير، ذلك أنه يكشف تصدّع أحد الأركان الأساسية الداعمة لحكم الجنرال، والذي جاء متزامنا مع تصدع أعمدة أخرى سواء في مؤسسة الأزهر، أو في الوسط القضائي أو الإعلامي، أو بين رجال الأعمال.

وقد مثل تصدع الركن المسيحي أهمية خاصة، ذلك أنه كان يمتلك قوة الحشد الشعبي التي تجسدت بقوة في مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، وفي "جمعة التفويض" 26 يوليو/تموز 2013، وعبر المشاركة في الاستفتاء الدستوري والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وحتى مظاهرات الحفاوة به في الزيارات الخارجية خصوصا للولايات المتحدة، كما أن هذا الركن المسيحي يمتلك تأثيرا آخر وهو استدرار الدعم الدولي.

رغم كل محاولات القيادة الكنسية -وعلى رأسها البابا تواضروس- الحفاظ على الدعم المسيحي بل زيادته للسيسي الذي تعتبره الكنيسة خيارها الوحيد، فإن هذه الجهود تواجه صعوبات حقيقية، خاصة مع تراجع ثقة المسيحيين في قدرة السيسي على الوفاء بتعهداته لهم

ومن هنا تبدو خسارةُ السيسي لهذا الركن خسارةً حقيقيةً إذا استمر منحنى الغضب المسيحي في صعود، وهو مرشح لذلك فعلا؛ فرغم كل محاولات القيادة الكنسية -وعلى رأسها البابا تواضروس- الحفاظ على الدعم المسيحي بل زيادته للسيسي الذي تعتبره الكنيسة خيارها الوحيد، فإن هذه الجهود تواجه صعوبات حقيقية، خاصة مع تراجع ثقة المسيحيين في قدرة السيسي على الوفاء بتعهداته لهم وتحقيق الأمان الكامل لهم.

ومع تنامي الشعور بأن نظام السيسي لم يعد صالحا للاستمرار في حكم مصر عموما، إثر تصاعد حالات الغضب الشعبي (لأسباب اقتصادية) والنخبوي (لأسباب سياسية) ضده، فإن استمرار الرهان عليه يبدو عملا غير حكيم من وجهة نظر الكثير من النُّخب المسيحية والشباب المسيحي، بل إن استمرار الارتباط به والارتماء في حضنه يسبب المزيد من المشاكل للمسيحيين.

وفي مقابل الاعتداءات المتصاعدة التي تعرض لها الأقباط في عهد السيسي؛ فإنهم حققوا مكاسب سياسية ودينية عجزوا عن تحقيقها في العهود السابقة، ومن ذلك مثلا تخصيص حصة لهم في القوائم الحزبية لانتخابات البرلمان، وهو ما ضمن لهم أعلى تمثيل نيابي في تاريخهم (36 نائبا).

كما نجحوا في حذف بعض مواد دستور 2012 ومنها (المادة 219) الخاصة بتفسير أحكام الشريعة، مع الإبقاء على المادة التي كانت موازنة لها والمتعلقة بحق المسيحيين في التحاكم إلى شرائعهم، ووضع نص دستوري عن ضرورة سن تشريع عاجل لبناء الكنائس وهو ما تم فعلا في أغسطس/أب 2016.

وفي الوقت نفسه نجح الأقباط في منع صدور أي تشريع يُخضع حسابات الكنيسة والأديرة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات أو غيره من الأجهزة الرسمية، رغم أنها تبلغ مليارات الجنيهات.

العودة إلى الغيتو الكنسي
من سلبيات الانحياز الكنسي السافر لسلطة الانقلاب، وتسويق الخوف من المجهول الإسلامي لدى المسيحيين لضمان دعمهم لهذا الخيار، أنه أعاد المسيحيين مجددا إلى التخندق داخل الكنيسة (الغيتو)، واعتمادها ممثلا شرعيا وحيدا لهم أمام الدولة.

وهذا يعني مباشرة فقدان الثقة في قدرة القوى السياسية والحزبية والكيانات المدنية على التعبير عن هموم ومشاكل الأقباط، وهي الصيغة التي ظلت ملازمة للحالة القبطية طيلة عهد البابا السابق الأنبا شنودة الثالث، وهي صيغة رفضها العلمانيون الأقباط، وسعوا إلى تغييرها دون جدوى حتى قامت ثورة يناير/كانون الأول 2011 فقدمت البديل المدني للأقباط منذ أيامها الأولى.

سيكون من قبيل التهويل القول إن العلاقة بين المسيحيين والسلطة وصلت إلى مرحلة الفصام أو أوشكت على ذلك، ذلك أن قيادة الكنيسة لا تزال تُمسك بدفة قيادة المسيحيين بشكل عام، ولا تزال تؤمن بالسيسي كخيار آمن ووحيد لها، ولكن سيكون من قبيل التهوين أيضا القول إن العلاقة لا تزال على حالتها

حيث انخرط فيها شباب قبطي مخالفين توجيهات القيادة الكنسية، وأقام المسيحيون "قداسات" (صلوات) لهم في ميدان التحرير من فوق منصة الميدان التي كان يخطب عليها النشطاء السياسيون.

وتكونت بعد الثورة عدة كيانات شبابية مسيحية ذات وجه مدني، استطاعت أن تندمج سريعا مع غيرها من القوى المدنية في الحالة السياسية المدنية، وعيّن الرئيس محمد مرسي مساعدا مسيحيا له لأول مرة في التاريخ المصري (المهندس سمير مرقس)، وتراجعت الاعتداءات على المسيحيين.

وفي المقابل؛ انكمش دور الكنيسة متأثرا بموقفها السلبي من الثورة، شأنها شأن معظم المؤسسات الرسمية في دولة حسني مبارك التي ناصبت الثورة العداء منذ البداية، وظلت الكنيسة تُضمر العداء لثورة 25 يناير حتى بعد نجاحها في خلع مبارك، ونجاحها في انتخاب برلمان جديد ورئيس مدني.

ثم تمكنت الكنيسة من استعادة قيادة المشهد المسيحي مجددا في الأيام الأخيرة لحكم الرئيس مرسي بدعمها للقوى الرافضة لحكمه، ودعواتها إلى الخروج ضده في مظاهرات 30 يونيو/حزيران، إذ كانت نسبة كبيرة من المشاركين فيها من المسيحيين.

ثم كانت مشاركة رأس الكنيسة في مشهد انقلاب 3 يوليو/تموز سببا إضافيا لزيادة الاحتقان الطائفي، الذي عبر عن نفسه بتهور كبير عقب فض اعتصاميْ ميدان رابعة وميدان النهضة، باعتداءات واسعة على كنائس ومنازل المسيحيين ومنشآتهم في محافظات عدة، وكانت هذه الاعتداءات بدورها سببا إضافيا في المزيد من الانحياز المسيحي للسيسي.

سيكون من قبيل التهويل القول إن العلاقة بين المسيحيين والسلطة وصلت إلى مرحلة الفصام أو أوشكت على ذلك، ذلك أن قيادة الكنيسة لا تزال تُمسك بدفة قيادة المسيحيين بشكل عام، ولا تزال تؤمن بالسيسي كخيار آمن ووحيد لها، ولكن سيكون من قبيل التهوين أيضا القول إن العلاقة لا تزال على حالتها التي ظهرت عقب انقلاب 2013.

فقد جرت تحت السطح وفوقه مياه كثيرة غيّرت قناعاتِ قطاعاتٍ لا بأس بها من النُّخب والشباب القبطي، وترجمت غضبها في بعض المظاهر التي أشرنا إليها، وتبقى المعضلة الرئيسية أمام هذه الحالة الاحتجاجية المتصاعدة هي غياب البديل الآمن للسيسي، الذي يمكنه أن يستهوي الأقباط ويوفر لهم خيارا وطنيا مطمئنا.

وهذه المعضلة ستبقى معلقة في رقبة القوى الليبرالية والإسلامية الرافضة للحكم العسكري، والتي يجب عليها تجاوز خلافاتها والمسارعة بتقديم بديل وطني يجد المسيحيون فيه أنفسهم، ويطمئنون من خلاله لحاضرهم ومستقبلهم، وبدون ذلك سيبقى الوضع على ما هو عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.