ما بين تضخيم الإرهاب وتفتيت الآخر

مظاهرة وسط لندن ضد الإسلاموفوبيا والتمييز ضد المهاجرين

تآزرت الانطباعات المتولدة عن حادثة البرلمان البريطاني مع الانطباعات المترسبة من أحداث الإرهاب المتتالية التي سبقتها، لتكشف بكل وضوح أن حوادث الإرهاب تحولت بالتدريج لتكون أحد الأسواق الرائجة للافتعال، على نحو موازٍ لما حدث من قبل حين كان الإرهاب نفسه هو الفعل الجديد على ساحة الأحداث والأخبار والبحوث.

أما الآن فإن الافتعال يعيد إنتاج الفعل في أسلوب يزري بالحقائق الساطعة وبفنون التمثيل والمحاكاة من أجل أن ينجح الاستثمار فيه؛ بناء على ما استقر في دراسات الجدوى من أن سوقه منتعشة وتسويقه مضمون.

وها هم أصحاب المصالح المباشرة في تكوين الانطباعات الذهنية يجتهدون في تقديم قرابين متعددة تدعم الصور الانطباعية المشوهة لأعدائهم، من أجل خلق وتدعيم الصورة التي يريدون تثبيتها عن هؤلاء الفرقاء في الذهنية الغربية.

وهي الصورة التي أصبحت بمثابة الملاذ الآمن والسلاح المنجز من أجل إقناع الغربيين المصابين بالإسلاموفوبيابالحاجة إلى وجود السلطويين غير المنتخبين في السلطة، وتأمين الحاجة إلى هذا الوجود مهما تكلف من دعم غربي أو إقليمي يتضارب مع القيم الإنسانية، بل ويتنافى أيضا مع الحسابات الاستثمارية في الأحوال الطبيعية.

كما أن السلط المحلية غير الشرعية أصبحت تجد في الزعم بمكافحة الإرهاب طاقة القدر المساعدة لها على اكتساب الشرعية فإن المؤسسة الأميركية الخفية تجيد استثمار الإرهاب كحتمية تاريخية مساعدة لها على تدمير كل طموح غير أميركي للائتلاف أو التحالف بعيدا عن نفوذ واشنطن

منذ مرحلة مبكرة قدر لي أن أكتب وأتحدث واصفا البدايات الأولى لظاهرة الاستثمار في الإرهاب التي بدأ عدد من طغاة العسكر العرب الجدد يلجؤون إليها بكثافة، والآن -وبعد سنوات معدودة من الصراع الاجتماعي غير المتكافئ- أصبحت هذه الظاهرة تتحدث عن نفسها بوضوح زاعق، بل إن أصحابها من البغاة باتوا يجاهرون بجدواها لأنهم لا يملكون غيرها، وكأنهم ذلك الحانوتي الذي ورث المهنة عن أبيه عن جده وقد قال له أصدقاؤه ألا تفكر في تغيير مهنتك الباعثة على التشاؤم؟ فأجابهم بأن نشأته لم تؤهله لغيرها من المهن إلا أن يكون حفارا للقبور في السر!

وهكذا يتحدث أبرز أعضاء طائفة الانقلابيين العرب الذين يتصورون بل ويصورون أن ارتداءهم البدلة العسكرية بمثابة المعادل الموضوعي لممارسة قهر شعوبهم برفع شعارات رنانة من قبيل الحفاظ على الدولة المركزية!! في الوقت الذي يتواطؤون فيه على التنازل عن الأرض والسيادة، رافعين شعارات مناقضة تماما لما يفعلون من قبيل شعار أسلافهم القائل بأنه "لا صوت يعلو على صوت المعركة".

في العالم الموازي يصعب على أي مهتم بالعمل العام أو بالسياسات العامة أن يتصور أن يكون لهذا المنطق الهلامي حظ ما من البقاء مع ما أصابه العقل الإنساني من التطور، لكن نموذج الانضباط الظاهري في كوريا الشمالية يبدو وكأنه يصفع مثل هذه الحقيقة المنطقية صفعات ظاهرة الأثر مهما كانت قوتها ضعيفة، وكذلك يفعل بعض الشبق العربي بما التزم به من التمويل السخي للتآمر الطويل المدى.

لكن الأمر في صناعة هذا العالم الموازي لا يتوقف عند النموذج والتمويل فحسب، وإنما تتمثل المشكلة الكبرى والأكثر تأثيرا في أنه يجد ترحيبا فعليا ومستترا من الكيان الرهيب المعروف باسم "المؤسسة" التي تتحكم في السياسات الأميركية، واضعة نصب أعينها نهجها المألوف في الحفاظ على فكرة إبقاء الآخرين مشغولين بالضعف وضعفاء بالانشغال.

وقد وجدت هذه الإستراتيجية في أعوامها الأخيرة ضالتها المفقودة في أن توظف الخوف الأوربي من الإرهاب في خلق خلافات أوروبية/أوروبية (كما هو الحال في الموقف من توطين اللاجئين)، تؤدي بل وأدت في نهاية المطاف إلى تغليب وانتصار التوجه نحو روح التفتيت.

ومن العجيب -الذي لا يمكن إدراكه إلا بتصوير متأنّ يبدعه كاتب مسرحي موهوب- أن "البريكست" أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان نتيجة حتمية (وإن كانت قد جاءت بالتداعي التسلسلي) لموقف البرلمان البريطاني المفاجئ الذي احتمى به باراك أوباما من أن يؤدي واجب الإنسانية في حماية الشعب السوري، وهو موقف دفع إلى ترجيح التصويت له ما عرف سرا من تصويت الكره غير المبرر وغير المعلن لانتصارات الربيع العربي.

وقد جاء هذ التداعي كما هو معروف من التوجهات الأميركية الخفية نحو الآخرين مهما كان إخلاصهم للأميركيين، ومن المذهل أنك لا تكاد تجد في أدبيات السياسة العالمية ما يوازي 1% مما تجده في أدبيات السياسة الخارجية الأميركية من حرص دائب على تغذية كل ما يعزز فرضيات الانتعاش المتجدد في نزاع الأقليات العرقية والدينية، ويؤجج ميول الأطراف إلى الانفصال.

بل إنك تكاد تظن أن الأميركي في سياسته الخارجية معني في المقام الأول والأخير بتوظيف الأسلحة (أو السكاكين) الانفصالية في كل مكان، من أجل دعاوى الانفصال والاستقلال والخروج من الوحدة والأحلاف والتحالفات.

من المذهل أنك لا تكاد تجد في أدبيات السياسة العالمية ما يوازي 1% مما تجده في أدبيات السياسة الخارجية الأميركية من حرص دائب على تغذية كل ما يعزز فرضيات الانتعاش المتجدد في نزاع الأقليات العرقية والدينية، ويؤجج ميول الأطراف إلى الانفصال

ومع أن المثل الواضح لمعاناة دولة جنوب السودان (المنفصلة بإلحاح إمبريالي متسربل بمزاعم الشكوى من الاضطهاد الديني) أصبح يجأر بنفسه الآن، ويجهر بمعاناته في كل جزئية من جزئيات التنمية الغائبة والحياة المستعصية في هذه الدولة السودانية المصطنعة؛ فإن سعادة بعض الأميركيين البالغة باستقلال الجنوب عن السودان لا تزال حتى الآن تعبر عن نشوة مبالغ فيها حتى إنها تكاد توازي سعادتهم -التقليدية والمفهومة- بحرب الاستقلال الأميركية.

ومن الجدير بالإشارة السريعة أن الترتيبات السرية أو غير المعلنة لإنجاز انفصال مماثل في أرض النوبة المصرية تجري على قدم وساق بتواطؤ غير مستغرب من سلطات الانقلاب.

وقل مثل هذا عما يتناثر من أخبار الدعوة إلى الفدرالية في سوريا والعراق، واضعا في حسبانك ما اكتشفته خبرة الباحثين من أن كلمة "الفدرالية" في القاموس السياسي الأميركي الخفي لا تعني نوعا من "الاتحاد" وإنما تعني "التقسيم".

في كل هذه الحالات التي نراها كل يوم ظاهرة دون حاجة إلى التلخيص والحصر فإن الاستثمار في الإرهاب تم "تضفيره" ليكون هو البديل الأكثر ضمانا لتغذية دعاوى التجزئة المستجيبة لجوهر السياسة الأميركية، التي جعلت ذروة أهدافها السامية نشر ثقافة التجزئة والمجتمعات المتجزئة والدول المستحدثة بالتجزئة في كل مكان تبدو فيه أية ظاهرة (مهما كانت خافتة) داعية لمثل هذه التوجهات الانفصالية، التي يسهل تأصيلها تاريخيا على نحو ما يسهل تبريرها إرهابيا من خلال حوادث مصطنعة يجعلها الإعلام زاعقة الدلالة على ترجيح الانفصال كحل نموذجي للتعامل الأمني مع الإرهاب.

وكما أن السلطات المحلية غير الشرعية أصبحت تجد في زعمها مكافحة الإرهاب طاقة القدر المساعدة لها على اكتساب الشرعية؛ فإن المؤسسة الأميركية الخفية تجيد استثمار الإرهاب كحتمية تاريخية مساعدة لها على تدمير كل طموح غير أميركي للائتلاف أو التحالف بعيدا عن نفوذ واشنطن.

ولم يعد سرا ولا خافيا أن كل الحوارات العربية الأوروبية قد أصيبت بالشلل المتعمد نتيجة الانسياق الاضطراري لحكومات أوروبا إلى تبني سياسات علاج الإسلاموفوبيا التي أنتجتها معامل أميركا ومصانعها ومراكزها البحثية.

وقد وصل الأمر في هذا التوجه المنحاز إلى حد أن كيانات المجتمع الدولي نفسها أصبحت اليوم مطالبة بطريقة غير مباشرة بأن تتبنى رؤية وحيدة في سياساتها الدولية، هي رؤية الخارجية الأميركية لما ينبغي أن يكون عليه مستقبل العالم.

ومع أن الاقتصاديات الكبيرة والمتنامية في الصين واليابان وأوروبا وتركيا وجنوب شرق آسيا أبدت تبرمها مرة بعد أخرى من هذه الضغوط الأميركية خاصة في موضوع تنظيم الدول، فقد بات المجتمع الدولي اليوم على يقين من أن الأمم المتحدة -التي تأسست منذ أكثر من سبعين عاما- أصبحت بين نارين:

– نار الاستجابة للولايات المتحدة الأميركية في إلغاء وجودها بإضعاف أدوارها الإغاثية والتأديبية والتحكيمية، والرادعة والمانعة للاعتداء والمحاربة للعنصرية، والاكتفاء بدور مظهري كامل يدشن المؤتمرات ويعقد الندوات مستهدفا زيادة مساحات الاختلاف وعدم التوافق، ومؤكدا على كل ما يحول أي اختلاف عابر إلى تناقض جذري متأصل.
 
لم يعد سرا ولا خافيا أن كل الحوارات العربية الأوروبية قد أصيبت بالشلل المتعمد نتيجة الانسياق الاضطراري لحكومات أوروبا نحو تبني سياسات علاج الإسلاموفوبيا التي أنتجتها معامل أميركا ومصانعها ومراكزها البحثية
– نار فقدان التمويل الأميركي لنشاط المنظمة الدولية ووجودها إذا ما صممت قيادة المنظمة على لعب دور نزيه أو حتى لعب دور محايد. ويتمثل جزء من تلك الحقيقة بوضوح في ما يرويه التاريخ المعاصر عن معاناة منظمة اليونسكو طيلة عقدين كاملين من التعنت الأميركي الذي وصل حد الامتناع عن دفع حصة أميركا في تمويل المنظمة، كتعبير عن عدم الرضا الأميركي عن تجليات روح النزاهة والاستقلال والمثالية في تصرفات مدير اليونسكو أحمد مختار أمبو.

وقد بلغ التململ الأميركي حدودا غير مقبولة من التستر وراء ذرائع مختلقة وغير حقيقية من قبيل توجيه الاتهام بسوء الإدارة المالية، وهو الزعم الذي لم يكن متسقا مع استمرار التعسف في معاملة المنظمة حتى بعد انتهاء فترة أحمد مختار أمبو.

ومع هذا فإن تجربة اليونسكو نفسها كفيلة بأن تعطي الساسة الأميركيين في المستقبل القريب نموذجا واضحا لرد الفعل العكسي الذي يتولد نتيجة الممارسات المتغطرسة من الأميركيين تجاه سجايا العقائد الأخرى.

 
ولست أذيع سرا حين ألخص ما يعبر به الآن رجال الطبقة المتوسطة العريضة من الساسة الأفارقة عن مشاعرهم تجاه المؤسسات الدينية المسيحية، لكن هؤلاء (ومن ضمنهم مسلمون ومسيحيون وأصحاب ديانات محلية) يقولون بوضوح إن الكاثوليك المشهورين بالسطوة الكولونيالية يعدون رحماء رفقاء إذا ما قورنوا بأي بروتستانتيين مرتبطين بأية صورة من الصور بالأميركيين.

فقد لاحظ هؤلاء الساسة أن الخط العريض للوجود التبشيري الأميركي خط استثماري في المقام الأول والأخير، وهو خط لا يعنى بالتبشير بالمسيحية قدر ما يعنى بالتبشير بالأمركة عالميا ومحليا، وخاصة أنه يبشر بوجود الخلاص في التفتيت أو بلفظ أدق "التجزئة "، أيا ما كان اسمها: استقلالا أو انفصالا أو فدرالية.

ولهذا السبب ينصح الساسة الأفارقة بعضهم البعض بتجنب الحوار مع السفارات الأميركية إلا في مشكلات الجوع والمرض بعيدا عن السياسة والانتماء. ومن الطريف أن الأميركيين أصبحوا مدركين لهذه الحقيقة التي ستتفاقم بالطبع مع تخفيض إدارة دونالد ترمب للمعونات الخارجية إلى أدنى الحدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.