حكومة العثماني.. هل هي ردة عن المسار الديمقراطي؟

الائتلاف الحكومي الذي أعلن عنه العثماني بمقر حزب العدالة والتنمية بالرباط ـ الجزيرة نت

رأس الزعيم وراء البلوكاج
تمرد حزبي أم انقلاب؟
ملاحظات على هندسة الحكومة

نجح سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، المعين وزيرا أول في المغرب خلفا للأمين العام عبد الإله بنكيران في تكوين ائتلاف حكومي من ستة أحزاب (التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الاتحاد الدستوري، التقدم والاشتراكية)، يفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات الانسجام (الرؤية، البرنامج..) بين مكوناته الحزبية؛ مع ما يطبعه من هشاشة فيما يخص الشرعية لدى رموز قيادية من حزب العدالة والتنمية.

تكشف السرعة التي تم بها إعداد واحدة من أسرع الحكومات تشكيلا في تاريخ البلاد؛ مع ما رافق ذلك من تغيير في الشروط والمواقف، عن الكثير من الإشارات فيما يخص العرقلة الحكومية (البلوكاج)، وما تلاها من قراري الإعفاء والتعيين، ثم مسلسل المفاوضات والتركيبة النهائية للحكومة. كما تثير العديد من التساؤلات حول إمكانية تسمية ما جرى في الكواليس فعلا مفاوضات، أم أن الأمر كان وصفة حكومية جاهزة تحتاج إلى تأشيرة دستورية؟

لقد وجد المغاربة أنفسهم بين عشية وضحاها، ينتقلون من أطول مشاورات حكومية في تاريخهم السياسي، استمرت أشهرا عديدة مع عبد الإله بنكيران؛ مع ما رافق ذلك من إشراك للشعب في كافة تفاصيل مجرياتها، إلى واحدة من أسرع الحكومات رفقة سعد الدين العثماني، مع ما يكتنفها من غموض حول حيثيات ولادتها.

وجد المغاربة أنفسهم بين عشية وضحاها، ينتقلون من أطول مشاورات حكومية في تاريخهم السياسي، استمرت أشهرا عديدة مع عبد الإله بنكيران؛ مع ما رافق ذلك من إشراك للشعب في كافة تفاصيل مجرياتها، إلى واحدة من أسرع الحكومات رفقة سعد الدين العثماني، مع ما يكتنفها من غموض حول حيثيات ولادتها

تأتي حكومة العثماني في سياق القبول بسياسية الأمر الواقع، وتؤكد تركيبة الحكومة على شيء وحيد مفاده الإقرار بفك الارتباط مع نتائج 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإعلان الطلاق البائن مع الإرادة الشعبية. معنى هذا أن الحزب فقد عذريته السياسية سيرا على نهج أحزاب عريقة، تم تدجينها من قبل النظام في تجارب سياسية وحكومية سابقة.

رأس الزعيم وراء البلوكاج
ظاهريا يبدو أن إصرار حزب التجمع الوطني للأحرار على مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الائتلاف الحكومي، كان النقطة التي فرضت تنحية عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة.

لكن الحقيقة غير ذلك مطلقا، فرأس الزعيم المزعج كان مطلوبا منذ تحول موجة الربيع العربي إلى خريف في العديد من البلدان، وعندما تحول رئيس الحكومة إلى أكبر معارض في المملكة نهاية كل أسبوع، وحينما استشعر اللوبي الاقتصادي المقرب من السلطة، باستهداف إصلاحاته الاقتصادية لمصالحهم بشكل مباشر، ما فرض تحركا مستعجلا وآنيا لوقفه.

وزاد الاختراق غير المسبوق الذي حققه الرجل حين حول منصب رئيس الحكومة من خانة النخبوية، إلى التفاعل مع قطاعات واسعة من الشعب من دواعي ذلك الاستعجال، فالرجل تحول إلى ظاهرة سياسية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ المغرب، أعطت معنى للسياسة وحشدت الجماهير. وأضحت -في نظر البعض- رمزا لخط سياسي جديد، قائم على عقيدة الملكية حتى النخاع مع سعي حثيث لمنح الإرادة الشعبية موطئ قدم في دائرة السلطة.

وقد أدخله هذا الاختيار -أحيانا- فيما يعرف بصراع الرمزيات مع المؤسسة الملكية، ففي عزِّ الأزمة والانسداد الحكومي، لم يتردد الرجل في بث رسالة إلى مهندسي عرقلة الحكومة؛ في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني لنقابة حزبه (الاتحاد الوطني للشغل) قائلا: "لا يمكن أن يفرج الملك كروب شعوب أفريقيا، وشعب المغرب في المقابل يُهان."

عديدة هي الأسماء داخل الأمانة العامة أو في المجلس الوطني التي لا تتفق مع الرجل في منهجية قيادته للحزب، وتدبيره للمرحلة، وبشكل خاص بعد تشنج العلاقة بين المؤسسة الملكية ورئاسة الحكومة أكثر من مرة، غير أن وضوح أفكاره وقوته الإقناعية في معاركه ضد السلطوية، في إطار لعبة سياسية بين قوى ومصالح، دفعت بهؤلاء إلى الانحياز لمقولة "الصمت حكمة"، حتى لا يكونوا نشازا داخل الحزب أمام كاريزما الرجل القوية التي فرض بها احترام الأعداء قبل الأصدقاء.

تمرد حزبي أم انقلاب؟
تباينت ردود القيادة والقواعد حول قراري الإعفاء (بنكيران) والتعيين (العثماني)، وبالأخص الكيفية التي تم تصريفهما بها من قبل المؤسسة الملكية. ثم جاءت مكونات الائتلاف الحكومي لتشكل مناسبة سمحت ببروز التيار الرافض لمنهجية بنكيران بقوة، حيث انطلقت الموجة التبريرية في صفوف هؤلاء من قبيل أن العدالة والتنمية حزب مؤسسات وليس حزب أفراد؛ متناسين مشاركة بعضهم في القرارات، ومسؤولياتهم المعنوية عن البيانات التي كان يوقعها الرجل باسم الأمانة العامة طيلة فترة المشاورات.

تنازل حزب العدالة  عن قطاع حساس مثل العدل الذي كان تدبيره له ناجحا في السنوات الخمس الماضية بشهادة أهل المهنة من محامين وقضاة. وتخلى أيضا عن قطاع الميزانية الذي شكل عينه على وزارة المالية، إذ أضحى اليوم بمعية الاقتصاد بين يدي حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو ما يرجح فرضية عرقلة بنكيران لدواع اقتصادية وليس سياسية

وذهب البعض حد الاستعانة بالتراث، والحديث عن "صلح الحديبية" و"حلف الفضول"، في حين استعان البعض بالقبعة الأكاديمية للتنظير لما أسماه "التوافق الضروري"، ومنهم من فضل الصراحة والمباشر بقوله: "هذا التحالف ليس هو ما كان ينتظره المغاربة، لكنه هو الممكن".

كان الهدف من وراء هذه التسويغات والتبريرات امتصاص الغضب المنتشر بين المناضلين والقواعد وعموم المواطنين، ممن ساندوا ودعموا التجربة طيلة السنوات الخمس الماضية. لسان حال أصحابه، أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن المرء مضطر للاختيار بين السيء والأسوأ، وأن المصلحة الوطنية تقتضي تحويل "اللاءات" التي رفعها بنكيران طيلة أشهر البلوكاج، في وجه السلطوية أو من ينوبون عنها، إلى "نعم" قصد تشكيل حكومة برئاسة العدالة والتنمية.

ويرى البعض أن ما حدثا كان أشبه ما يكون بانقلاب ناعم للقيادة على الرجل الذي شعر بطعنة في الخلف من إخوانه، خاصة وأنه عبَّر لهم عن نيته تسليم المفاتيح منذ بداية المفاوضات بعد استنفاذه جميع التنازلات الممكنة (التخلي عن الاستقلال، قبول الاتحاد الدستوري، التفريط في رئاسة مجلس النواب)، معتبرا أي تنازل آخر إهانة للحزب وللمغاربة، غير أنهم في كل مرة يحثونه على الصبر والصمود حتى بلغ به الأمر خمسة أشهر، قبل أن ينقلبوا عليه بمجرد صدور قرار إعفائه، مهرولين نحو ائتلاف حكومي هش تحولوا فيه إلى أقلية تسير أغلبية دون التفكير في تبعات ذلك، ما بدى واضحا في توزيع الحقائب الوزارية.

بينما يرى آخرون ومن ضمنهم مقربون من حزب العدالة أن الحديث عن انقلاب ناعم داخل الحزب هو ضرب من الخيال وبعيد من الواقع، وأن بنكيران نفسه كان ممن شاركوا في قرار قبول تكليف العثماني والتعامل الإيجابي مع بلاغ الديوان الملكي في هذا الشأن، صحيح أن الرجل أخذ مسافة عن المشاورات بدعوى أنه لا يريد أن يؤثر على مسارها ولا يريد أن يشوش على العثماني، لكن ذلك لا يمكن تفسيره بامتعاض الرجل من قيادة حزبه أو إحساسه بوجود طعنة من إخوانه، كما أنه في تصريحات صحفية دعا أكثر من مرة إلى مساندة العثماني وقال "أنا أول المساندين له".

ملاحظات على هندسة الحكومة
حظيت الحكومة الثانية والثلاثون في تاريخ المغرب الحديث بالتعيين الملكي يوم الأربعاء المنصرم، وضمت في تركيبتها الإجمالية 39 شخصية حكومية، في مقدمتها رئيس الحكومة وأمينها العام إلى جانب 18 وزيرا و6 وزراء منتدبين و13 كاتبا للدولة.

تقدم هذه التشكيلة الحكومية للمتابعين والملاحظين العديد من الأجابات عن أسئلة كانت معلقة طيلة فترة الانسداد والعرقلة مع عبد الإله بنكيران، ونوردها باختصار تباعا كما يلي:

أولا: تفسر السرعة القصوى التي تحرك بها العثماني لإخراج حكومته إلى حيز الوجود فيما يشبه تنفيذ مخطط جاهز، يرى البعض أنه تحول فيه هو ومن معه من الإخوان داخل الحكومة إلى أقلية لا حول لها ولا قوة بعدما سلبت منهم القطاعات الوزارية المركزية؛ إما لصالح المؤسسة الملكية أو الأحزاب الإدارية المحسوبة عليها.

أكثر من ذلك تنازلوا عن قطاع حساس مثل العدل الذي كان تدبيرهم له ناجحا في السنوات الخمس الماضية بشهادة أهل المهنة من محامين وقضاة. وتخلوا عن قطاع الميزانية الذي شكل عينهم على وزارة المالية، إذ أضحى اليوم بمعية الاقتصاد بين يدي حزب التجمع الوطني للأحرار. وهو ما يرجح فرضية عرقلة بنكيران لدواع اقتصادية وليس سياسية، فلوبي رجال الأعمال المقرب من دوائر الحكم ممثلا في حزب التجمع للأحرار نال مبتغاه كاملا في حكومة العثماني.

ثانيا: تكشف الهندسة الحكومية عن السعي نحو تجميع القطاعات الوزارية تحت أقطاب كبرى، فيما يشبه تجربة حكومة التناوب التوافقي؛ مع تسجيل فوارق كبيرة بين التجربتين، من ضمنها عدم الانسجام أحيانا؛ مثل وزارة السياحة والنقل الجوي والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي، مما يعد بالمشاكل والعراقيل والتضارب والاهتمام بمجال على حساب آخر. والتضخم أحيانا أخرى؛ مثل ما عليه الحال مع وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات التي عُدت أكبر وزارة في تاريخ المغرب بصلاحيات واسعة وميزانية ضخمة جدا.

يتمثل تولي عبد الوافي لفتيت منصب وزير الداخلية، إشارة رمزية ضد حزب العدالة والتنمية في هذه الحكومة، وهو الذي ارتبط اسمه بفضيحة "خدام الدولة"، وبالمعارك الشرسة التي خاضها على مستوى المجالس المنتخبة ضد أعضاء ومنتخبي حزب العدالة والتنمية، والتي انتهت أحكامها في القضاء الإداري لصالحهم

والغاية من وراء ذلك تجميع القطاعات الوزارية التي تحمي مصالح الدولة العميقة في أيدي أعضاء حزب التجمع الوطني للأحرار بقيادة عزيز أخنوش، صاحب الفضل الكبير في إزاحة بنكيران بعد اشتراطه طيلة أشهر ضرورة إشراك حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، ليتبين القصد من وراء البلوكاج أخيرا، عندما خرج حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بلا غنائم تُذكر في الحكومة سوى الفتات.

ثالثا: الحضور القوي للولاة؛ 4 ولاة داخل الحكومة، وفي قطاعات أبعد ما تكون من تكوين هؤلاء مثل قطاع التربية الوطنية والتعليم العالي الذي أسندت مهمته إلى محمد حصاد، المعروف بصراعه مع حزب العدالة والتنمية منذ مجيئه إلى الوزارة عند تعديل حكومة بنكيران، وبلغ الصراع أشده عند الانتخابات الجماعية والبرلمانية.

يكشف توليه لهذه الحقيبة عن المقاربة التي سوف تنهجها الدولة في هذا الحقل، بعدما نجح كوزير للداخلية في الحكومة السابقة في حملات "التطهير" التي قامت بها وزارة التربية الوطنية، بناء على تقارير الداخلية ضد مدارس مجموعة محمد الفاتح، والإعفاءات التي لحقت أطر جماعة العدل والإحسان.

إشارة رمزية أخرى ضد حزب العدالة والتنمية في هذه الحكومة تتمثل في تولي عبد الوافي لفتيت موقع وزير الداخلية، وهو الذي ارتبط اسمه بفضيحة "خدام الدولة"، وبالمعارك الشرسة التي خاضها على مستوى المجالس المنتخبة ضد أعضاء ومنتخبي حزب العدالة والتنمية، والتي انتهت أحكامها في القضاء الإداري لصالحهم.

رابعا: استعاد القصر في التشكيلة الحكومية الجديدة مسؤولية تدبير القطاعات الحساسة أو "السيادية"؛ وبالأخص وزارتي الداخلية والخارجية، بعدما أسند بعضها في حكومة بنكيران الأولى لأحزاب الأغلبية (الداخلية/ حزب الحركة الشعبية، الخارجية/ حزب العدالة والتنمية)، ما اعتبره البعض حينها انطلاق مرحلة جديدة تربط فيها مسؤولية التدبير بالمحاسبة الانتخابية.

أكثر من ذلك تُظهر التشكيلة الحكومية أن القصر مقتنع بنجاعة المقاربة "التقنوية" الصرفية أكثر مما يفيد الاعتماد على الفاعل السياسي الحزبي، بعد سيطرة التكنوقراط على الحكومة، فهم في المرتبة الثانية من حيث المناصب الوزارية بعد الحزب المتصدر، ما يعيد إلى الواجهة سؤال شرعية الانتخابات والممارسة السياسية في كليتيهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.