عام أوروبا الثاني

European flags fly at half mast in front of the EU commission building after an explosion at Malbeek Metro station, near the EU commission building in Brussels, Belgium, 22 March 2016. Brussels has shut down all of its metro services after blasts occurred in Schuman and Maelbeek metro stations near European Union buildings. Security services are on high alert following the explosions in the departure hall of Zaventem Airport and on the metro system in Brussels, Belgium, where many people have died or been injured.

قبل ما يزيد على أربعة عقود، أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك هنري كيسنجر أن عام 1973 هو "عام أوروبا". وكان هدفه تسليط الضوء على ضرورة تحديث العلاقات الأطلسية، وبشكل أكثر تحديدا ضرورة بذل حلفاء أميركا في أوروبا المزيد من الجهد مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وضد الاتحاد السوفياتي بأوروبا.

كان كيسنجر سيصبح أول المعترفين بأن الأوروبيين لم ينتبهوا إلى هذا التحدي. بيد أننا نواجه مع ذلك عاما أوروبيا مرة أخرى، وإن كان الزخم لا يأتي هذه المرة من جانب الحكومة الأميركية المحبطة بقدر ما يأتي من داخل أوروبا ذاتها.

المخاطر مرتفعة كما كانت في عام 1973، إن لم تكن أعلى. والواقع أن روسيا لا تُظهِر أي بادرة تشير إلى إمكانية الانسحاب من شبه جزيرة القرم، أو وقف الجهود الرامية إلى زعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا. وهناك تخوف حقيقي من إقدام روسيا على توظيف تكتيكات مماثلة ضد واحدة أو أكثر من دول حلف شمال الأطلسي الصغيرة على حدودها.

وقد أضاف اللاجئون إلى معاناة أوروبا وإجهادها، كما فعل الإرهاب المستوحى من أحداث في الشرق الأوسط أو الذي جرى تنفيذه بواسطة مهاجمين من المنطقة.

والآن بدأت رسميا عملية الخروج البريطاني أو انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي؛ ويبقى فقط تحديد التوقيت والشروط التي ستحدد مدى تأثير هذا الانسحاب على مستقبل المملكة المتحدة اقتصاديا وسياسيا، وعلى دول أخرى تفكر في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

على مدى عقود، ظلت أوروبا المنطقة الأكثر نجاحا واستقرارا في العالَم، والمكان الذي بدا فيه التاريخ وكأنه انتهى. وقد تحقق إلى حد كبير هدف جعل القارة مسالمة ومتكاملة وحرة.

وتظل اليونان وعدد من الدول الأخرى في جنوب أوروبا تتحمل وطأة البطالة المرتفعة، والديون المتنامية، والفجوة المتزايدة الاتساع بين ما يُطلَب من الحكومات القيام به وما يمكنها تحمله بالفعل.

ولكن من بين كل التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، شكلت الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا القدر الأعظم من الأهمية بالنسبة لمستقبل أوروبا، وربما مستقبل العالَم.

إذ كان من شأن فوز زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان أو زعيم اليسار المتطرف جان لوك ميلانشون -اللذين يدعمان سياسات تقع خارج نطاق التيار الفرنسي والأوروبي السائد- أن يعني نهاية العضوية الفرنسية في كل من الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، وهو ما من شأنه أن يثير الشكوك في قدرة المنظمتين على البقاء، وقدرة أوروبا ذاتها على البقاء.

لم تكن مثل هذه السيناريوهات متصورة حتى وقت قريب. فعلى مدى عقود، ظلت أوروبا المنطقة الأكثر نجاحا واستقرارا في العالَم، والمكان الذي بدا فيه التاريخ وكأنه انتهى. وقد تحقق إلى حد كبير هدف جعل القارة مسالمة ومتكاملة وحرة.

ولكن تغييرا جذريا طرأ على أوروبا. ومن بين العوامل التي حفزت هذا التغيير ما أبدته روسيا في عهد فلاديمير بوتين من استعداد وقدرة على استخدام القوة العسكرية، والقسر الاقتصادي، والتلاعب السيبراني لدفع أجندتها.

ولكن التحدي الأكبر الذي يواجه أوروبا الحديثة ينبع من ساستها الذين يشككون على نحو متزايد في قيمة الاتحاد الأوروبي، أو وريث الجماعة الاقتصادية الأوروبية التي أنشئت في عام 1957 بموجب معاهدة روما.

الواقع أن الأساس المنطقي وراء عملية التكامل الأوروبي التي دامت ستة عقود -والتي يطلق عليها عادة وصف "المشروع الأوروبي"- كان واضحا دائما. كان توحيد أوروبا الغربية -وفي المقام الأول من الأهمية ألمانيا وفرنسا- ضرورة أساسية لجعل الحرب التي ميزت ماضي القارة في الأغلب الأعم احتمالا لا يمكن تصور تكراره.

من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إعادة نظر. فهو يحتاج إلى الابتعاد عن نهج "المقاس الواحد الذي يناسب الجميع" واعتماد نهج آخر أكثر مرونة. وهناك أيضا الحاجة إلى إعادة توازن السلطة بعيدا عن بروكسل، مقر أغلب مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ونحو العواصم الوطنية

وقد تحققت هذه الغاية، كما أحرزت أوروبا تقدما اقتصاديا كبيرا. ولكن على طول الطريق تراخت قبضة المشروع الأوروبي على مواطني أوروبا.

فقد أصبحت مؤسسات الاتحاد الأوروبي نائية للغاية، وشديدة النخبوية، ومفرطة القوة، ولم تضع في الحسبان الهويات الوطنية التي ظل الأوروبيون مرتبطين بها. وكانت الخطوة غير المدروسة والمتمثلة في إنشاء اتحاد نقدي من دون نظير مالي سببا في زيادة الأمور سوءا على سوء. وقد تجاوز البيروقراطيون الحدود.

وكانت النتيجة ظهور المرشحين الشعبويين القوميين على اليسار واليمين في فرنسا وأماكن أخرى من أوروبا. وحتى إن فاز أحد المرشحين في فرنسا، فسيظل الكثير غير مؤكد. ورغم مرور الأزمة المباشرة فسيظل التحدي الطويل الأمد قائما.

من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إعادة نظر. فهو يحتاج إلى الابتعاد عن نهج "المقاس الواحد الذي يناسب الجميع" واعتماد نهج آخر أكثر مرونة. وهناك أيضا الحاجة إلى إعادة توازن السلطة بعيدا عن بروكسل، مقر أغلب مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ونحو العواصم الوطنية.

ويتعين على الحكومات أن تبذل المزيد من الجهد لتهيئة الشروط الأساسية اللازمة لتمكين النمو الاقتصادي الأسرع، في حين تعمل على تعزيز قدرة العمال على التعامل مع الإزالة الحتمية للعديد من الوظائف القائمة نتيجة للإبداع التكنولوجي. وسيكون لزاما على ألمانيا -سواء بقيادة مستشارتها الحالية أو خصمها الرئيسي بعد الانتخابات العامة في سبتمبر/أيلول القادم- أن تتولى زمام المبادرة في هذا السياق.

سيحدد الأوروبيون في الأغلب مستقبل أوروبا على النحو اللائق بالقدر الكافي. ولكن إدارة دونالد ترمب أيضا ينبغي لها أن تلعب دورا مهما. فلابد من أن يتوقف دعم ترمب -الذي يتسم بقِصَر النظر- للخروج البريطاني ومحاولات الخروج الأخرى من الاتحاد الأوروبي؛ فلن تكون أوروبا المقسمة الضعيفة المشتتة الانتباه شريكا جيدا في حلف شمال الأطلسي.

ربما يكون صحيحا أن آسيا أقرب من أوروبا إلى تولي مهمة صياغة تاريخ القرن الواحد والعشرين. ولكن لا ينبغي لنا أن نهدر الدرس المستفاد من القرن الماضي: فما يحدث في أوروبا قد يؤثر بالضرورة على استقرار ورخاء العالَم بأسره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.