عفوا.. عن أي نظام عالمي ليبرالي تتحدث؟

epa05549099 United Nations Secretary General Ban Ki-moon opens the General Debate of the 71st Session of the United Nations General Assembly at UN headquarters in New York, New York, USA, 20 September 2016. EPA/JASON SZENES

بعد انقضاء عام 2016 الرهيب؛ يعتقد أغلب المراقبين السياسيين أن النظام العالمي الليبرالي يمر بورطة خطيرة، ولكن هنا ينتهي الاتفاق.

ففي مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقد مؤخرا، أظهرت مناقشة هذا الموضوع بين قادة -مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومايك بينس نائب الرئيس الأميركي، ووزير الخارجية الصيني وانغ يي، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف– الافتقار إلى إجماع حتى على تعريف النظام الليبرالي. وهذا يجعل من الصعب أن نجزم بما قد يحدث له.

عندما هيمن الغرب -وخاصة الولايات المتحدة– على العالَم كان النظام الليبرالي هو ما ينبئنا عنه الغرب أياً كان. وقد اشتكت دول أخرى وعَرَضَت اقتراحات بديلة، ولكنها سايرت القواعد التي وضعها الغرب.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذهب الغرب المنتصر إلى توسيع مفهوم النظام العالمي الليبرالي. وكانت النتيجة اختراق "النظام الليبرالي 2.0" لحدود الدول للنظر في حقوق أولئك الذين يعيشون هناك. وبدلا من التمسك بالسيادة الوطنية بأي ثمن، سعى النظام الموسع إلى تجميع السيادة وإقامة قواعد مشتركة يتعين على الحكومات الوطنية أن تلتزم بها

ولكن بعد تحول القوة العالمية من الغرب إلى "بقية" العالَم، أصبح النظام العالمي الليبرالي فكرة مختلفا فيها على نحو متزايد، مع تحدي قوى صاعدة مثل روسيا والصين والهند للمنظور الغربي على نحو متزايد.

والواقع أن انتقاد ميركل في ميونيخ لروسيا -بسبب غزوها لشبه جزيرة القرم ودعمها الرئيس السوري بشار الأسد– قوبِل بتأكيدات من جانب لافروف على أن الغرب تجاهل قاعدة السيادة في القانون الدولي بغزوه العراق واعترافه باستقلال كوسوفو.

وهذا لا يعني أن النظام العالمي الليبرالي مفهومٌ تامُّ الغموض. فقد نشأت نسخته الأولى -التي يمكننا أن نسميها "النظام الليبرالي 1.0"- من رماد الحرب العالمية الثانية لتعزيز السلام ودعم الرخاء العالمي.

وكان هذا النظام مدعوما من قِبَل مؤسسات مثل البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي أصبح فيما بعد البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فضلا عن الترتيبات الأمنية الإقليمية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي. وقد شدد على التعددية، بما في ذلك من خلال الأمم المتحدة والترويج للتجارة الحرة.

لكن "النظام الليبرالي 1.0" كان محدودا بسبب الحدود السياسية على وجه الدقة. ونظرا للصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فلم يكن من الممكن حتى وصفه بأنه "نظام عالمي". فكان ما تقوم به أي دولة في الداخل شأنا خاصا أساسا، ما دام لم يؤثر على التنافس بين القوى العظمى.

ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذهب الغرب المنتصر إلى توسيع مفهوم النظام العالمي الليبرالي. وكانت النتيجة اختراق "النظام الليبرالي 2.0" لحدود الدول للنظر في حقوق أولئك الذين يعيشون هناك. وبدلا من التمسك بالسيادة الوطنية بأي ثمن، سعى النظام الموسع إلى تجميع السيادة وإقامة قواعد مشتركة يتعين على الحكومات الوطنية أن تلتزم بها.

وعلى أكثر من نحو، سعى "النظام الليبرالي 2.0" -المدعوم من قِبَل مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية والمحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن قواعد جديدة مثل المسؤولية عن الحماية- إلى تشكيل العالم على شاكلة منظومة الغرب. ولكن قبل أن تمر فترة طويلة، عاقت القوى المصابة بهوس السيادة مثل روسيا والصين تنفيذه.

كما عملت الأخطاء الكارثية التي ارتكبها صناع السياسات في الغرب -وتحديدا الحرب المطولة في العراق والأزمة الاقتصادية العالمية- على تعزيز إسقاط "النظام الليبرالي 2.0". ولكن الغرب ذاته يرفض الآن النظام الذي خلقه، وغالبا باستخدام نفس منطق السيادة الذي استخدمته القوى الصاعدة.

وليست الإضافات الأكثر حداثة -مثل المحكمة الجنائية الدولية والمسؤولية عن الحماية- فقط التي أصبحت عُرضة للخطر؛ فبعد رفض بريطانيا للاتحاد الأوروبي وإدانة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لاتفاقيات التجارة الحرة واتفاق باريس للمناخ، يبدو أن "النظام الليبرالي 1.0" الأكثر جوهرية أصبح تحت التهديد.

يزعم بعض المراقبين أن الغرب بالَغ في خلق "النظام الليبرالي 2.0"، ولكن حتى أميركا في عهد ترمب لا تزال في احتياج إلى "النظام الليبرالي 1.0" والتعددية التي يقوم عليها. وإلا فإنه ربما نواجه نوعا جديدا من العولمة التي تجمع بين تكنولوجيات المستقبل وعداوات الماضي.

في مثل هذا السيناريو، ستستمر التدخلات العسكرية، ولكن ليس في هيئة ما بعد الحداثة التي كانت تهدف إلى دعم النظام، والتي تجسدت في معارضة القوى الغربية للإبادة الجماعية في كوسوفو وسيراليون.

في الصراعات الجديدة، سيجري تحويل الإنترنت والهجرة والتجارة وإنفاذ القانون الدولي إلى أسلحة، بدلا من توظيف القواعد العالمية في حُكم كل هذه القوى بفعالية. وسيكون الصراع الدولي مدفوعا في المقام الأول بسياسة محلية تتحدد معالمها على نحو متزايد وفقا للمخاوف وانعدام الثقة في المؤسسات، والنزعة القومية التي تتسم بضيق الأفق

وبدلا من ذلك، ستكون الغَلَبة للأشكال الحديثة وما قبل الحديثة: أو دعم القمع الحكومي كما فعلت روسيا في سوريا، أو حروب الوكالة العِرقية الدينية كتلك التي تشنها السعودية وإيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

وفي الصراعات الجديدة، سيجري تحويل الإنترنت والهجرة والتجارة وإنفاذ القانون الدولي إلى أسلحة، بدلا من توظيف القواعد العالمية في حُكم كل هذه القوى بفعالية. وسيكون الصراع الدولي مدفوعا في المقام الأول بسياسة محلية تتحدد معالمها على نحو متزايد وفقا للمخاوف وانعدام الثقة في المؤسسات، والنزعة القومية التي تتسم بضيق الأفق.

والواقع أن الدول الأوروبية ليست على يقين من كيفية الاستجابة لهذه الفوضى العالمية الجديدة؛ وقد ظهرت ثلاث إستراتيجيات محتملة للمواجهة:

– تتطلب الإستراتيجية الأولى تَقَدُّم دولة مثل ألمانيا -التي تعتبر نفسها صاحبة مصلحة مسؤولة وتتمتع ببعض الثِقَل الدولي- للاضطلاع بمسؤولية القَيِّم الرئيسي على النظام الليبرالي العالمي. وفي هذا السيناريو، تعمل ألمانيا على دعم "النظام الليبرالي 1.0" على مستوى العالم والإبقاء على "النظام الليبرالي 2.0" داخل حدود أوروبا.

– بوسعنا أن نسمي الإستراتيجية الثانية -التي تجسدها اليوم تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان– إستراتيجية تعظيم الربح. لا تحاول تركيا قلب النظام القائم ولكنها تفتقر إلى حس المسؤولية عن صيانته أيضا.

وبدلا من هذا، تسعى تركيا إلى استخلاص أكبر قدر ممكن من المنفعة من المؤسسات التي يقودها الغرب مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، في حين تعمل على تعزيز علاقات المنفعة المتبادلة مع دول مثل روسيا وإيران والصين، والتي تسعى غالبا إلى تقويض تلك المؤسسات.

– أما الإستراتيجية الثالثة فهي النفاق البسيط؛ فستتحدث أوروبا وكأنها شريك مسؤول، ولكنها تتصرف على النحو الذي يعظم أرباحها. وهذا هو المسار الذي سلكته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عندما التقت ترمب في واشنطن العاصمة.

فقد ألقت كل التصريحات الصحيحة حول منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والتجارة الحرة، ولكنها دافعت عن صفقة خاسرة مع الولايات المتحدة خارج هذه الأطر.

في الأشهر المقبلة، سيضطر العديد من القادة إلى الرهان على ما إذا كان النظام الليبرالي قادرا على البقاء، وما إن كان ينبغي لهم أن يستثمروا الموارد في جلب هذه النتيجة.

يتمتع الغرب كجماعة بالقوة اللازمة لدعم "النظام الليبرالي 1.0". ولكن إذا عجزت القوى الغربية عن الاتفاق على ما تريده من هذا النظام أو المسؤوليات التي يتعين عليها أن تضطلع بها، فمن غير المرجح حتى أن تحاول ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.