الدولة العميقة

البرلمان الاردني السابق


عند الغوص في تسمية مستجدة مثل "الدولة العميقة " ينبغي أن نلتزم بالتعريف العالمي لها، والأمر لا يحتمل أي تضليل حين يتعلق ببلد صغير وحديث النشأة ومرعي منذ قيامه كالأردن، وهو الآن في عين أكثر من عاصفة تعصف بالإقليم الذي تغيرت علاقات العالم الأول والدول الكبرى به، والأخطر أن التغير ما زال جاريا، وأحيانا يحصل خلال أشهر أو حتى أيام ولا يُعرف على ماذا سيرسو.

ونبدأ بأوضح مثال على "الدولة العميقة"، والذي أطلقت معه التسمية في تركيا في تسعينيات القرن الماضي حين تصدى الجيش لمهمة الحفاظ على علمانية الدولة التي أنشأها كمال أتاتورك ومحاربة كل ما يهدد مبادئها. ومن بعدها عممت على الحالات المشابهة بما فيه السابقة عليها كأميركا.

أميركا قامت فيها الدولة العميقة منذ إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية وقيام وول ستريت الممثل لمصالح الرأسمالية، وضم لهذين القوتين الإعلام كليا بتملك رأس المال له، لحين حدث الخرق التكنولوجي الحديث الذي حرر الإعلام والذي أثره ما زال محدودا، ولكنه كاف لوضع أميركا على مرحلة تغيير تصحيحي لبنية الدولة العميقة تمثل في فوز أوباما (أول مرشح رئاسة أحسن توظيف شبكة الإنترنت) وما أنتجته سياساته من عودة لمبادئ الدستور الأميركي العلماني وغير القومي أو الديني. فهو يبدأ بعبارة "نحن الرجال"، وذكر الدين جرى فقط لنفي أي تمييز يقوم على الديانة.. وهذا مما بعث الآن ضمن تصدي "الدولة العميقة" الأميركية لسياسات ترمب.

نواة الدولة العميقة تضم العسكر وأصحاب النفوذ السياسي والمصالح المالية، وتبعهم الإعلام بداهة قبل ثورة الإنترنت، وبسبب هذا التلاقي بين النفوذ العسكري والسياسي والمالي، فإن أساليب الدولة العميقة تجنح في الأغلب للعنف والقمع

والتسمية تنطبق على الدول القومية التي قامت في أوروبا بعد اتفاقية ويستفاليا للصلح، والتي أنهت حروبا طويلة في أوروبا وشكلت بداية قيام دول "قومية" مستقله ذات سيادة على حدود واضحة، وهو ذات ما نشأ عن انحسار الاستعمار الكولونيالي الأوروبي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وصولا لستينيات القرن الماضي. ومبدأ السيادة حفز نشوء "الدولة العميقة" مجسدة لمخاوف العودة لسيطرة خارجية على تلك الدول.

ولهذا فإن نواة الدولة العميقة تضم العسكر وأصحاب النفوذ السياسي والمصالح المالية، وتبعهم الإعلام بداهة قبل ثورة الإنترنت، وبسبب هذا التلاقي بين النفوذ العسكري والسياسي والمالي، فإن أساليب الدولة العميقة تجنح في الأغلب للعنف والقمع.. ولكن بعد تكرّس الديمقراطية، تصبح "الدولة العميقة" حامية لها باعتبارها وسيلة التغيير السلمي بدل المواجهات التي تضر أكثر من يملك أكثر ليخسره، كما يجري الآن في أميركا للتصدي لسياسات ترمب، ويجري في الانتخابات الأوربية التي قد تأتي بمتطرفين قوميين أو تودي بهم، أي أن "الدولة العميقة" ذاتها كائن متغير وليست هيئة مقدسة تسبغ الشرعية ببركاتها.

بعد هذه المقدمة التعريفية للدولة العميقة، ننبه لحقيقة أن عدم معرفة أي كائن لحقيقة التغيرات الجذرية في بيئته هو أخطر ما يمكن أن يواجه ذلك الكائن، سواء أكان كائنا حيا كالبشر، أو كيانا كالدول، ولهذا زودت الطبيعة الكائنات الأبسط بحواس تستشرف التغيرات الطبيعية بدقة عالية. وتاريخيا كان حراك قطعان الحيوانات أو أسراب الطيور مما يستدل به الإنسان على ذلك التغيير، وهو استدلال "عقلاني"، مراكمته بالعلم أدى لفهم وتفسير الظواهر الطبيعة ولاختراع أجهزة إنذار مبكر بالكوارث الطبيعية وأدوية لعلاج أو لمنع الأمراض.

والتغير الذي يؤثر في الكيانات السياسية ليس أقل بل أكثر أهمية وخطرا من الكوارث الطبيعة أو الأمراض، كونه يطال القاطنين في ذلك الكيان دون استثناء، وإن كانت تأثيراته السلبية بخاصة، أكبر على من يجلسون في المواقع السياسة المتقدمة. ولهذا فإنه عند كل حديث عن "الدولة العميقة" نجد الأمثلة المتأثرة بها والتي تساق حكما وحتما هي "شخوص الحكم" كأردوغان في تركيا ومرسي والسيسي في مصر وترمب في أميركا، وهذا يجعل التنظير والتحليل غير الدقيق أو غير الأمين، يرقى لمرتبة التضليل لهؤلاء، وهو ما يمارس لدينا في الأردن بزعم تأييد "الدولة العميقة" للسياسات الرسمية كما أورد مؤخرا كاتب قدير في ذيل مقالة، فيما يكرر كاتب أقل قدرة مقولة أن الشعب كله يؤيد كل قرارات الحكم بصك مفتوح صادر منذ قيام الإمارة، في حين أن وجود الدولة العميقة بهيئة واحدة دون تغيير أمر مشكوك فيه. ففي مراحل التغيير تغيب الدولة العميقة، إذ يزول معها العمق المعول عليه، ولكن نتيجة التغيير لا تلبث أن تتعمق.

وفي الأردن بدأت بذور الدولة العميقة تتشكل في عمان من قيادات سياسية لجأت إلى الأردن من سوريا ولبنان بعد سقوط دمشق في معركة ميسلون، وخاصة أعضاء من حزب الاستقلال، ومن زعامات حضرية من الشراكسة ومن الفلسطينيين الذي كانوا استقروا من قبل في عمان، ومن زعماء العشائر الأردنية التي كانت أيدت الملك فيصل.. وكان الهم الأكبر هو الحفاظ على استقلال شرق الأردن ليكون نواة لتحرير سوريا وفلسطين. ولهذا تم استقبال الأمير عبد الله ومبايعته، ولكن سنوات الإمارة شهدت تحول كثيرين للمعارضة (وصلت لمواجهات عسكرية مع ثورات لعشائر أردنية ترد مفصلة في كتب التاريخ وبخاصة كتب الدكتور عصام السعدي عن "الحركة الوطنية الأردنية")، كما شهدت خلافات عميقة مع الثوار الفلسطينيين بقيادة الشيخ عبد القادر الحسيني.

وانتهى عهد الملك عبد الله الأول باغتياله، وتولي ابنه الملك طلال العرش، وتعتبر فترة حكم الملك طلال القصيرة الفترة الذهبية في تاريخ المملكة، وفيها ظهرت الدولة العميقة المكونة من تلك النخب الحزبية والحضرية والعشائرية سواء الموالية أو التي كانت من قبل معارضة. وفيها صدر عام 1952 الدستور الأردني الذي تصدرت المطالبة بالعودة إليه وإلغاء كل التعديلات المدخلة عليه حراك الربيع الأردني.

 بدأت بذور الدولة العميقة بالأردن تتشكل في عمان من قيادات سياسية لجأت إلى الأردن من سوريا ولبنان بعد سقوط دمشق في معركة ميسلون، وخاصة أعضاء من حزب الاستقلال، ومن زعامات حضرية من الشراكسة ومن الفلسطينيين، ومن زعماء العشائر الأردنية

ولكن ضغوط بريطانيا الرافضة للملك طلال أدت لقيام ذات "الدولة العميقة" بقبول إصدار قرار نيابي بعدم أهليته صحيا، وتنصيب ابنه القاصر حسين، وقبل مغادرته البلاد أوصى الملك طلال خيرة هؤلاء بابنه، وبالفعل حمت تلك النخبة التي تقود الدولة العميقة الملك حسين لحين توليه الحكم ولما بعد ذلك، ولكن غلبة معيار المصالح على معيار المبادئ أدى لحل المجالس النيابية المنتخبة بنزاهة وإعلان الأحكام العرفية وحظر الأحزاب، وصولا لتعليق الحياة النيابية لأجل غير مسمى.. وهو ما أدى لانتفاضة لاحقة في 15 أبريل/نيسان 1989.

ومع أن تلك الانتفاضة أدت لعزل وتجميد أبرز رموز الدولة العميقة العرفية الذين تسببوا بتردي الأحوال لهذا الحد، ومع أن الأحزاب رخصت ثانية بعد مماطلة، وأمكن لقلة مؤهلة أن تصل للمجلسين النيابيين التاليين رغم استعادة تراث التزوير، فإن نهج التزوير وإملاءات "وادي عربة" قلصت فرص إعادة تشكيل أي جسم وطني مؤثر بأية درجة من العمق.

وزاد على هذا رحيل الملك حسين عن مجلس نيابي مزور بدرجة لا تسعف لا الدولة العميقة ولا حتى تلك التي تطفو كورقة على السطح، إذ غاب عند رحيله حتى اسم سياسي قدير على رئاسة الحكومة.. وجرى تغيير مفاجئ لولاية العهد ليبدأ عهد جديد كليا، ولكن لا يمكن القول إن "دولة عميقة" جديدة تكرست، لكون ذلك تلزمه امتدادات عميقة تعالج الشق الشعبي الذي ظهر في انتفاضة أبريل/نيسان، وعاد في حراك الربيع الأردني الذي يلتقي، هذه المرة، في العمق مع الربيع العربي.

وحتى قبل متغير الربيع العربي، ما عرضته في مقالتي المعنونة "الأردن إلى أين" المنشورة على هذا الموقع نهاية عام 2005، من سلسلة مخططات رئيسة يلغي بعضها البعض على امتداد سبع سنوات من العهد الجديد، يبين استحالة أن تكون تشكلت لحينها على الأقل "دولة عميقة". ويؤكد هذا انتكاس أو انقلاب أو حتى انتفاء دور أغلب ما يعدد الآن باعتباره من مكونات الدولة العميقة، مثل الأحزاب والنقابات المهنية واتحادات المزارعين ومؤسسة المتقاعدين.. الخ، والتي يقول الكاتب (سبق ذكره) وغيره إنها" كلها متطابقة تقريبا مع الدولة الرسمية".. والطريف أن الكاتب الذكي القدير بحق، يورد أيضا "المقاولين."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.