ماذا بعد معركة الباب؟

أفادت مصادر للجزيرة أن الجيش السوري الحر التابع للمعارضة المسلحة قطع، وبدعم من الجيش التركي، كافة الطرق على ما يسمى بـ قوات سوريا الديموقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، ومنعها من الاقتراب من مدينة الباب التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في ريف حلب الشرقي، حيث كانت قوات سوريا الديموقراطية تسعى جاهدة الوصول إلى المدينة والسيطرة عليها قبل الجيش الحر من أجل وصل مناطق سيطرتها في الحسكة والرقة بمناطقها في حلب.

خطة تركيا
خريطة جديدة
الرقة هي البوصلة

ماذا بعد حسم معركة الباب؟ سؤال بات يطرح بقوة بعد أن تمكنت قوات درع الفرات بدعم تركي مباشر من انتزاع السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). الجواب المباشر عن السؤال السابق، يدفعنا إلى القول إن المعركة المقبلة هي معركة الرقة، حيث تتطلع الأطراف المعنية إلى تحقيق انتصار حاسم في هذه المعركة للحصول على مكاسب سياسية.

وعليه، فإن السؤال الجوهري هنا يتعلق بهوية القوى التي ستقود معركة الرقة؟ وبأي شروط؟ وماذا عن العقبات والصعوبات؟ وماذا عن احتمالات الصدام بين الأطراف المتنافسة والمتصارعة على الأرض؟ والأهم: ماذا عن الموقفين الأميركي والروسي؟

خطة تركيا
من دون شك، حققت سيطرة القوات التركية على مدينة الباب جملة من الفوائد الكبرى لأنقرة انطلاقا من الأهمية الإستراتيجية لمدينة الباب، ولعل من أولى هذه الفوائد أنها أمّنت العمق الجغرافي لإقامة المنطقة الآمنة العازلة، إذ إن هذه المنطقة أضحت متحققة على الأرض بطول نحو 90 كلم وعمق قرابة 40 كلم، وبمساحة تقدر بنحو خمسة آلاف كلم على شكل مثلث يربط بين جرابلس والباب وإعزاز.

ولعل مثل هذا الأمر يقوي الموقف التركي أمام الأطراف الدولية في قضية إقامة مناطق آمنة، وربما يشجع الإدارة الأميركية الجديدة على ذلك بعد أن أعلنت عزمها إقامة مثل هذه المناطق، بغض النظر عن جدل المضمون والمفاهيم.

حققت سيطرة القوات التركية على مدينة الباب جملة من الفوائد الكبرى لأنقرة انطلاقا من الأهمية الإستراتيجية لمدينة الباب، ولعل من أولى هذه الفوائد أنها أمّنت العمق الجغرافي لإقامة المنطقة الآمنة العازلة، إذ إن هذه المنطقة أضحت متحققة على الأرض

الأمر الثاني، أن ما بعد معركة الباب رسم ما يمكن وصفه بمثلث التماس المباشر بين ثلاث قوى أساسية، هي: القوات التركية ومعها فصائل درع الفرات، وقوات النظام السوري وحلفاؤه، وقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) وحليفها الأميركي، ولعل كل طرف يحاول -في مرحلة ما بعد معركة الباب- رسم خطوط الحركة أو التمركز تطلعا إلى تحقيق أهدافه.

وعليه، يمكن القول إن خطة تركيا المقبلة لا بد من أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار عند التحرك نحو منبج وصولا إلى الرقة، حسبما أعلنه الرئيس رجب طيب أردوغان مرارا. ولعل تحقيق هذا الهدف يتطلب -إضافة إلى خطة عملية- اتفاقا أو تفاهما مع اللاعبيْن الرئيسييْن على الساحة السورية، أي الولايات المتحدة وروسيا.

وفي جميع الأحوال؛ فإن خطة تركيا تدور حول اعتماد أنجع الطرق للوصول إلى الرقة، وهي تبدو أمام خيارين يتضمن كل منهما صعوبات جمة:

– الخيار الأول: هو الأقصر والأسهل جغرافياً، ويعني التوغل عبر ممر تل أبيض/الرقة، ولكن مثل هذا الخيار بحاجة إلى اتفاق تركي/أميركي، وإلا فإن الصدام مع قوات سوريا الديمقراطية أكيد. وإلى الآن لا مؤشرات على اتفاق مع الأميركيين بهذا الخصوص رغم المحادثات المتواصلة بين الجانبين.

– الخيار الثاني: التوغل عبر ريف حلب الشرقي، أي عبر محور جرابلس/الباب/منبج. وهذا الخيار يبدو الأصعب لا بسبب أنه الأطول جغرافياً والأكثر كلفة عسكريا، بل لأن مثل هذا الخيار بحاجة -إضافة للاتفاق مع الجانب الأميركي- إلى اتفاق مماثل مع الجانب الروسي وموافقة النظام السوري.

ولعل هذا الخيار يحمل سيناريو الصدام مع كل من قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام، بعد أن توغلت هذه القوات شرقا وتكاد تكون قطعت الطريق أمام تقدم القوات التركية نحو الرقة.

في الواقع، تبدو تركيا -أمام هذين الخيارين الصعبين- محكومة بالتوصل إلى اتفاق مع كل من موسكو وواشنطن قبل التحرك إلى ما بعد الباب. ولعل هذا الأمر يجعل تركيا تفكر في إعادة سيناريو جرابلس بتطبيقه في منبج، أي التركيز على إقامة بنية تنظيمية وإدارية وخدمية في الباب ومحيطها، ريثما تنضج السيناريوهات المتعلقة بمعركة الرقة بشكل نهائي.

خريطة جديدة
إذا كان من الواضح أن القوات التركية ستعمل بعد الباب من أجل السيطرة على القرى والبلدات الواقعة بين الباب ومنبج وصولا إلى الأخيرة، فإن قوات سوريا الديمقراطية تركز في هذه المرحلة على أولوية حصار الرقة بقرار أميركي، دون أن يعني ما سبق عدم الدفاع عن منبج في حال تعرضت لهجوم تركي.

ومن الواضح كذلك أن قوات النظام تعمل على التمدد جنوبا والتوغل شرقا نحو سد الطبقة لقطع الطريق أمام القوات التركية، وربما تطلعا إلى دور في معركة الرقة انطلاقا من الاعتماد على دور الحليف الروسي والدعم الإيراني.

قوات النظام تعمل على التمدد جنوبا والتوغل شرقا نحو سد الطبقة لقطع الطريق أمام القوات التركية، وربما تطلعا إلى دور في معركة الرقة انطلاقا من الاعتماد على دور الحليف الروسي والدعم الإيراني

لكن يبقى التطور الأبرز هنا هو أن تحرير الباب من داعش رسم خريطة جديدة لنفوذ القوى المتحركة على الأرض، إذ ثمة اعتقاد بإمكانية قيام تحالف بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام في وجه أي توغل تركي، رغم تناقض أهداف الطرفين.

فمع أن النظام يعلن رفضه إقامة فدرالية في الشمال السوري وقوات سوريا الديمقراطية تجاهر بتحالفها مع الولايات المتحدة، إلا أن التحالف بينهما يوفر جملة من المصالح المشتركة للطرفين على الصُّعُد الأمنية واللوجستية والاقتصادية والسياسية، فالطرفان يصفان الدور التركي بالاحتلال.

ومثل هذا التحالف يحقق للكرد التواصل بين كانتوناتهم من القامشلي شرقا إلى عفرين في أقصى الشمال الغربي، فيما يحقق للنظام السيطرة على العديد من المناطق التي فقدها ولو شكليا، كما أنه يفتح المجال للمرة الأولى أمام التواصل الجغرافي بين أرياف حلب والرقة والحسكة، حيث عوامل النقل والانتقال والتجارة لها أهمية بالغة للطرفين في هذه المرحلة.

وفي إطار هذه الخريطة الجديدة، فإن دور القوى الكبرى -وتحديدا موسكو وواشنطن- يبقى أساسيا، سواء لجهة إنتاج تفاهمات ما أو حتى فتح الباب أمام صدام محتمل. لكن في جميع الأحوال، تبقى قضية الوصول إلى الرقة وتأمين ممرّ آمن لذلك قضيةً أساسيةً في الحسابات التركية.

الرقة هي البوصلة
حسب التفاهمات الأميركية/الروسية السابقة؛ يمكن القول إن معركة الرقة هي من نصيب أميركا وحليفتها أي قوات سوريا الديمقراطية، مقابل إعطاء  معركة دير الزور لقوات النظام وحليفيها الروسي والإيراني.

لكن انتزاع تركيا السيطرة على الباب عزز دورها وأوحى بأن تركيا ربما تتحول إلى لاعب أساسي في معركة الرقة، إذا ما انتهت المحادثات الأميركية/التركية إلى اتفاق بهذا الخصوص. إذ من الواضح أن المعضلة الأساسية التي تواجه تركيا في هذا المجال هي تحالف واشنطن مع كرد سوريا.

فحتى الآن لا تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى مثل هذا الاتفاق مع تركيا، إذ أنها ترى تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية هو الأنجع، خاصة بعد أن نجحت هذه القوات في نزع الطابع الكردي القومي عن تحركها، من خلال التحالف مع العديد من العشائر العربية وقوات سوريا الغد بزعامة أحمد الجربا، دون أن يعني ما سبق أن واشنطن حسمت خياراتها.

الإدارة الأميركية لم تُفصح عن خطتها بشكل كامل، وهي تنتهج سياسة لعبة التوازنات بين الحليف الإستراتيجي التاريخي (أي تركيا) والحليف الناشئ (أي كرد سوريا)، حيث تواصل إرسال الجنود والمستشارين وتقديم السلاح للكرد رغم الرفض التركي

فالثابت حتى الآن هو أن الإدارة الأميركية لم تُفصح عن خطتها بشكل كامل، وهي تنتهج سياسة لعبة التوازنات بين الحليف الإستراتيجي التاريخي (أي تركيا) والحليف الناشئ (أي كرد سوريا)، حيث تواصل إرسال الجنود والمستشارين وتقديم السلاح للكرد رغم الرفض التركي.

وإذا كان التمسك الأميركي بالحليف الكردي نابعا من تجربة أسستها الثقة بالخبرة القتالية للكرد ضد داعش، فإن الدور الروسي يبقى حاضرا في قرار أنقرة، إذ تدرك تركيا أن وصولها إلى الباب لم يكن ممكنا لولا التفاهم التركي/الروسي، الذي أنتجه التقارب بين البلدين قبل أن يتحول إلى آلية عمل بينهما في أستانا.

لكن تركيا تدرك أن هذا التفاهم ربما يكون مرحليا ومحدودا، في ظل الخشية الروسية من أن يؤدي الدور التركي إلى تحقيق أجندة خاصة تتعارض مع التفاهمات الأميركية/الروسية من جهة، والتحالف الروسي مع النظام وإيران من جهة ثانية.

وعليه، فإن التحرك التركي نحو الرقة لا بد من أن يأخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار، ويبقى مرهونا بحسم الإدارة الأميركية لقرارها بهذا الخصوص.

وفي جميع الأحوال، وإلى أن تتضح الأمور والتحالفات والاتفاقات والخطط؛ تبقى معركة الرقة بوصلة للجميع، لا بوصفها معركة عسكرية مهمة ستلحق ضربة قاصمة بتنظيم داعش، بل لكونها معركة فاصلة ستكون لنتائجها تداعيات كبيرة على مجمل الأزمة السورية ومساراتها السياسية.             

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.