صفقات التسوية الإقليمية والحروب المقبلة

A handout photo made available by the Egyptian Presidency shows Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (2-R), meets with US Secretary of State John Kerry (L), Jordanian King Abdullah II (2-L) and Palestinian President Mahmoud Abbas (R) in Sharm El-Sheiikh, Egypt, 13 March 2015. EPA/EGYPTIAN PRESIDENCY/HANDOUT

حلول بتداعيات كارثية
حلول تمهد للحروب
تحالفات إقليمية خطيرة

من المُحزن والمُخجل أن تكشف الصحف الإسرائيلية عما يقوم به بعض المسؤولين العرب في السر. فقد كشفت صحيفة هآرتس مؤخرا عن لقاء سري تم في 21 فبراير/شباط 2016 بمدينة العقبة، وجمع جون كيري وبنيامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي وعبد الله الثاني، وعرض خلاله كيري ما اعتبره "مبادرة سلام إقليمية".

تتضمن "خطة كيري" هذه ستة بنود قد تبدو شكلاً راميةً لسلام ما إلا أنها في حقيقة الأمر تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وتمهيد المنطقة لتحالفات وحروب مدمرة. وفيما يلي بعض الملاحظات التي تغيبها اللقاءات السرية ومشروعات التسوية الإقليمية.

حلول بتداعيات كارثية
أولا: القنوات السرية كانت كارثية على قضيتنا المركزية (قضية فلسطين)، فقد جربها العرب عندما فتحت منظمة التحرير الفلسطينية مفاوضات سرية عُرفت فيما بعد بمسار أوسلو الذي انتهى إلى كوارث حقيقية، إذ تم تجريم المقاومة وحصارها، وزرع الانقسامات بين الشعب الفلسطيني، وتغيير الأوضاع على الأرض بعد ابتلاع معظم مساحة الضفة الغربية والقدس لصالح مشاريع الاستيطان الكولونيالي.

هذا مع أن الشعوب العربية لم تُفوض حكامها في التصرف في هذه القضايا المصيرية، لا عبر آلية انتخاب حر ولا عبر دعم شعبي حقيقي. بل على العكس، تتناقض هذه السرية مع رفض شعوب المنطقة للمشروع الصهيوني كما يظهر في استطلاعات الرأي الموثوق بها، وفي مناسبات التضامن المختلفة عندما تتاح للشعوب فرصة النزول إلى الشارع.

ثانيا: البند الأول في خطة كيري يشير إلى حدود 1967 إلا أن بقية البند تُفرغ هذا الأمر من مضمونه عندما نصت على "تبادل متفق عليه للأراضي". إن وضع فكرة التبادل في تسوية إقليمية هو تنفيذ لخطط إسرائيلية تروّج منذ سنوات لحل المشكلة الديمغرافية لدولة الاحتلال.

الشعوب العربية لم تُفوض حكامها في التصرف في قضاياها المصيرية، لا عبر آلية انتخاب حر ولا عبر دعم شعبي حقيقي. بل على العكس، تتناقض سرية هذه الصفقات مع رفض شعوب المنطقة للمشروع الصهيوني كما يظهر في استطلاعات الرأي الموثوق بها، وفي مناسبات التضامن المختلفة عندما تتاح للشعوب فرصة النزول إلى الشارع

فالكُتل الاستيطانية الكبرى بالضفة يتم ضمها لدولة الاحتلال مقابل ضم غالبية المواطنين العرب داخل الخط الأخضر لأجزاء من الضفة، مع توسيع غزة على حساب أجزاء من سيناء المصرية. وهذا الأمر غير ممكن تنفيذه عمليا إلا عبر الحرب والتهجير القسري تماما مثل فكرة يهودية الدولة وكقرار التقسيم، كما سنشير إليه لاحقا.

وتوحي عبارات أخرى في الخطة بأنها تقدم حلولا ما، لكن بقية العبارات تفرغ هذه الحلول من مضامينها، فمسألة اللاجئين لابد لها من "حل عادل" لكن دون أن يؤثر هذا الحل على "الطابع الأساسي لإسرائيل"، و"حل الدولتين" قائم شكلا لكن مع "الاستجابة للاحتياجات الأمنية لإسرائيل، وضمان قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بشكل فاعل"، في ظل دولة فلسطينية "منزوعة السلاح".

ثالثا: لا تعني فكرة الدولتين شيئا من الناحية الفعلية، وقد تم إسقاطها عمليا على لسان نتنياهو والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في المؤتمر الصحفي -الذي عقداه في 16 فبراير/شباط 2017- بعد أن استنفدت الفكرة وظائفها، وذلك رغم تضارب المواقف الأميركية الأخيرة تجاه المسألة.

منذ أن روّجت حكومات أحزاب اليسار والوسط الإسرائيلية خلال أوسلو لحل الدولتين، اعتبرته منظمة التحرير الفلسطينية ومجموعة الدول العربية المعتدلة إنجازا كبيرا على طريق استرداد الحقوق الفلسطينية.

لكنّ الحكومات الإسرائيلية عمليا دخلت عملية التفاوض ليس للوصول إلى هذا الهدف، فإسحق شامير -رئيس الحكومة الإسرائيلية وممثلها في مؤتمر مدريد عام 1991- أعلن أن موافقته على دخول المسار التفاوضي كانت بهدف التفاوض لمدة 100 عام وعدم التنازل عن شيء.

سياسات من جاؤوا بعد شامير من اليمين واليسار كانت تنفيذا أمينا لما أراده هذا الأخير، فقد أدت عملية التفاوض (برعاية أميركية وعربية) إلى نتائج كارثية، إذ تضاعفت أعداد المستوطنين والمستوطنات بشكل تستحيل معه إقامة أية دولة على ما تبقى من أرض الضفة الغربية.

وتم دفع منظمة التحرير إلى إسقاط خيار المقاومة المسلحة، وتحولت المنظمة إلى سلطة فلسطينية تقمع أي تحرك مقاوم ضد جنود دولة الاحتلال. هذا بجانب إعادة تعريف المشكلة الفلسطينية من مسألة أرض مغتصبة وحقوق مسلوبة إلى مسألة اقتصادية، وبالتالي صار تعزيز الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني هدفا وحلا تعويضيا عن بقاء الاحتلال.

وكان من تداعيات أوسلو أيضا مطالبة الشعب القابع تحت الاحتلال بأن يكون ديمقراطيا قبل أن يكون حُرّا، فسُحب الناس إلى الانتخابات، فإلى التنافس، فكان الانقسام، ثم كان الحصار بحجة إسقاط حركة حماس منذ أكثر من عشر سنوات.

ومع ضعف الحكومات العربية، تحدث نتنياهو في البيت الأبيض عما أسماه شروط السلام، وهي: اعتراف الفلسطينيين بدولته كدولة يهودية، ووقف ما أسماه خطاب الكراهية والعنف في المدارس الفلسطيني، والتسليم لدولة الاحتلال ببسط كامل سيطرتها أمنيا على الجانب الشرقي لنهر الأردن. وهذه أمور قدمها الفلسطينيون كتنازلات بلا أي مقابل يذكر منذ أكثر من ربع قرن في إطار عملية أوسلو.

حلول تمهد للحروب
رابعا: مسألة يهودية الدولة ليست جديدة، فقد نجح أرييل شارون في فرضها على جورج بوش خلال ولايته الأولى لعرقلة المفاوضات، مطالبا الفلسطينيين بالاعتراف بدولة الاحتلال كدولة يهودية وديمقراطية معا. لكنها أيضا مسألة لم تحسم داخل دولة الاحتلال حتى يمكن تصور فرضها على العرب، وهناك خلافات بين المتدينين أنفسهم في تعريف من هو اليهودي.

وتفترض الفكرة وحدة يهود العالم والنظر إليهم على أنهم شعب واحد، وهذه أسطورة روّجت لها الحركة الصهيونيةلتجمع الجماعات اليهودية المختلفة في العرق والمذهب واللغة والتاريخ.

إقامة دولة يهودية تتناقض مع أسس الدولة الحديثة التي وصل لها الغرب بعد صراعات دينية مدمرة، لأنها تقضي على مبدأيْ المواطنة والتسامح، وستؤدي عمليا إلى طرد مليون ونصف مليون فلسطيني من المسلمين والمسيحيين، والقضاء على هويتهم وعلى لغتهم العربية

كما أن إقامة دولة يهودية تتناقض مع أسس الدولة الحديثة التي وصل لها الغرب بعد صراعات دينية مدمرة، لأنها تقضي على مبدأيْ المواطنة والتسامح، وستؤدي عمليا إلى طرد مليون ونصف مليون فلسطيني من المسلمين والمسيحيين، والقضاء على هويتهم وعلى لغتهم العربية.

هذا فضلا عن أن دولة الاحتلال تعاني من هجرة عكسية، ويعيش ما يقارب سدس سكانها في الخارج. وهذه الفكرة -مثلها مثل فكرة تبادل الأراضي- تعدّ مقدمة لحروب مدمرة لأنه لا يمكن تنفيذها إلا بالقوة.

خامسا: البند الثاني من "خطة كيري" تحدث عن "تحقيق رؤية قرار الأمم المتحدة رقم 181″ أي قرار التقسيم، وهذا أمر غير ممكن عمليا إلا بأمر يتناقض كلية مع الخطة هو تفكيك دولة الاحتلال الحالية، لأن حدود هذه الدولة الأخيرة لم تُرسم طبقا لهذا القرار وإنما جاءت نتيجة حرب 1948 الإسرائيلية العدوانية.

قرار التقسيم -الذي يتحدث عنه الأميركيون بعد سبعين سنة من إصداره- قرار ظالم في الأساس ولا يمكن بناء "حل عادل" عليه. فقد طلب القرار من عرب فلسطين عام 1947 التنازل عن 49.5% من مساحة فلسطين لكي يتم تنفيذ القرار. وهذه هي المساحة التي تمثل الفارق بين ما كان تحت سيطرة العصابات الصهيونية فعلا وما أعطاه قرار التقسيم لهم.

فقد أعطى القرار العرب -الذين كانوا يمتلكون 93% من الأرض- نحو 44% من أرض فلسطين التاريخية، بينما منح الجماعات اليهودية -التي هُجرت من كافة أنحاء العالم، وكانت تستولي على نحو 7% فقط من الأرض عام 1947 (بعد عمليات قمع العرب وقتلهم وطردهم بمساعدة الإنجليز)- نحو 56.5% من فلسطين.

تتجاهل الحكومات الغربية والعربية هذا كله، وتتجاهل أيضا أن عملية التصويت على القرار تمت عبر ممارسات أميركية مشينة، شملت كل أنواع الضغط والتهديد والرشوة لتأمين موافقة ثلثي الأعضاء.

وهو ما وثقه الكثير من الغربيين، ومن بينهم وزير الدفاع الأميركي آنذاك جيمس فورستل الذي أشار في مذكراته إلى أن هذا القرار لم يكن عمليا لأنه لا يمكن تطبيقه إلا بالقوة المسلحة، كما أشار إلى أن وزارة الخارجية الأميركية توصلت إلى ذات الخلاصة. ذات الممارسات تمارس اليوم ولو بأشكال مختلفة.

وما تم في النهاية هو أن القرار نُفذ بالقوة، إذ وسّع الجيش الصهيوني عام 1948 الأرض التي كانت بحوزته من 7% إلى 77%، مدمرا أكثر من 400 قرية فلسطينية من أصل نحو 518 قرية تم احتلالها، ثم اغتصب عام 1967 بقية أراضي فلسطين ومعها الجولان وسيناء.

تحالفات إقليمية خطيرة
سادسا: أما المقصد الأهم من "خطة كيري" فقد ورد في النقطة السادسة والأخيرة، والتي نصت على "إنهاء الصراع، ووضع حد للمطالب (العربية)، بما يتيح تطبيع العلاقات وتوفير أمن إقليمي للجميع، بما يتماشى مع رؤية مبادرة السلام العربية".

كان محور اهتمام نتنياهو وترمب -في لقائهما الأخير- هو تطوير تعاون إقليمي ضد هدفين لا علاقة لهما بمسألة فلسطين، رغم أن كلامهما كان في إطار الحديث عن حل الصراع؛ وهما: "مواجهة الخطر الإيراني" و"محاربة التطرف الإسلامي الراديكالي"

وبهذا تنسجم "خطة كيري" مع ترتيبات كبرى لتحضير المنطقة لقيام تحالفين كبيرين متحاربين، شيعي وسني. وهذا ما أكدته صحيفة وول ستريت جورنال في 15 فبراير/شباط، استنادا إلى دراسات لمراكز بحوث يمينية تستهدف إقامة حلف عسكري استخباراتي مع دولة الاحتلال لمحاربة الإرهاب ومواجهة إيران.

وكان محور اهتمام نتنياهو وترمب -في لقائهما الأخير- هو تطوير تعاون إقليمي ضد هدفين لا علاقة لهما بمسألة فلسطين، رغم أن كلامهما كان في إطار الحديث عن حل الصراع؛ وهما: "مواجهة الخطر الإيراني" و"محاربة التطرف الإسلامي الراديكالي". أي إدخال المنطقة في حقبة من الإفناء الذاتي المتبادل بين السنة والشيعة.

أخيرا: لن يتحقق سلام في المنطقة إلا بتفكيك ركيزتيْ دولة الاحتلال وهما: العنصرية والتمييز على أساس ديني، والتوسعية وشرعنة اغتصاب الأرض وطرد أهلها وجلب الغرباء إليها.

واللقاءات السرية والصفقات الإقليمية لن توصلنا إلى هذا أبدا، ولهذا لا يمكن لقوانا العربية الحية إلا الاستمرار في فضح مخططات تصفية القضية والزج بالمنطقة في صراعات مدمرة، والتمسك بالثوابت والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتوحيد صفوفه، والتفاعل مع كل القوى الحية في الغرب والشرق لفضح دولة الاحتلال وتفعيل مقاطعتها على كل الأصعدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.