النظرة الدولية الإيجابية لقطر في تصديها للحصار

Qatar's Emir Tamim bin Hamad Al Thani (L) US President Donald Trump (2L), US Secretary of State Rex Tillerson (3L), US Secretary of the Treasury Steven Mnuchin (3R), National Security Advisor H. R. McMaster (2R), Senior Advisor Jared Kushner (R) and others wait for a meeting at the Palace Hotel on September 19, 2017 in New York City, on the sidelines of the United Nations General Assembly. / AFP PHOTO / Brendan Smialowski (Photo credit should read BRENDAN SMIALO

لم يكن الزعيم الألماني أدولف هتلر يتصور أن نتيجة الحرب الشرسة التي كان يخوضها ستكون انتصارا باهرا لدولتين مختلفتين عن الدول التي بدأ الحرب معها، ولا عن الإمبراطوريتين اللتين استنزفتا دولَ المحور، واستنزفتهما ألمانيا ودولُ المحور.

لكن مجريات التاريخ غيرت طبيعة الحروب الكبيرة والصراعات، فجعلت أهم نتيجة للحرب العالمية الثانية تتمثل في بروز قوتين متضادتين هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وبرزت معهما قوة ثالثة تأجل الاعتراف بها إلى حين بناءً على ما تآمرت به عقلية المركزية الأوروبية، التي لم تكن قد حسبت حساب الصين المنتصرة ولا اليابان المنهزمة.

بعد أقل من ثلاثة عقود؛ لم يكن الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف يتصور -في أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣- أن تباطؤه (الذي كان قد أصبح من لوازمه لا من صفاته فحسب) سيكون بداية لنهاية الأسطورتين الشيوعيةوالسوفياتية معاً.

علّمنا التاريخُ أنه يوجد دوما في مكان ما مَنْ يستطيع أن يصل إلى الحقيقة فيما يتعلق بمستقبل النزاعات أو الصراعات أو الحروب، مهما كانت كثافة الغبار المثار والمستثار، وهو من يلجأ إلى أسلوب الدراسة المتأنية التي يجريها أصحابها بالعقول الباردة، التي يتلاشى معها تأثير الحُجُب التي تخلقها المعاصرة

لكن الدارس المنصف للتاريخ يستطيع أن يدرك -بكل وضوح- أن الزعيم نيكيتا خروتشوف لو كان لا يزال هو سيد موسكو في أثناء تلك الحرب؛ لكان الزهو الأميركي المعتاد قد تحطم أو تزلزل بالصواريخ السوفياتية التي كانت في أيدي العرب، ساحبا معه بعض سمعة التفوق العسكري الأميركي إلى مرحلة متأخرة تبدو معها أميركا عملاقا فاقدا العقل العسكري المتناسب مع عملقته.

لكن نوم بريجنيف فترات طويلة وبطء أوامره وغياب ردود أفعاله أعطى ريتشارد نيكسون -ومعه هنري كسينجر- فرصة لا تزال تعتبر نادرة الحدوث على مدى التاريخ الإنساني.

علّمنا التاريخُ أيضا أنه يوجد دوما في مكان ما مَنْ يستطيع أن يصل إلى الحقيقة فيما يتعلق بمستقبل النزاعات أو الصراعات أو الحروب، مهما كانت كثافة الغبار المثار والمستثار، وهو من يلجأ إلى أسلوب الدراسة المتأنية التي يجريها أصحابها بالعقول الباردة، التي يتلاشى معها تأثير الحُجُب التي تخلقها المعاصرة (وهي حُجُب كثيرة تجمع العواطف المسبقة والانفعالات الناشئة عن التصرفات).

وقد كان في وسع أصحاب مثل هذه العقلية الباردة أن يصلوا إلى توقع النتائج التي لم يتصورها قادة الصراع وبالتالي لم يتوقعها هتلر أو بريجنيف؛ مع أننا الآن نراها -بفضل هذه الدراسات الهادئة- وقد أصبحت هي الحقيقة الواقعة التي لا يمكن تصور غيرها، وهو ما لم يكن ممكنا الجهر به ولا التفكير فيه طيلة وقت الحرب.

ومن الطبيعي أن نقول الآن إن ذوي البصيرة كانوا يرون أن النتيجة لن تخرج عن ذلك الطيف من التوقعات، بصرف النظر عن ترتيب الفائزين وتحديد مصير الخاسرين، والسبب في هذا بسيط جدا وإن كان إدراكه يتطلب صفاء للذهن من نوع خاص.

في ضوء هذه التجارب وما توحي به في موضوعنا (على نحو ما صورنا من نتائج تهور زعيم وشيخوخة آخر)؛ فإننا إذا أردنا أن نوظف تجربة الإنسان المعرفية في فهم ما حدث -ولا يزال يحدث- في مؤامرة حصار قطر؛ فإننا نستطيع أن نعتمد على حقيقتين ماديتين بارزتين:

أولا: أن كثيرا من المعطيات لا تعبّر عن نفسها -أو بالأحرى عن قوتها- بضجيجها وإنما بصداها؛ وبلغة السياسة فإنها تعبر عن نفسها بردود أفعال الآخرين على فعلها، بأكثر مما تعبر به عن نفسها بقوة الفعل من حيث الجهد المبذول فيه.

وإذا أردنا ترجمة تطبيقية أو عملية لهذه الحقيقة الفيزيقية فبوسعنا أن نراها في تقييمنا التلقائي لقوة مصابيح الإضاءة الكهربية التي لا يخلو منها أي حيز في حياتنا المعاصرة؛ فنحن نعرف أننا نقيس قوة هذه المصابيح بوحدة قياس المقاومة الكهربية التي تقاس بـ"الوات"، ولا نقيسها بالوحدة التي يقاس بها الجهد الكهربي وهي "الفولت".

حين استندت قطر إلى بنى ذاتية مؤثرة وأوراق ضغط ذكية وقيم إنسانية رفيعة؛ فإن دول الحصار آثرت -من قبل البداية- أن تنحَّي هذه القيم والأوراق والبنى الهادئة جانبا، وأن تعتمد بدلا منها على ما بدا وكأنه أكثر نجاعة أو فعالية من قبيل التوازنات المفتعلة والتحالفات "المتشخصنة" الممولة والمخاوف "الغربية" المبررة

هذه بالضبط وعلى وجه التحديد هي كلمة السر في فهم المواجهة القطرية الذكية لحصار مفاجئ أو مباغت تطور، بحكم الزمن إلى صراع متعقد.

ثانيا: أن مسيرة الصراع تحددت على نحو غير متوقع من جانب مَنْ فرضوه، فلم تتحدد هذه المسيرة بمدى قوة ما يملكه طرفا الصراع من الأدوات القوية التأثير، وإنما تحددت كنتيجة للفارق البارز في طبيعة هذه الأدوات.

فحين استندت قطر إلى بنى ذاتية مؤثرة وأوراق ضغط ذكية وقيم إنسانية رفيعة؛ فإن دول الحصار آثرت -من قبل البداية- أن تنحَّي هذه القيم والأوراق والبنى الهادئة جانبا، وأن تعتمد بدلا منها على ما بدا وكأنه أكثر نجاعة أو فعالية من قبيل التوازنات المفتعلة والتحالفات "المتشخصنة" الممولة والمخاوف "الغربية" المبررة.

ومن الإنصاف للحقيقة أن نقول الآن إن تخطيط دول الحصار كان يبدو أقرب ما يكون للنجاح، اعتمادا على ما كانت أدواته تختزنه من قدرات مضمونة للتأثير الفاعل والسريع.

 لكن قدرا معقولا من التأمل يجعلنا ندرك أنه شتان ما بين طبيعة النجاحين اللذين كان يمكن لهاتين الحزمتين من الأسلحة أن تحققاهما في معركة خُطّط لها لتكون خاطفة، لكن شِيءَ لها بعد يومها الأول أن تكون طويلة الأجل، ومن ثم استحقت صفة من قبيل "المصيرية" لتجاوزها معنى الغارة وتقنية الإغارة وعنصر المفاجأة، وإن كانت قد احتفظت بطابع المغامرة وبروح المناورة.

فإذا انتقلنا إلى ميدان النتائج فإننا نجد أن المعقبات الدولية للحصار لم تكن تدور بخلد أي واحد من هؤلاء الذين شاركوا في افتعال مبرراته ثم في اتخاذ خطوات إنفاذه.

وحتى الآن؛ فإن أيا منهم ليس على استعداد لأن يتقبل ما ينسبه هذا المقال إليهم من مسؤوليتهم المباشرة عن خلق دوامات من الصراع الإستراتيجي في آفاق بعيدة عن الخليج العربي وصراعه (مع أن هذا كان من الممكن أن يكون مصدرا للافتخار)، لكن الحقيقة تبقى دالة على ما وصفتُه مرات بأنه السلوك الحتمي للسوائل في أواني (وأوعية) السياسة الدولية المستطرِقة.

وربما يمكن لنا أن نكشف عن عاملين مهمين لتفسير ما حدث على نحو ما حدث:

1- على غير المعهود في كل النزاعات الشبيهة؛ فاجأت قطر محاصريها والأوساط الدولية باللجوء إلى طراز هادئ من النجاح، كان يُصنَّف دوما بأنه نجاح غير مؤثر ونجاح غير مطلوب أو نجاح هين، فإذا بقطر -مع تمسكها به بصدق وإخلاص- تحوله يوما بعد يوم وبالتدريج من نجاح شكلي غير فاعل إلى رقم صعب لا يمكن تجاوزه بسهولة.

على غير المعهود في كل النزاعات الشبيهة؛ فاجأت قطر محاصريها والأوساط الدولية باللجوء إلى طراز هادئ من النجاح، كان يُصنَّف دوما بأنه نجاح غير مؤثر ونجاح غير مطلوب أو نجاح هين، فإذا بقطر -مع تمسكها به بصدق وإخلاص- تحوله يوما بعد يوم وبالتدريج من نجاح شكلي غير فاعل إلى رقم صعب لا يمكن تجاوزه بسهولة

ليس صعبا على القارئ أن يدرك أنني قصدت النجاح القطري في إدخال -بل في حبس- كل جزيئة من جزيئات الصراع داخل ميدان (أو بالأحرى: مستودع) القوانين الدولية بتشعباتها وتجلياتها اللانهائية.

وقد فعلت قطر هذا حتى فيما يخص حركة الطيران، ومن الطريف أن البحرين والإمارات اضطرتا إلى تطبيق القانون، بينما ظهر للعالم أن الدولة الكبرى (وهي السعودية) لا تزال -بالإرادة أو بالكسل أو بالتكاسل- بعيدةً عن عضوية منظمات ومؤسسات دولية من قبيل منظمات الطيران المدني. وهو ما أعطى صورة سلبية عن المملكة كان الأهون منها أن تلتزم بمعايير المنظمة الدولية طواعية حتى وإن لم تكن عضوا فيها.

2- كانت النتيجة التلقائية لهذا الحبس الفاعل نجاحا قطريا آخر في تبريد المناطق المجاورة لنقاط الغليان في الصراع؛ صحيح أن التبريد مكلف شأنه في هذا شأن التسخين في الغلايات (كما هو الحال في توليد الطاقة اللازمة للصناعة) وربما أنه أعلى كلفة، لكن ميزة التبريد أنه يصب في مصلحة المعتدى عليه ويخصم من أرصدة المعتدي.

وذلك بما يوفره مبدئيا من وقت كافٍ لصناعة رأي خارجي تجاه الصراع؛ وهو ما حدث بالفعل في جزئيات كثيرة من أطروحات الموضوعات الإعلامية ذات الضجيج، والتي كان الحديث الإماراتي فيها زاعقا وصاعقا دون دليل، وسرعان ما بدا -مع التأمل الذي أتاحه مرور الزمن ومع عجزه عن تطوير صدقيته ومصداقيته- في صورته الحقيقة: نشازا جهيرَ الصوت لأنه تم عزفه بأجهزة قوية فحسب.

وليس من المبالغة القول بأن أصداء تجربة قطر -في معالجتها لقضيتها- امتدت إلى كل من طلبوا الانحياز إلى الشرعية، بما في ذلك مَنْ استطاعوا تحجيم نزعات الانفصال في كردستان العراق وكتالونيا بإسبانيا على حد سواء.

وليس ببعيد أن تعلن الولايات المتحدة نفسُها أنها ستكف عن الاستجابة للنزعات الكاريزمية لرئيسها الجديد مهما بدت مثمرة، وأنها ستعود إلى عقلها الواعي المتحسب بالشرعية والمحتسب لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.