الثمن الذي بدأت دول الحصار دفعه

Bahraini Foreign Minister Sheik Khalid bin Ahmed Al Khalifa (L) walks in to a press conference as Saudi Foreign Minister Adel bin Ahmed Al-Jubeir, Egypt's Foreign Minister Sameh Shoukri and United Arab Emirates Foreign Minister, Sheikh Abdulla bin Zayed bin Sultan Al Nahyan follow him for a joint press conference after the foreign ministers of Saudi Arabia, Bahrain, the United Arab Emirates and Egypt meeting to discuss their dispute with Qatar, in Manama, Bahrain July 30, 2017. REUTERS/Hamad I Mohammed TPX IMAGES OF THE DAY

يشيع في الكتابات السياسية المعاصرة -ومن ثم في العقليات القارئة للأحداث- أن المبادرة بالحرب تضمن للمهاجم المباغت قدراً كبيراً من النصر المؤكد، كما أنها تضمن له تأمين نسبة عالية من احتمالات الفوز الفارق في كل الميادين.

وليس من شك في أن مجمل هذه العقيدة صائب إلى حد كبير، لكن الفكرة نفسها -من حيث هي تعبير حاد عن التوازن الاجتماعي- تبقي أسيرة لظروف متعددة، ترتبط بحالة النسيج المجتمعي والاجتماعي ومكوناتهما السابقة في الوجود (وربما في الأهمية أيضا) على عنصر المباغتة، وتبدو سلامة الطرح الذي يقدمه هذا التحفظ في مجال المعركة -بصفتها المرحلية- بصورة أوضح منها في مجال الحرب، بما تعنيه الأخيرة من زمنية ممتدة للنزاع.

بل إن التاريخ حفظ لنا من أمثلته الحية الشاهدة ما يؤيد الاستثناء بأكثر مما يؤيد القاعدة المحبِّذة لمميزات المباغتة؛ فقد أثبتت الخبرات الميدانية أنه كثيرا ما انقلبت الآية فجعلت المباغِت الذي شن الحرب أكثر معاناةً من معقبات الحرب واستنزافاتها، على نحو ما حدث في كثير من الجبهات خلال الحرب العالمية الثانية.

في كل التدخلات غير العادلة تضاءل حظ المقتحِمين أوالمباغِتين بتحقيق أي أمل في الانتصار أو التقدم، وكان هذا التضاؤل يزداد وثوقا وواقعية مع مرور الزمن حتى انتهى -في كثير من الأحوال- إلى التلاشي. ومن اليسير على المتابعين لمثل هذه الصراعات أن يعودوا بالسبب في فشل المقتحِمين أو المتدخلين إلى مجموعة من العناصر المختلفة

بل وعلى نحو ما حدث للتدخل الأميركي في فيتنام، والتدخل المصري في اليمن، وتدخل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان؛ ففي كل هذه الاقتحامات غير العادلة تضاءل حظ المقتحِمين أوالمباغِتين بتحقيق أي أمل في الانتصار أو التقدم، وكان هذا التضاؤل يزداد وثوقا وواقعية مع مرور الزمن حتى انتهى -في كثير من الأحوال- إلى التلاشي.

من اليسير على المتابعين لمثل هذه الصراعات أن يعودوا بالسبب في فشل المقتحِمين أو المتدخلين إلى مجموعة من العناصر، التي ترتبط بقوة وصلابة الجبهات الداخلية للشعوب والمجتمعات التي عانت من مباغتة هذه التدخلات؛ وإلى عناصر أخرى تتعلق بتوافر الدعم الخارجي (العلني أو السري) الذي حصلت عليه هذه المجتمعات من قوى إقليمية أو دولية؛ وإلى عناصر ثالثة تتمثل في تحولات التغيرات والمستجدات الدولية ذات التأثير المباشر وغير المباشر، والتي تجعل من الظروف غيرالمواتية ظروفاً مؤازِرةً (والعكس).

بيد أننا في مقامنا هذا نحب أن نوجه العناية إلى مجموعة أخرى من العوامل الخاصة، التي كوّنت طيفا آخر من أطياف التأثير المنحاز إلى صف المُستهدَفين بالظلم، على نحو ما تكشّف على أرض الواقع طيلة خمسة أشهر من حصار قطر.

أول هذه العوامل هو التأثير العكسي للإفراط في استخدام الحملات الإعلامية، وخاصة مع فجاجة وتدني هذه الحملات التي استدعت نموذجا مقيتا وباليا من أساليب خداع الجماهير. ومن الإنصاف أن نقول إن الإفراط -في حد ذاته- كان هو سبب الفشل بأكثر مما كان السبب راجعا إلى تدني الأسلوب.

وهنا يسهل عليّ أن ألجأ إلى تشبيه حالة الإفراط في الحملات الإعلامية بما هو معروف عن آليات التسخين في الغلّايات المصاحبة لتوليد الطاقة في المصانع، ذلك أن زيادة درجات التسخين -على نحو متصل ومستمر- تتحول تلقائيا من إنجاز الغليان المطلوب للتشغيل إلى إحداث نوع من التبخير الخطر، الذي يُفقد الماء طبيعته السائلة وينقله إلى طبيعته الغازية المتطايرة.

فإذا لم يستخدم هذا البخار المتولد في التشغيل أو الكبس أو التحريك فإنه إما أن يقود إلى الانفجار إذا لم يجد طريقا للتسريب، أو إلى فقدان الذات إذا ما أصبح التسريب هو طريقه الآمن أو الوحيد.

ومن المؤكد أن التوظيف الإعلامي المفرط للصحافة الورقية والفضائيات والكتائب (التويترية والفيسبوكية) المؤيدة للحصار والحاثة عليه؛ قد وصل إلى هذا المأزق مرات عديدة لم يكن المخططون قد تحسبوا لها، لكنهم -إحقاقا لحقهم في التقييم المهني العادل- تنبهوا فأوقفوا ماكيناتهم الإعلامية أكثر من مرة، وتريثوا لإعادة تقييم الأمور، بيد أن "نداهة السياسة" كانت سرعان ما تعيدهم إلى معمعة التضليل المحبب إلى قلبها.

أما العامل الثاني الذي انقلب في تأثيره على دول الحصار؛ فيتمثل فيما بدأ يصيب القوى الاقتصادية في الجبهة الداخلية لهذه الدول، من اضطراب في علاقات الإنتاج والتواصل نتيجة الحصار وتعسفاته غير المنطقية، ولم يقف الأمر -في مثل هذا التأثير- عند العائلات والشركات التي تتماسّ مسارات حياتها مع مسارات وآليات قرار الحصار وفلسفته فحسب.

بل إنه امتد إلى قطاعات واسعة من الجماهير في عصر يتسم بتشابك المصالح، بدرجة لا يمكن معها العثور على خيط بعينه في قماشة كبيرة لم تقم على النسج وحده، وإنما استصحبت وسائل أخرى كالصب والاستنساخ والتلوين. ويكفيني -في هذا المقام- أن أشير إلى أمثلة متناثرة للتأثر المباشر الذي لم يحسب الحصار له حسابا في تخطيطه.

تعرضت التوجهات السياسية والدينية -بسبب ممارسات الحصار وروحه- لاختبارات قاسية، لم تكن واردة إطلاقا في حسبان المخططين؛ فإذا بهذه الاختبارات الفاصلة تتسابق لتفرض نفسها على أرض الواقع. وتجلى الاختبار الأول في الشرخ الكبير الذي أصيبت به الصورة الذهنية المرتبطة بتمسك النظام السعودي بقيم الدين الإسلامي في معاملة الأخ وذي القربي والجار

فقد تكون سوق السياحة القطرية فقدت كتلة السياح السعوديين الذين يقضون نهايات الأسبوع في الدوحة، لكن الخسارة السعودية المصاحبة لهذه الخسارة القطرية كانت أكبر بالطبع، وإن جاءت تكلفتها مباشرة من جيوب السعوديين والمقيمين.

وبالطبع فإن الاضطراب المالي والتشغيلي لم يقف عند السياحة البرية، بل ظهر بصورة أكثر تأثيرا وسرعة في عوائد السعوديين وشركة الطيران السعودية، لا بسبب الرحلات بين البلدين فحسب وإنما بسبب فقدان الاعتماد على محطات انتشار الخطوط القطرية في محطاتها المنتشرة بكثافة بجميع أنحاء العالم، وهكذا فقد المواطن السعودي مزايا ناقل جوي متميز كان قد تعوّد على الاعتماد عليه.

وقل مثل هذا في كل ما أحدثته سياسة المقاطعة في التأثير الباتر لأسواق الإمارات التقليدية المغذية للسوق القطري. وعلى سبيل المثال؛ فإن قطر كانت تستورد 90% من مستلزمات الفنادق من الإمارات أو عبر الإمارات، فأصبحت تستوردها بنفس القيمة تقريبا من الكويت أو عمان.

ولم يعد من الممكن للمورِّد الإماراتي -حتى بعد انتهاء الحصار- أن يعود إلى الاستحواذ على السوق القطري، إلا إذا قدم عروضا سعرية تنتقص من عوائده، وحتى في هذه الحالة فإن سياسة الاعتماد الكلي أو المطلق على التوريد الإماراتي لم يعد لها أي محل من الإعراب، حتى ولو حدثت وحدة اندماجية بين القُطرين.

ومن المتفق عليه أن الشق التجاري في هذا الموضوع ليس بشيء ذي بال، لكنه يعبّر تعبيرا مباشرا -بل وسطحي الظهور- عن الشرخ العميق الذي نشأ عن مساوئ فكرة البدء المباغت في الحصار اللاإنساني.

العامل الثالث هو أصعب العوامل وأخطرها شأنا، ويتعلق بالتوجهات السياسية والدينية التي تعرضت -بسبب ممارسات الحصار وروحه- لاختبارات قاسية، لم تكن واردة إطلاقا في حسبان المخططين؛ فإذا بهذه الاختبارات الفاصلة تتسابق لتفرض نفسها على أرض الواقع.

تجلى الاختبار الأول من هذه الاختبارات الفاصلة في الشرخ الكبير الذي أصيبت به الصورة الذهنية المرتبطة بتمسك النظام السعودي بقيم الدين الإسلامي في معاملة الأخ وذي القربي والجار، وقد تنامى هذا الشرخ -الذي بدا مفاجئا لأصحابه- من إلحاح النظام السعودي على مؤسسته الدينية لتنحاز في خطاب دعوي/سياسي ضد قطر، وهو ما وجده العلماء للوهلة الأولى بمثابة توجه غير مبرر دينيا ولا دعويا.

ومن ثم فقد ظهر في تصرف غالبتهم أنهم أحسوا بالحرج تجاه مبادرة اثنين من قياداتهم بالتصريح بالانحياز ضد قطر في أدعية تعبّر عن رغبات دنيوية؛ فآثروا اللجوء إلى الصمت في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تلحّ عليهم لتحصل على أي تسويغ مباشر أو غير مباشر للحصار، وإذا بهذا التسويغ يواجه أزمة شعورية حين تكرر التعبير عنه على نحو غير مباشر، ومرتبط بفكرة ارتباط المثوبة الإلهية بطاعة ولي الأمر.

وإذا بهذه الأزمة الشعورية تجلب على السياسة السعودية كل نقمة ممكنة، وتهز صورة رموزها بل وتنتقص من صورة تاريخها نفسه، وخاصة أن المتلقين سرعان ما اكتشفوا أن هذا الخطاب الديني الرسمي صدر بالتحريض المباشر، لا بالدعوة إلى كلمة سواء أو إلى مشاعر صفاء.

وإذا كان هذا الاختبار الأول قد بلور خطورة ما أدى إليه الحصار الظالم من الافتراق بين التوجه الرسمي والجذور الدينية، التي حافظت السلطة السعودية على صورتها عقودا عديدة، فقد تجلى الاختبار الثاني -بصورة أخطر وأكثر صراحة- في انقطاع التواصل مع الوطنية. فقد كانت التجاوزات المنطقية والعقلية في الخطاب السياسي لكثير من مسؤولي دول الحصار مزعجة لعقيدة شعوبهم في قضية العرب الأولى ومجمل تاريخهم المعاصر.

زاد من حرج موقف دول الحصار ما حدث على الجانب الآخر من أن عددا من الأقلام المحسوبة على إسرائيل وعلى حكومتها وجدت نفسها -بحكم "الغريزة الغالبة"- منساقة إلى التهليل للحصار الجائر، وتأييد هدفه الإستراتيجي الموجه ضد حماس وتبريره، مما أسهم -لحسن حظ قطر- في إسقاط الدعاوى الممجوجة التي طالما هوجمت بها قطر

ومع أن الأقلام البارزة في صحف هذه الدول كانت تؤيد سياسة الحصار على طول الخط؛ فإنها -بكل ما أوتيت من قدرة على التحوير والتلوّن- وجدت صعوبة بالغة في تبرير ما سُمي بالتحول الانقلابي في وصف طبيعة حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، والاندفاع غير المبرر إلى وصف هذه الحركة بالإرهابية، في الوقت الذي كانت قياداتها تتباحث في القاهرة نفسها مع ممثلي السلطة الانقلابية.

وزاد من حرج موقف دول الحصار ما حدث على الجانب الآخر من أن عددا من الأقلام المحسوبة على إسرائيل وعلى حكومتها وجدت نفسها -بحكم "الغريزة الغالبة"- منساقة إلى التهليل للحصار الجائر، وتأييد هدفه الإستراتيجي الموجه ضد حماس وتبريره، مما أسهم -لحسن حظ قطر- في إسقاط الدعاوى الممجوجة التي طالما هوجمت بها قطر، بسبب انفتاحها الإعلامي والعقلي الذكي والمبكر على جميع الجبهات بما فيها إسرائيل.

أما الاختبار الثالث -الذي أظهر هزيمة دول الحصار أمام نفسها وأمام العالم- فقد بلور النجاح بين التقدم الوئيد المصحوب بالارتقاء والنمو المطّرد العاجز عن إحداث تغيير حضاري، أو بين قطر من ناحية ودول الحصار الثرية من ناحية أخرى؛ فقد كشفت المطالبات الرسمية المعلنة -رغم تحويراتها- عن عنصر من عناصر العلاقة كان كامنا أو دفينا، وهو إحساس حكومات الحصار بالغيرة من قمة وقيمة الثقة التي تحظي بها قطر فيما بين الحكام والمحكومين.

وقد وصل أمر الضيق من هذا التفوق القطري الساحق إلى التصريح شبه الرسمي بأن قطر تمنح مواطنيها ومقيميها من الامتيازات ما يسبب الحرج لدول الحصار مع شعوبها وضيوفها ومنسوبيها، ولأن القطريين كانوا قد وصلوا إلى مرحلة التشبع في ثقتهم بحكومتهم فإن الأثر المباشر جاء بالسلب على دول الحصار.

وبدأت سلسلة من الأحاديث غير الهامسة داخل دول الحصار عن مدى عدالة سياسات توزيع الدخل المأخوذ بها، وحقيقة السفه في الإنفاق الحكومي وحجم الفساد في تصرفات الدولة.

وقد بلغ التحمس لهذه القضايا حدا خطرا على التماسك الاجتماعي في دول الحصار، وهو ما عبّر عنه التوجه الجماهيري في السعودية تجاه قرارات 4 نوفمبر/تشرين الثاني التي استُقبلت بالتساؤل المشروع عما إن كانت مكافحة الفساد ستقتصر على هؤلاء السياسيين بالذات أم أنها ستمضي في الطريق العريض الذي لم يكن مطروقا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.