القرن الأفريقي.. سباق دولي محموم لأجل النفوذ

In this photo taken Wednesday, Dec. 18, 2013 and released by the U.S. Air Force, U.S. Army soldiers of the East Africa Response Force (EARF), a Djibouti-based joint team assigned to Combined Joint Task Force-Horn of Africa, prepare to load onto a U.S. Air Force C-130 Hercules at Camp Lemonnier, Djibouti, to support with an ordered departure of personnel from Juba, South Sudan. Gunfire hit three U.S. military CV-22 Osprey aircraft Saturday, Dec. 21, 2013 trying to evacuate American citizens in Bor, the capital of the remote region of Jonglei state in South Sudan, that on Saturday became a battle ground between South Sudan's military and renegade troops, officials said, with four U.S. service members wounded in the attack. (AP Photo/U.S. Air Force, Tech. Sgt. Micah Theurich)

دواعي الاهتمام الدولي
سباق لملء الفراغ 

مما لا شكّ فيه أن منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية إستراتيجية كبرى جغرافيّاً واقتصادياً وعسكرياً؛ فمن حيث الجغرافيا تطل دول القرن الأفريقي على البحر الأحمر. وبعضها (مثل جيبوتي وإريتريا) تقع عند مضيق باب المندب الذي يفصل بين البحر الأحمر وبحر العرب.

كما تطل الصومال على هذا المضيق عبر مئات الكيلومترات من ساحلها على خليج عدن، وبالتالي تشرف على السفن العابرة من مدخل المضيق.

دواعي الاهتمام الدولي
ويجمع الخبراء على أنّ أهمية باب المندب -وهو مدخل البحر الأحمر المتصل بالبحر المتوسط عبر قناة السويس- لا تقل إستراتيجياً واقتصادياً عن أهمية مضيق هرمز، الذي يعد شريان العبور بين بحر العرب ودول الخليج العربية وإيران والعراق، ودول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر -ابتداءً من الصومال- وصولاً إلى مصر، ومروراً بجيبوتي والسودان.

وهذه الدول تعتبر غاية في الفقر، وبالتالي فإن ضعف القدرات العسكرية وقدرات الدولة عموماً يجعل شواطئها مقصداً للمهربين، ومياهها مرتعاً للقراصنة.

يجمع الخبراء على أنّ أهمية باب المندب -وهو مدخل البحر الأحمر المتصل بالبحر المتوسط عبر قناة السويس- لا تقل إستراتيجياً واقتصادياً عن أهمية مضيق هرمز، الذي يعد شريان العبور بين بحر العرب ودول الخليج العربية وإيران والعراق، ودول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر -ابتداءً من الصومال- وصولاً إلى مصر، ومروراً بجيبوتي والسودان

فدولة الصومال مثلاً -التي تفوق مساحتها 60 ضعفاً مساحة لبنان 637657 كلم2، وسواحلها يبلغ طولها 3700 كلم ثلثها يطل على خليج عدن- تغرق في الحرب الأهلية والاضطرابات منذ عقود، ولا يتجاوز عديد جيشها خمسة آلاف.

وليس السودان أفضل حالا وهو المترامي الأطراف، فقد خسر جنوبه بالانفصال وما زال يعاني من "ورم" أمني اسمه "دارفور" أوكِل أمره لقوات "اليونيميد" (UNAMID) المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.

ونظراً لهذا الواقع الجغرافي ثم الفراغ العسكري والأمني الآنف الذكر، كان من الطبيعي أن تنفتح شهية الدول الكبرى لإثبات الوجود وبسط النفوذ. وذلك بداية بالولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت -بعد حرب الخليج الثانية– تُولي القرن الأفريقي أهمية جيوسياسية إستراتيجية كبرى.

وتجلى اهتمام واشنطن -التي تتمسك بمقولة "الربط بين الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة النفطية" وحصلت بذلك على قدرة مضافة للتحكم في منابع الطاقة- بالمنطقة أكثر منذ أواخر القرن الماضي.

وخاصة بعد تخلي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا -طوعاً أو قسراً- عن هذه المنطقة التي كانت تاريخياً مجالا لنفوذها بالتقاسم، وبعد أن بدأ التغلغل الصيني في أفريقيا عامة والقرن الأفريقي خاصة.

ولا يمكن فصل أهمية منطقة القرن الأفريقي عن أهميّة المنطقة التي تعتبر امتداداً لها غرباً وشمالاً، وهي منطقة حوض النيل التي تشمل إثيوبيا وأوغندا والكونغو ومصر. وقد رأت فيها إسرائيل مجالاً حيويّاً مميّزاً فاحتلت الصفحات الأولى في كتاب إستراتيجيتها الجيوسياسية؛ وعملت على التغلغل فيها على الصُّعد الاقتصادية والسياسية والأمنية، دون التورط في وجود عسكري ظاهر.

تعاظمت أهميّة القرن الأفريقي في السنتين الماضيتين بعد إطلاق عملية "عاصفة الحزم" باليمن من قوات التحالف العربي بقيادة السعودية، بذريعة التصدّي لتوسع النفوذ الإيراني. وتقاطع ذلك مع مصالح مجموعة من الدول (أميركا وإسرائيل وبعض دول الخليج)، لمواجهة الخطر الذي يمثله النفوذ الإيراني مستقبلاً على نفوذها ومصالحها.

أما الصين التي بدأت تظهر على الشاشة الجيوسياسية الدولية بشكل مطّرد منذ حوالي ثلاثة عقود، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990؛ فقد اعتبرت قارة أفريقيا بأسرها هدفاً مستقبلياً مهماً لها، ودخلتها بداية من باب الاقتصاد والإعمار ثم لاحقا الاستثمار.

فهذه القارة هي الثانية في العالم بلغة الأرقام من حيث المساحة وعدد السكان (تضم 54 دولة)، وكانت -حتى ما بعد منتصف القرن الماضي- منطقة نفوذ حصري أساسا بين بريطانيا وفرنسا. وشهدت أحداثاً جساماً وحروباً أهلية أسفرت عن وراثة أميركا للنفوذ البريطاني، وسعيها إلى تقليص الوجود الفرنسي.

ولذا رأت الصين أنّ أفريقيا جديرة بالاهتمام لكونها تمتلك ثروات طبيعية هائلة، 22% من احتياطي الغاز والنفط في العالم، و25% من احتياطي الذهب، و80% من البلاتين، إضافة إلى نحو نصف احتياطي العالم من الألماس… إلخ.

سباق لملء الفراغ
ولكون منطقة القرن الأفريقي هي الرئة التي تتنفس منها أفريقيا شرقاً، ولأهميّة موقعها التي مرّ ذكرها؛ فقد رأت الصين -وكذلك تركيا– ضرورة الإسراع بملء الفراغ فيها. وعلى قاعدة المبدأ الأميركي القائل إن "من يَصل أولاً يُخدم أولاً" (First Come First Serve)؛ بدأت بكين تبني قاعدة بحرية في جيبوتي بحجة مكافحة القرصنة وضمان أمن باب المندب.

وتركيا التي شهدت في العامين الأخيرين تغييرات درامية في تحالفاتها، وبالتالي في إستراتيجيتها؛ رأت أن ثمة تكاملاً وترابطاً لا بدّ من تحقيقه بين إرساء نفوذها السياسي والعسكري في القرن الأفريقي وتعزيزه في دول الخليج.

الأزمة الخليجية الأخيرة -وقبلها حرب اليمن- أطلقت معركة نفوذ تقدّمت فيها دولة الإمارات التي أسرعت بالسيطرة على ميناء عدن المقابل للقرن الأفريقي، وإقامة قاعدة عسكرية شمال ميناء "عصب" في إريتريا وكذلك منشأة بحرية، ممّا أدّى إلى قلق إثيوبيا التي أعلنت حيادها إثر اندلاع الأزمة الخليجية، خاصة أن تجارتها تمرّ عبر ميناء جيبوتي الذي تديره "شركة موانئ دبي"

فبعد توسيع القاعدة العسكرية التركية في قطر إثر أزمة الخليج الأخيرة، افتتحت أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها جنوب العاصمة الصومالية مقديشو، لتدريب عشرة آلاف جندي صومالي.

وسيساعدها ذلك ليس فقط في تعزيز وجودها ونفوذها في القرن الأفريقي، وإنما أيضا في التقدم في مجال تسويق الصناعات العسكرية التركية بالشرق الأوسط وأفريقيا.

وبالعودة إلى الوجود العسكري الأميركي في شرق أفريقيا؛ تقول صحيفة واشنطن بوست إن أميركا تملك عدة قواعد عسكرية سريّة في دول القرن الأفريقي وجوارها.

ففي كينيا هنالك قاعدتا مومباسا ونابلوك البحريتان، وفي إثيوبيا توجد قاعدة أربا مينش الجوية للطائرات بدون طيار منذ عام 2011، ومهمتها الاستطلاع والتجسّس في شرق أفريقيا. إلا أنّ القاعدة الأميركية بجيبوتي هي الوحيدة المعلن عنها من واشنطن.

وبنظرة شاملة ومُمعنة إلى الخريطة الجيوسياسية لهذه المنطقة؛ نجد أن الفراغ العسكري المصري في القرن الأفريقي -الذي كان آخر تجلياته التخلي عن جزيرتيْ تيران وصنافير للسعودية- سمح للدول المعنية بالأمر بتوسيع انتشارها هناك دون عوائق.

فرغم الأهميّة القصوى التي تمثلها هذه المنطقة لمصر، ولا سيّما في المحاور الأساسية لأمنها القومي والمائي والاقتصادي؛ فإن القاهرة ابتعدت عسكرياً عن الحضور فيها، على الأقل حتى الآن.

إلا أنّ اتساع رقعة الخلاف بين مصر وكل من إثيوبيا (قضية سد النهضة) والسودان حول حوض النيل، يشي بضرورة إعادة تقييم للموقف المصري عاجلاً أم آجلاً.

صحيح أنّ لكل دولة من الدول الآنفة الذكر مصالحها وطموحاتها وتطلعاتها وبالتالي "أجندتها"، إلا أنّ الأهداف الإستراتيجية تتلاقى وتتقارب ومن ثم تتضارب.

فالوجود العسكري يضمن حماية المصالح السياسية والاقتصادية عبر النفوذ لدى السلطة الحاكمة في كل هذه الدول، ولدى جيشها وأجهزتها الأمنية. إنها "لعبة شطرنج" جيوسياسية و"طاولتها" القرن الأفريقي، كما ورد في دراسة لمعهد جيمس بيكر للسياسة العامة.

فالأزمة الخليجية -وقبلها حرب اليمن– أطلقت معركة نفوذ تقدّمت فيها دولة الإمارات التي أسرعت بالسيطرة على ميناء عدن المقابل للقرن الأفريقي، وإقامة قاعدة عسكرية شمال ميناء "عصب" في إريتريا وكذلك منشأة بحرية، ممّا أدّى إلى قلق إثيوبيا التي أعلنت حيادها إثر اندلاع الأزمة الخليجية، خاصة أن تجارتها تمرّ عبر ميناء جيبوتي الذي تديره "شركة موانئ دبي".

إنّ هذا الوجود العسكري المزدحم والمتسابق ليس مؤقتا كما يقدّره المراقبون، وقد يدفع المنطقة إلى توترات وتطورات غير محسوبة. حيث تتقارب المصالح وتتداخل "الأجندات"، وهذا ما كشفته الأزمة الخليجية وحصار دولة قطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.